رابعة.. مكان توقف فيه الزمان برهة من العمر في رمضان حيث الصيام مع الحر الشديد والصمود، لن تقدر تلك الكلمات البسيطة أن تصفها؛ شموخ وعزة وثبات فئة آمنوا بربهم فزادهم هدى. إنهم أهل رابعة الذين اختارهم الله لهذه اللحظة، فكانت كما يقول د. جمال عبد الستار في كتابه (شهادتي على ميلاد أمة في رابعة الصمود) “كانت رابعة اختيارا ربانيا في كل شيء؛ في زمانها ومكانها وهيئتها وطريقتها وبدايتها ونهايتها” ا.هــ.
رابعة .. معركة بين نفوس زكية رضيت بالله ربا وحكما ليحكم بين العباد ويأخذهم من الضلال إلى الرشاد، لتنعم مصر بالحرية وتنجو من الفساد، وبين نفوس دنيئة كفرت بأنعم الله فباعوا دينهم بدنيا لا بقاء لها, بل باعوا دينهم بدنيا غيرهم, خسروا الدنيا والآخرة.
رابعة.. معركة بين مشروع حضاري واعد يدعو للريادة والحرية لهذه الأمة, وصل باختيار الناس, ومشروعٍ متخلفٍ عشنا فيه عصور التبعية والاستعباد لينقلب على الشرعية. فكانت رابعة لتؤكد بقاء سنة الله الخالدة أن المعركة بين الحق والباطل أصيلة وحتمية.
رابعة.. رمز لصمود أهل الحق الذي هو باقٍ إلى قيام الساعة لتنقلنا بسرعة من عصرنا إلى عصور مضت بذل فيها الأوائل الأخيار, وضحوا, ولقوا فيها من الأذى والتنكيل على يد من خسروا أنفسهم وانتكسوا ونكصوا على أعقابهم، فعادت بنا رابعة إلى عصر نبي الله إبراهيم حين أُلقيَّ في النار, وإلى عصر نبي الله يوسف حين أُلقيَّ في السجن, وإلى عصر أصحاب الأخدود وغلامهم إذِ النارِ ذات الوقود،عادت بنا رابعة إلى عصر نبي الله زكريا حين قتل على يد الإجرام، وعادت بنا إلى عصر النبوة حيث محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الأبرار، خير جيل وطأت الأرض أقدامه، حين كُذِّبوا وأوذوا وافترى عليهم المجرمون فكان ما كان من بلال وخباب وآل ياسر من ثبات حيث تُوزِع العذاب على الشاب والشيخ والمرأة، وهكذا فُض المجرمون رابعة من أهلها من الشباب والشيوخ والنساء حيث قتل أكثر من 3000 شهيد بالحرق وبالقتل وبالسجن وبالدهس بالجرافات، عندئذ بدأ تاريخ جديد ويُكتب حتى الآن بمداد دم الأطهار الثابتين في شوارع مصر الذين لم ينسوا رابعة ولن ينسوها بإذن الله, فبقوا صامدين حتى كلماتي هذه .
رابعة.. عادت لتذكرنا بعهود المجرمين الغابرة كالنمرود وفرعون وقارون وهامان وأبو جهل, جنودهم سواء بسواء من الذين اتُبِعوا أو من الذين اتَبَعوا وكلاهم من المجرمين الذين كرهوا الحق وانقلبوا عليه. البشرية منهم براء سواء من أمر ومن نفذ فكلهم مجرمون، وسيأتي اليوم الذي يتبرأ فيه بعضهم من بعض قال تعالى(قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم ۖ بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ (32) سبأ.. وسيصرخ هؤلاء المجرمون لمالك خازن جهنم (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ۖ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) الزخرف
رابعة.. تُكرر تاريخٍ مضى قرأنا عنه كثيرا وسمعنا عنه من قبل من رموز التضحية والفداء السالفين، وكنا حين نقرأه نقول لو أني لكنت!! وفجأة عايشناه ورأيناه رأي العين فظهرت حقيقة الجميع واضحة وأصبحت رابعة حجة على من عاصرها وكذّب بالحق وركن إلى الباطل. بقيت رابعة لمن ثبت وأدى ووفى, حجة له, ومن تخلى ومن ركن إلى المجرمين الظالمين حجة عليه . وبرغم ذلك فالله يعطي الفرصة تلو الفرصة ليتوب ويعود من ضل وغُرر به ( لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ) الأنفال
فكان التمحيص على كل المستويات؛ الأفراد والجماعات والمجتمع حتى الدول (الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3). العنكبوت. ولا يزال الاختبار باقيا والتمايز على أشده ليميز الله الخبيث من الطيب (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) آل عمران .
لذا تعلمت من رابعة
أن الاجتباء والاصطفاء من الله ليس بكثرة عمل أو بغزير علمٍ, ولقد رأينا من قيل عنهم علماء وشيوخ، منهم من ركن إلى المجرمين ومنهم من خان وبدل ومنهم من سكت، فكان الاجتباء لمن أخلص لله ذاكرا لله في كل حاله، مدافعا عن الحق باذلا طيلة حياته السابقة الوقت والجهد ومن ماله في سبيل رفعة الحق، فكان هذا رصيده مع الله والذي به اختير واجتبيَّ .قال تعالى ( إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.(140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ( 141 ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) آل عمران.
وبعد رابعة
وحتى اللحظة بقي السؤال الذي أسأله لنفسي دائما: لماذا أبقاني الله؟ ولم أكن من هؤلاء المصطفين الأخيار(أحسبهم كذلك ولا أزكي على الله أحدا) فقد اتخذ الله منهم الشهيد والسجين والمطارد ومن أهليهم الصابرين المحتسبين. ونسأل الله العفو العافية. فلماذا لم أكن منهم؟ ربما لخلل لابد من معالجته لذا فرصيدي لا يسمح! أو ربما لتستمر حياتي في سبيل الله وأسأل الله أن تكون كذلك, وهو اختبار أصعب. أم ماذا؟ فاللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، وافتح لنا فتحا مبينا وأهدنا صراطا مستقيما وانصرنا نصرا عزيزا, تشف به صدور قوم مؤمنين رأوا وعايشوا أبشع مذبحة حدثت في تاريخ مصر الحديث مضى عليها أكثر من 1000يوم ارتكبها مجرمو الانقلاب في مصر؛ إنها (رابعة الصمود) ولينصرن الله من ينصره.. والله غالب على أمره.