أنور الهواري يكتب: كيف نخرج من هنا؟

لو أن برنامج الحكم في السنوات الست المُقبلة 2024 – 2030 م هو ذات نفسه برنامج الحكم الذي جرى تطبيقه في السنوات العشر الماضية 2013 – 2023م فلا جديد يمكن توقعه أو التكهن به أو انتظاره، فحقبة السنوات العشر لم تكن غير حقيبة سوداء ضخمة كبيرة مرعبة مُخيفة نصفها قهر ونصفها فقر، فإذا جرت الأمور على استقامتها كما هو مرسوم لها فإن الأمر الوحيد الذي يمكن توقعه أو التكهن به هو زيادة معدلات القهر وزيادة معدلات الفقر بحيث يصل نطاق القهر في السنوات المقبلة لمن أفلتوا من مخالبه في السنوات الماضية، وكذلك يحيق الفقر في السنوات المقبلة بمن لم يقعوا في قبضته في السنوات الماضية، مع استمرار أساطير البذخ الإمبراطوري على منوال أحلام ألف ليلة وليلة من أضخم العواصم إلى أفخم القصور إلى أبهى المساجد إلى أعظم الكنائس الخ.

انتخابات الرئاسة 2024م انحسمت حسماً قاطعاً يوم تعديل الدستور في 22 إبريل 2019م. نعم: نتيجة الانتخابات محسومة- بيقين- قبلها بخمس سنوات، أي معلوم على وجه مُطمئن في ربيع 2019م من هو الذي سوف يشغل المنصب الأرفع في شتاء 2024م. ولا جديد في هذا، فهو تقليد متبع ومستقر منذ إعلان الجمهورية في 18 يونيو 1953م.

فلم يحدث على الإطلاق أن خاض الرئيس معركة استفتاء أو انتخاب على موقع الرئاسة إلا هو يعلم علم اليقين أن الأمر محسوم من قبل أن يبدأ، وأرقام النتائج موضوعة وتم اعتمادها من قبل أن يجري التصويت ومن قبل أن تُغلق صناديق الاقتراع وتوصد أبواب اللجان.

وذلك باستثناء الرئيسين نجيب ومرسي فكلاهما لم يكمل فترةً واحدةً ولم يترشح لثانية أو ثالثة، ولولا الموت المبكر لاستمر الرئيس عبدالناصر يفوز في كل استفتاء قبل أن يجري الاستفتاء حتى لو عاش مائة عام وبما أنه مولود في 1918 م لكان وارداً أن يستمر في موقعه – لو قدر الله له أن يعيش مائة عام – حتى 2018م أي حتى موعد آخر انتخابات رئاسية، ولولا الاغتيال الأثيم لاستفاد الرئيس السادات من التعديلات الدستورية التي أجراها قبل رحيله بأشهر قليلة وفتحت له الترشح لفترات رئاسية غير محدودة العدد، وكان الرئيس مبارك هو الذي استفاد بتعديلات السادات ولولا أنه كعبل نفسه بشبهة التوريث لنجله ولولا ثورة 25 يناير 2011م لكان بقي يتنقل – دون عوائق ذات شأن – من فترة رئاسية إلى أخرى حتى يوافيه قضاء الله.

وكانت نقطة النور الخاطفة التي أضاءتها ثورة 25 يناير 2011م في هذا البحر من ظلمات دولة 23 يوليو 1952م هو أنه – للمرة الأولى في ستين عاماً – تجري انتخابات رئاسية لا يكون معلوماً من الفائز فيها حتى لحظة إعلان النتائج بصورة رسمية، هذه هي ومضة النور العظيمة والملهمة التي أودعتها الثورة المجيدة في ضمير المستقبل لعلها تكون ذكرى ونبراساً وبوصلة للطريق الصحيح.

لكن كان الرئيس مبارك في آخر عهده قد عدل الدستور ليكون اختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب بين عدة مرشحين وليس استفتاءً على مرشح واحد فقط بنعم أو لا، التعديل كان جيداً لكن أفسده التطبيق العملي، حيث أرسى الرئيس مبارك نموذج الانتخابات المطبوخة وسابقة التغليف ومعلومة النتائج من قبل أن تبدأ، وذلك بأن تقوم البيروقراطية السيادية والأمنية والإدارية، كل منها بدورها، في اختيار المرشحين المنافسين وتقدير كم من الأصوات يكون لهم، وترتيب مساحات النقد المسموح لهم بها، وقد كانوا خليطاً من شخصيات من المعارضة الشرعية مع شخصيات من أشد المؤيدين لمبارك شخصياً.

هذا التقليد الذي أرساه مبارك والذي فرغ عملية الانتخابات من معناها الحقيقي وجعلها مجرد استفتاء لكن تحت غطاء الانتخاب، هذا التقليد تم اعتماده والعمل به في انتخابات الرئاسة 2014م حيث منافس وحيد من المعارضة الرسمية، ثم تكرر في انتخابات 2018م حيث منافس وحيد من أشد المؤيدين للرئيس، ثم سوف يتكرر في انتخابات 2024م.

……………………………………………………………………………….

سقط مبارك ثم مات لكن بقى تراثه السياسي في مفