في علم السياسة, هناك رجل الفكر ورجل الممارسة, وقلما يجتمعان في شخصية واحدة. أحمد داود أوغلو, رئيس وزراء تركيا المستقيل حاول أن يقوم بهذا الدور المزدوج, لكنه آثر الانسحاب بحب وكرامة وتقدير لنفسه ولحزب العدالة والتنمية الذي ترأسه. فهل انسحاب أوغلو دليل على فشله؟
“علامات أونلاين” سعى لجمع بعض الآراء التي كتبت أمس واليوم حول المسألة:
كتب هيثم كحيلي يقول: هناك قصة سربت في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، بالتحديد ليلة أول مؤتمر عام لحزب العدالة والتنمية برئاسة أحمد داود أوغلو، عن كواليس خلاف حاد دار ليلتها بين داود أوغلو والرئيس رجب طيب أردوغان.
تقول القصة إن داود أوغلو اعتقد أن رجب طيب أردوغان يقوم فعلا بدور رئيس الجمهورية الذي يقف على مسافة واحدة من كل الأحزاب، فقام بتحضير قوائم المؤسسات التي سيطلب من المؤتمرين أن يصادقوا عليها بمفرده دون أن يستشير أردوغان أو “رجال” أردوغان، وهو ما أثار غضب الرئيس ورجاله وجعلهم يتخذون خطوات عملية لتصحيح “سوء الفهم” الذي وقع فيه داود أوغلو.
وفي ساعات متأخرة من ليلة المؤتمر، بلغ داوود أوغلو حديث عن أن “بينالي يلدريم”، أحد أقوى رجال أردوغان داخل الحزب، جمع توقيعات الأغلبية المطلقة للمؤتمرين، وأعد العدة ليترشح لرئاسة الحزب، وبالتالي ليتولى بنفسه قيادة الحزب والحكومة عوضا عن داود أوغلو الذي كان أساسا يمر بفترة حرجة جدا بعد أن “خسر” أول انتخابات نيابية يخوضها الحزب بقيادته.
ما تنقله روايات عدة لهذه القصة، يفيد بأن داود أوغلو اتجه مباشرة للرئيس أردوغان ليسأله عن مدى صحة ما يثار وعن ما إذا كان هو المدبر الحقيقي لهذا “الانقلاب”، فكان رد أردوغان الصادم، في ما معناه، “نعم عندي علم بما يفعله يلديريم، كما عندي علم بما تفعله أنت، وبإمكانك أن تختار”.
نتيجة لقاء أوغلو/ أردوغان في تلك الليلة كانت واضحة في نتائج المؤتمر؛ حيث لم يترشح يلدريم، وانتخب المؤتمر هياكلَ سوادها الأعظم محسوب على أردوغان، وهو ما يعني أن أردوغان فرض زعامته على داود أوغلو، وأن داود أوغلو قبل بذلك.
الفارق بين زعيم الحزب ومدير الحزب
وكما أن هذه القصة تؤكد إصرار أردوغان على المحافظة على منصب “زعيم تركيا الأوحد” في هذه المرحلة، وقبول داود أوغلو بأن يكون مديرا للحزب وللحكومة وليس زعيما لهما، فإن قصصا أخرى أكثر صحة ووضوحا للعيان تؤكد نفس المعاني، مثل إيقاف داوود أوغلو لمفاوضات قصر دولما باهتشي مع الأكراد بعد رفض أردوغان لها، ومثل قصة رئيس جهاز الاستخبارات، هاكان فيدان، الذي استقال من منصبه وبدأ يتجهز لخوض الانتخابات التشريعية ولشغل منصب وزير الخارجية وفق اتفاق أبرمه مع داود أوغلو، ليقوم في نهاية المطاف بسحب استقالته وبالعودة لمنصبه نزول عند رغبة أردوغان.
هذه المواقف، ومواقف أخرى مختلفة في التفاصيل ومتطابقة في المعاني والرسائل، تؤكد أن داود أوغلو قبل مرارا بهذا الواقع الذي يستقيل اليوم بسببه، وبأنه قبل منذ البداية بأنه سيكون مديرا وليس رئيسا أو زعيما. وأما أردوغان، فقد كان واضحا منذ اليوم الأول بأنه ماض بجدية في تنفيذ وعوده أيام الانتخابات الرئاسية، أي تلك المتعلقة بالنظام السياسي الذي وعد قبل أن ينتخب بأن يجعله نظاما رئاسيا يكون فيه رئيس الجمهورية الرئيس الفعلي والوحيد للسلطة التنفيذية، ولا يكون الرئيس فيه مجبرا على التخلي عن انتمائه الحزبي.
اردوغان مصرٌ على الزعامة
بل إن أردوغان كان واضحا لدرجة أنه صرح في الصيف الماضي بأن عملية الانتقال من النظام البرلماني للنظام الرئاسي قد تمت عمليا وإجرائيا، وأن عملية الانتقال هذه لم يتبقى منها سوى أن يتم التنصيص عليها في دستور جديد.
ما ذُكر أعلاه لا يتضمن آراء أو تعليقات، وإنما هو نقل وانتقاء لتصريحات ووقائع شهدها المشهد السياسي التركي في الفترة التي تلت فوز أردوغان بانتخابات الرئاسة منذ حوالي سنتين، ولا أجدني في هذا منحازا لا لأردوغان الذي يؤمن بأن اقتسام رئاسة السلطة التنفيذية بين رأسين يكبل الدولة ويمنع ازدهارها، ولا لداود أوغلو الذي يريد أن يكون رئيسا فعليا حر الإرادة لكل من الحزب والحكومة تماما كما كان سلفه أردوغان.
وما يمكن أن أختم به كتعليق هو أن داود أوغلو أخطأ الطريق منذ البداية، فقد اختار السير مع أردوغان وهو يعلم نظرة أردوغان للنظام السياسي، ويعلم أن الحزب بقواعده وكوادره ومؤسساته لا يخرجون عن ما يشير به أردوغان ورجاله، ولا يرون زعيما في تركيا سِوى أردوغان، مهما كان اسم الشخص الذي يترأس الحزب.
ونظرا لأن أردوغان كان واضحا منذ اليوم الأول، ولأن داود أوغلو قبل بهذا الواقع منذ اليوم الأول؛ أعتقد أنه ليس من المناسب أن يحاول تغيير هذا الواقع في هذه اللحظة، وهنا لا أتحدث عن المشروعية الديمقراطية والقانونية لهذه المحاولة، ولكن عن واقع يقول بأنه سيفشل في صراعه هذا، لا لشيئ سوى أن الزعيم الحالي لتركيا هو أردوغان.
مع تقديري لكل الأسباب الأخرى التي قد تجعل داوود أوغلو ينسحب الآن، والتي قد تكون على درجة عالية من الجدية ولا تحتمل التأجيل، فإني أعتقد بأن بقاء أوغلو في الحكومة ومصابرته ومجادلته الهادئة لتلك المشاكل، ستكون أقل إضرارا بتركيا وبالشعب التركي وبالتجربة التركية وبكل الأطراف المتأثرة بالسياسات التركية.
وعن الزلزال المفاجئ كتب د. مصطفى حامد أوغلو: لا توجد عاصفة بدون مقدمات, ولا نار بدون دخان.
تصريحات أحمد داوودأوغلو البارحة في أقصر اجتماع للحزب، الذي لم يستمر سوى ثمان وعشرين دقيقة، ألمح فيها وبشكل عاطفي أنه سيرفض أي مقام وأي منصب حتى لا يجرح قلب أي شخص من أبناء العدالة والتنمية. كان هذا بمثابة اعلان صريح وواضح بأنني لن أكون في مكان إذا كنت غير مرحب ومرغوب بي.
أي أنه إعلان استقالة بشكل غير مباشر..
جواب رئيس الجمهورية لم يتأخر هو الآخر، وقال في لقاءه مع مخاتير المناطق بأنه على الانسان أن يعرف قيمة المنصب الذي هو به وأن يعرف قيمة الطريق الذي أوصله لهذا المقام .
أي أنا الذي جئت بك لهذا المنصب وأنا الذي أقيلك منه.
هذه التصريحات من الطرفين، كانت مؤشرا على كبر الشرخ الذي حصل ما بين الرئيس(الريس) والمعلم (الخوجا) وأنه لا بد من وضع حد سريع وعلاج عاجل، وهذا ماكان بالاجتماع العاجل بينهما لتتوالى التطورات السريعة من عقد الحزب لمؤتمر استثنائي، وأن داوودأوغلو لن يكون مرشحاً في هذا المؤتمر ليعلن نهاية حقبة من حياته السياسية التي وضع بصمته في كل مستوياتها، منذ أن كان مستشاراً للشؤون الخارجية للرئيس أردوغان حتى قيادته الحزب ورئاسة الوزراء.
ماهي العوامل التي أوصلت للزلزال المفاجئ؟
بداية لابد من القول إن العدالة والتنمية لم يكن خاليا من المشاكل والتجاذبات في كل مراحله الماضية، وهذه طبيعة الاحزاب الحية التي تتغير وتكبر وتحاول مجاراة كثير من الأحداث المتسارعة.
سبق أن أقيل نائب رئيس للوزراء ووزراء ونواب لرئيس الحزب ورؤساء بلديات وكثير من الاعضاء المهمين، وتم استبعاد وتهميش وإضعاف شخصيات أخرى.
لكن كل هذه الأمور كانت تحدث على مستوى أفراد وعلى فترات متباعدة, وقوة الحزب وتواجده بالحكم والسلطة وسيطرة وحاكمية رجب طيب أردوغان كانت تمنع هذه الخلافات والانسحابات من التأثير على الحزب ومستقبله وتفككه وتصدعه.
ولكن أيضا هذه المرة الوضع مختلف ولأول مرة يكون الأمر متعلقاً برئيس الوزراء الذي استطاع قيادة حزبه للفوز بالأغلبية وتشكيل الحكومة بمفرده. أهم هذه العوامل هي شخصية أردوغان الذي صرح منذ ترشحه لرئاسة الجمهورية بأنه سيكون رئيساً مختلفاً، أي أنه سيكون الحاكم الفعلي وليس مجرد موقع القرارات الصادرة من البرلمان, وهذا ما كان..
انتخاب رئيس المجهورية من قبل الشعب، جعل تركيا قيادة برأسين؛ رئيس ذو شخصية لا منافس لها منتخب من قبل الشعب مباشرة ، ومؤسس حزب العدالة والتنمية وثقله الذي لا يناقش على قاعدة الحزب واعضاءه .
وبين رئيس وزراء نجح في قيادة الحزب بأسلوبه المختلف عن سلفه، واستطاع أن يبني علاقات جيدة مع الغرب ومع معارضيه وألد اعداءه بأسلوبه المرن الاكاديمي السلس.
بداية الخلاف كانت أثناء ترشيحات الاعضاء لخوض الانتخابات وكان محور الخلاف هو ترشح رئيس دائرة المخابرات لخوض الانتخابات البرلمانية ومعارضة رئيس الجمهورية لذلك بشكل علني .
واستمرت بعد انتخابات يونيو/حزيران حيث كانت وجهة داوودأوغلو لتشكيل حكومة ائتلافية مع حزب الشعب الجمهوري ولكن كان للرئيس رأي آخر.
اصرار رئيس الجمهورية على إعادة الانتخابات والمخاطرة بخوضها من جديد وعدم تراجعه عن هذا القرار الذي أوصل العدالة والتنمية من جديد للحكم بأغلبية مطلقة. هذا الاصرار، وهذا النجاح أكد من جديد أن الزعيم الأول وصاحب القرار بدون منازع هو أردوغان .
الخلاف على تشكيل الحكومة وبعض الأسماء التي تم التوافق عليها فيما بعد ، ومهما قيل عن هذا الأمر من أنه طبيعي ويحصل دائما مع تشكيل كل حكومة، لكن الحالة مع الثنائي أردوغان وداوود أوغلو كان لها وقع آخر, انعكساته التي نعيشها اليوم.
لكن الذي فجر الخلاف بشكل علني، ربما هو سحب الصلاحية من رئيس الحزب بتعيين روؤساء المناطق والمدن والفروع للحزب، وحصرها بيد مجلس رئاسة الحزب، التي اعتبرها داوودأوغلو بمثابة انقلاب داخلي عليه.
داوودأوغلو قبل رئاسة الحزب وهو يدرك ويعلم قوة وشخصية أردوغان القيادية لكنه ربما توقع أنه يستطيع تحاشي التصادم, لكن علما يبدو أن هذا الشكل من القيادة لا يسلم من سلبياته حتى الأشخاص الذين ينتمون لمدرسة واحدة ويحملون نفس الفكر والعقيدة والمنهج.
المسافة الكبيرة بين النظرية والتطبيق
أما نهى خالد فكتبت تقول: لم يرُق الكرُسي أبدًا لأوغلو، فالرجل الذي عمل كمستشار لرئيس الوزراء أنذاك رجب طيب أردوغان قبل أن يتم تعيينه رسميًا وزيرًا للخارجية في 2009 وحتى 2014 حين قرر الحزب أن يتولى هو قيادته، يُعاني في موقعه الجديد الذي لم يتم فيه عامين كرئيس لوزراء الدولة الأثقل سياسيًا واقتصاديًا في الشرق الأوسط، وهي مُعاناة تنبع من المسافة الكبيرة التي اكتشفها بنفسه بين نظرياته “العثمانية الجديدة” كما تسمى، والتي حاول بها إعادة تركيا لموقعها السابق الذي تخلت عنه قبل مائة عام أو يزيد، وواقع الشرق الأوسط الذي تعقّد للغاية خلال قرن كنتيجة للاستعمار والديكتاتوريات العسكرية، وهي مسافة أزّمت من موقفه أولًا كأحد أبرز المسؤولين عن الملف الخارجي، وأعطته فكرة ربما عن صعوبة الانتقال بسلاسة ورشاقة بين النظرية والواقع.
لم تكن تلك هي معاناة داوود أوغلو الوحيدة، فالرجل الذي انتقل من أروقة الجامعات والكتب والورق إلى أروقة الخارجية التركية ودبلوماسيتها العريقة وعلاقاتها المتشعبة مع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، شهد بنفسه العالم الدارويني للسياسة التركية، وهي سمة ربما تعود لقرون طويلة قبل الجمهورية، فالخلافات لا تخفى على أحد بينه وبين أردوغان، الذي لا يرى بديلًا عن النظام الرئاسي المركزي لحماية إرادة الشعب من الدولة العميقة كما يسميها.
“لقد قال الشعب التركي لا للنظام الرئاسي،” هكذا صرح داوود أوغلو في يونيو المنصرم بعد خسارة حزب العدالة والتنمية لأغلبيته البرلمانية لأول مرة منذ صعوده للسلطة، فيما اعتبره البعض استغلالًا لتراجع رصيد أردوغان لإثبات موقفه المعارض لطموحات الرئيس، لكن الفيلسوف الذي تعرّف على عالم السلطة عن طريق صديقه القديم الرئيس السابق عبد الله جُل لم يكن متوقعًا أن ينجح في مصارعة معسكر أردوغان داخل الحزب، لا سيما وأن جُل نفسه لم ينجح في تلك المهمة، ولذا فإن أردوغان السياسي المخضرم، ولاعب الكرة السابق استطاع إدارة المشهد السياسي لصالحه ليخرج منتصرًا من انتخابات نوفمبر المبكرة، ويعيد التأكيد على طموحاته السياسية مسجلًا هدف التعادل لفريقه في أشهر قليلة.
كان الصدام قد بدأ بالفعل العام الماضي حين جرى اجتماع ساخن بين الرجلين بخصوص أعضاء الهيئة العُليا للحزب، والتي من المفترض أن يقوم رئيس الحزب بتعيينها، لكن داوود أوغلو الرئيس والذي أراد الدفع بأسماء مختلفة عن معسكر أردوغان، وجد نفسه ببساطة في “حارة سد” مع رئيس الحزب القديم، بل وصل الأمر إلى قيام وزير المواصلات، وذراع أردوغان الأيمن، بن علي يلدرم، بالإعلان عن طريق المقربين منه رغبته ترشيح نفسه كرئيس للحزب في “كونجرس” الحزب بدلًا من أوغلو.
لعبة سياسية مرهقة دخل فيها الفيلسوف وخسر بالطبع، ليوافق على قائمة أعضاء الهيئة العُليا التي كتبها أردوغان بنفسه والتي تضمنت أسماءً جديدة بالكُلية من معسكر الرئاسة، وأخرجت أسماءً ثقيلة لأول مرة كانت يومًا ما من مؤسسي الحزب، أبرزها نائب رئيس الوزراء بولنت أرِنتش والذي اختلف مع أردوغان هو الآخر حيال تناوله لتظاهرات جَزي بارك عام 2013، وحيال ملف النظام الرئاسي.
رُغم تلك الضغوطات حاول الفيلسوف أن يبقى في الكُرسي لعل وعسى يستطيع مجاراة اللعبة السياسية، لكن القشة التي قصمت ظهر البعير أتت منذ أيام، حين قرر حزب العدالة والتنمية سحب سُلطة تعيين قيادات الحزب الفرعية من رئيس الحزب، وهو أوغلو حاليًا، وإيكالها للهيئة العُليا التي انتقاها أردوغان، بعد أن ظلت تلك السُلطة لأربعة عشر عامًا في يد رئيس الحزب، وبينما قال المدافعون عن القرار بأن الحزب المؤسس عام 2001 كان في الأصل يمنح تلك السلطة للهيئة العُليا حتى قرر منحها بشكل غير اعتيادي لأردوغان، فإن الغالبية تعلم تمامًا أن توقيت سحب تلك السلطة الآن وثيق الصلة بالخلافات بين الرجلين.
بدون أي رفقاء سياسيين في الهيئة العُليا للحزب ولا بين صفوف قياداته الفرعية، وبينما تجرى حرب ضروس في جنوبي شرقي البلد، فإن الفيلسوف الذي يعتبر نفسه مسلمًا في المقام الأول، ويرى العروة العثمانية متعددة اللغات والهويات نموذجًا أمثل لتركيا، والذي قال عن نفسه يومًا بأنه يعتبر نفسه مصريًا في القاهرة وكُرديًا في ديار بكر ويونانيًا في أثينا وبوسنيًا في ساراييفو وسوريًا في دمشق، والذي كتب في ميثاق تركيا 2023 بوضوح أن الدستور الجديد لن يحتوي على كلمة “تركي” ليتجاوز بذلك فكرة تركيا كوطن للأتراك فقط ويجعلها وطنًا متعدد الأعراق، قد ضاق ذرعًا بمقعد السلطة اليوم بما يكفي ليرحل عنه.
لم يُرق له كرسي السياسة أو لعله هو الذي لم يرُق لعالم السياسيين، والذين لا يزال كثيرون منهم يدافعون عن مناصرة أردوغان، ويعتبرون أن الفيلسوف الوحيد في الحزب لا يمكن أن يدير دفة السياسة التركية مثلما يديرها أردوغان، وأن السفينة تحتاج لقبطان واحد قوي ومخضرم مثل أردوغان.
شخصيًا، لربما يكون داوود أوغلو، وزوجته كذلك وهي طبيبة نساء، ممنونًا بالخروج من السلطة ومتاعبها وزياراتها الرسمية ورحلاتها الطويلة والمتتالية، وعازمًا على العودة مرة أخرى لمقعد الأستاذ والكاتب ليتسنى له الكتابة عن تجربته في السلطة كفيلسوف في المقام الأول.
“لو لزم الأمر سأترك منصبي وأضحي بنفسي من أجل الحزب… ولن أسمح لتلك الحركة النقية والرجال الأنقياء القائمين عليها أن يحزنوا أبدًا وهم الأمل الوحيد للمقهورين في العالم… الليلة هي الإسراء والمعراج… لنتأمل جميعًا ونذكِّر أنفسنا…” بهذه الكلمات ودّع داوود أوغلو حزبه منذ يومين، وودع الحياة السياسية برمتها على الأرجح، وكل ما علينا انتظاره هو ما سيجود به قلمه في السنوات القادمة عن تجربته الفريدة في السُلطة التركية، والتغيّرات التي أحدثتها بالتأكيد في فلسفته ونظرياته.
احتكاك وتجاذب في أكثر من موقف
وكتب محمود عثمان يقول: ثمة تجاذبات ساخنة داخل حزب العدالة والتنمية كانت تتفاعل منذ فترة ليست بالقصيرة , بين طرفين داخل الحزب , طرف يمسك بزمام الأمور , يتلقى التعليمات والأوامر من الرئيس رجب طيب أردوغان بشكل مباشر, وطرف آخر أقل حجما وأضعف تأثيراً يلتف حول رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو , يعتبره زعيماً ناجحا ً لا بد أن يمارس صلاحياته كقائد للحزب ورئيس للوزراء كاملة غير منقوصة.
وقد شكلت الاستحقاقات الانتخابية التي تمت العام الماضي , وخصوصا عملية اختيار مرشحي الحزب للانتخابات البرلمانية التي أجريت في السابع من يونيو/حزيران العام المنصرم , ثم جرى إعادتها في 1 نوفمبر من العام نفسه, ساحة احتكاك وعامل تجاذب بين الرئيس أردوغان مؤسس الحزب الذي أصبح رئيسا للجمهورية, حيث لا يحق له بحسب الدستور التدخل في الحياة السياسية بشكل فعال بسبب حياديته التي ينص عليها الدستور, بله التدخل في الشؤون الداخلية لحزب سياسي , وبين أحمد داوود أوغلو رئيس الحزب ورئيس الوزراء الذي فاز برئاسة الحزب في استحقاقين انتخابيين, وقاد الحزب للفوز بأغلبية ساحقة فاجأت الجميع, وبالتالي يرى لنفسه الحق في ممارسة صلاحياته في قيادة الحزب وإدارة الدولة بشكل كامل ومستقل.
احتواء هادئ للأزمات
من الطبيعي أن تنعكس بعض تلك التجاذبات على قواعد الحزب, لكن في كل مرة يتم احتواؤها على مستوى القيادة دون أن تطفو إلى السطح أو تظهر للعلن, وذلك بسبب النضج السياسي لقيادة الحزب وكوادره أولا , ثم أدبيات الحزب ذي الخلفية الإسلامية المحافظة التي نجحت في الارتقاء بالعمل السياسي إلى درجة احتواء المشاكل داخل المؤسسة, والحيلولة دون خروج الخلافات البينية إلى العلن.
بهذه الطريقة تم تجاوز الأزمة مع الرئيس السابق الذي كان يعد ثاني شخصية في الحزب عبد الله جول , والأزمة مع رئيس البرلمان الأسبق ونائب رئيس الوزراء والناطق الرسمي باسم الحكومة بولنت أرينج , والأزمة مع علي باباجان نائب رئيس الوزراء السابق مهندس الاقتصاد التركي خلال تسلم حزب العدالة والتنمية مقاليد السلطة, وبالطريقة ذاتها تم إحالة شخصيات كبيرة مؤثرة, واستبدالها بكوادر شابة ودماء جديدة .. جميع هذه التغييرات تم تجاوزها دون ضجيج يذكر.
اللقاء الأخير!
مصادر مقربة من رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو أعلنت عن قراره بالاستقالة, بعد الاجتماع الأسبوعي الذي عقد هذا المساء بين رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو, واستمر ساعة وأربعين دقيقة, والذي تم تقديمه يوماً هذا الأسبوع إذ جرت العادة أن يتم اللقاء أيام الخميس, مما فتح المجال لتساؤلات كثيرة!.
من المؤكد أن سبب تقديم اللقاء يعود إلى رغبة كل منهما في تطويق الأمر كيلا يتحول إلى أزمة سياسية تؤذي مسيرة الحزب, وتضر باقتصاد تركيا الذي يمر بمرحلة حرجة حساسة, ورغم ذلك فقد أدت أحداث هذا اليوم إلى هبوط حاد في سعر صرف الليرة التركية بنسبة تقارب 6%.
أبرز نقاط الخلاف .. وأسباب الاستقالة
يمكن إجمال نقاط الخلاف في أربعة عناوين رئيسية هي:
أولا: التحول من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي:
من لدن تحولها إلى التعددية الحزبية عانت الحياة السياسية في تركيا من أمراض مزمنة سببها تدخل أطراف وقوى خارجة عنها, وقد مثلت الانقلابات العسكرية – التي أضحت شبه دورية تتكرر كل عقد من الزمان – نتيجة حتمية لتلك الحالة المرضية التي حالت دون نمو الديمقراطية ونضوجها.
وقد اعتبر الرئيس الراحل تورجوت أوزال – وكثيرون غيره – أن النظام البرلماني يفتح الباب على مصراعيه أمام تدخل القوى الداخلية والخارجية في الحياة السياسية, لذلك نادى بضرورة التحول للنظام الرئاسي أو نصف الرئاسي, وعمل من أجل ذلك, لكن ظروفه لم تمكنه من تحقيقه .
بعد أن حقق أردوغان نجاحاته المتتالية, وضع نصب عينيه مشروع التحول إلى النظام الرئاسي الذي يؤسس للاستقرار, ويغلق الباب في وجه تدخل القوى من خارج المؤسسة السياسية, ويقطع الطريق على مهندسي السياسة من بقايا الدولة العميقة.
شروط أردوغان في رئيس الحزب
وعند بحثه عمن يخلفه في قيادة الحزب, كان شرط أردوغان الأول هو التحول إلى النظام الرئاسي , والشرط الآخر هو مكافحة الكيان الموازي. هذان الشرطان اللذان رفض عبد الله جول قبولهما, وافق أحمد داوود أوغلو عليهما, ومن ثم قام أردوغان باختياره خلفاً له.
لكن داوود أوغلو فيما بعد لم يُبدِ حماساً كبيراً لمشروع التحول إلى النظام الرئاسي, ولم يقم بما يجب من أجل تسويقه, وإقناع المواطن بمزاياه, كما لم يجعله في سلم الأولويات, بل تركه بانتظار ظروف سياسية أكثر ملائمة .
ثانيا: الصراع مع جماعة فتح الله كولن/الكيان الموازي:
شكل تشبث أردوغان وإصراره على تحويل نظام الحكم في تركيا من برلماني إلى رئاسي محور الصدام مع جماعة فتح الله كولن, التي نجحت في النفوذ داخل مؤسسات الحكم, وسعت إلى الاستحواذ على الدولة ليس من خلال العمل السياسي بأساليبه المعروفة, بل عن طريق الهندسة السياسية الخفية, التي تمسك بيدها خيوط اللعبة دون أن تمارس السياسة.
ولأن النظام البرلماني أشد ملاءمة لنشاطها قياساً بالنظام الرئاسي الذي يحد من قابليتها على الحركة, ويشكل خطرا على مستقبلها, فقد انقلبت جماعة كولن على الشراكة الاستراتيجية مع حزب العدالة والتنمية التي استمرت قرابة تسع سنوات, فشكلت تحالفاً مع قوى المعارضة من بقايا الدولة العميقة, لتصبح رأس الحربة في الحرب على أردوغان, حيث قامت بتاريخ 17 و 25 ديسمبر عام 2013 بمحاولة انقلابية ضده بواسطة أذرعها الممتدة في سلك القضاء والشرطة .
لكن أردوغان بعد أن امتص الصدمة الأولى, شرع في حرب تصفية وتكسير عظام ضد الجماعة, بعد أن أدرجها في وثيقة الأمن الوطني كمنظمة إرهابية .
وأثناء بحثه عمن يخلفه في قيادة الحزب, كانت مكافحة جماعة كولن التي أطلق عليها اسم الكيان الموازي في مقدمة الشروط التي اشترطها أردوغان على خليفته, والذي وافق عليه أوغلو.
لكن المقربين من أردوغان بدؤوا يشتكون من تراخي داوود أوغلو, وتقاعسه وفتوره في مكافحة الكيان الموازي, الأمر الذي أغضب أردوغان .
ثالثا: قيادة الحزب:
يسعى أردوغان للإمساك بزمام الأمور داخل الحزب الذي أسسه بنفسه, واضعاً في الحسبان عاقبة حزب الوطن الأم, حيث سرعان ما أفلتت خيوطه من يد مؤسسه تورجوت أوزال بعد انتخابه رئيساً للجمهورية, ثم ضعف الحزب واضمحل مع مرور الزمان .
لذلك عمد أردوغان للامساك بخيوط الحزب بيده رغم جميع الانتقادات, لذلك شاهدنا نوعا من صراع اللوائح بين أردوغان وداوود أوغلو, حيث كان 70% من مرشحي نواب البرلمان لانتخابات السابع من يونيو/حزيران 2016 من اختيار أردوغان بينما حصل العكس تقريباً في الانتخابات التي تلتها, مما شكل حالة تنافس واستقطاب بين مؤيدي كل من الزعيمين .
لكن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت عملية سحب صلاحية تعيين رؤساء فروع الحزب في المحافظات من يد رئيس الحزب, من خلال التعديل الذي أقرته الهيئة المركزية لقيادة الحزب في اجتماعها الأخير, الأمر الذي اعتبره داوود أوغلو انقلاباً ضده.
رابعا: الثنائية في إدارة الدولة :
يعطي الدستور الحالي رئاسة السلطة التنفيذية لرئيس الوزراء, لكنه يمنح رئيس الجمهورية صلاحية مراقبة أعمال الحكومة, والتصديق على قوانين السلطة التشريعية الممثلة بالبرلمان, أي أن صلاحية الرئيس رقابية من جهة, لكنها واسعة جدا من جهة أخرى, حيث بإمكان الرئيس تعطيل ما يروق له من قوانين وقرارات, كما حدث مع الرئيس نجدت سيزر الذي أعاد للبرلمان أكثر من ثلاثة آلاف قانون خلال فترة رئاسته .
على الدوام شكلت صلاحيات رئيس الجمهورية محل نقاش, وعامل تجاذب بينه وبين الحكومة .. رأينا ذلك في العلاقة بين الرئيس سليمان ديميريل ورئيسة الوزراء تانسو جيلار, ونجدت سيزر والطيب أردوغان, وربما كان الرئيس عبد الله جول حالة فريدة في أدائه المتميز, الذي كان متوافقاً وموائماً وداعماً ومكملاً لدور الحكومة, وخصوصا في ميدان السياسة الخارجية .
الرئيس رجب طيب أردوغان له خصوصيته, من حيث كونه أول رئيس جمهورية منتخب من قبل الشعب مباشرة, وعلى هذا يستند في جميع تصرفاته وإجراءاته, ويتصرف وكأنه في نظام رئاسي .
هذه الحالة شكلت ازدواجية وثنائية في إدارة الدولة, فهناك الرئاسة التي استقطبت كوادر رئيسية, وبدأت تقوم بممارسة أعمال وصلاحيات السلطة التنفيذية, وهناك الحكومة ورئاسة الوزراء المنوط بها إدارة شؤون البلاد وفق دستور البلاد البرلماني .
الحق يقال فقد أبدى داوود أوغلو قدراً كبيراً من الحكمة والصبر, واستطاع تسيير أمور الحكومة والدولة دون أي مشاكل تذكر, مفسحاً المجال لرئيس الجمهورية أن يأخذ مجاله ومداه في القيادة والإدارة, لكن رغم ذلك فإن الثنائية في إدارة الدولة لا بد وأن تفرز آثاراً سلبية .
طبيعة المرحلة المقبلة
بعد قرار قيادة حزب العدالة والتنمية عقد مؤتمر استثنائي خلال الأسابيع المقبلة، من المتوقع أن يتم انعقاده في 21 مايو/ أيار الجاري، أو الأسبوع الذي يليه, على ألا يتأخر عن 6 يونيو/ حزيران المقبل الذي قد يصادف أول أيام شهر رمضان المبارك.
سيتم خلال المؤتمر الاستثنائي العام انتخاب رئيس جديد لحزب العدالة والتنمية. بعد أن يتم انتخاب رئيس جديد للحزب سيقوم رئيس الجمهورية بتكليفه بتشكيل حكومة جديدة, تعرض على البرلمان لنيل الثقة, ثم تبدأ في ممارسة أعمالها بعد ذلك.
من هم أقوى المرشحين؟
أعتقد أن الرئيس أردوغان لديه ثلاثة شروط أساسية يجب توفرها في الرئيس الجديد للحزب والحكومة:
الأول: أن يقبل العمل تحت جناح رئيس الجمهورية.
الثاني: أن يركز جهده على إقرار الدستور الجديد, الذي يؤمن الانتقال إلى النظام الجمهوري قبل حلول عام 2019 حيث استحقاق الانتخابات البرلمانية المقبلة .
الثالث: ألا يتهاون في تصفية الكيان الموازي, لأنها حرب وجود مصيرية .
تشير كواليس حزب العدالة والتنمية إلى ارتفاع حظوظ كل من “نعمان كورتلمش” نائب رئيس الوزراء الناطق باسم الحكومة , و “بن علي يلدرم” وزير الاتصالات , وهناك من يتلفظ اسم وزير العدال “بكير بوظ داغ ” .
لكن بالنظر للشروط أعلاه فإن المرشح الأقوى هو “بن علي يلدرم” أحد أهم المقربين للرئيس أردوغان منذ رئاسته لبلدية اسطنبول .
ماذا بعد؟
ما من شك بأن هناك قوى كثيرة داخل تركيا وخارجها تعول على حدوث انقسام وانشقاق في صفوف حزب العدالة والتنمية, وغير قليل من هؤلاء سيسعى لذلك بكل ما أوتى من قوة وجهد وإمكانات, لكن الكتلة الشعبية الصلبة التي تصطف خلف أردوغان مهما كانت الأحوال والظروف, ثم تماسك النواة الصلبة للحزب, إضافة إلى المزايا الشخصية للقيادات التي اختلفت مع أردوغان, تجعل احتمالية سيناريوهات الانشقاق والانقسام شبه معدومة, كما تجعل انتخاب رئيس جديد للحزب وتشكيل حكومة جديدة عملية سلسة سهلة شبه روتينية .
تركيا ماضية قدماً نحو اعتماد دستور جديد , ونظام حكم رئاسي جديد, بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان .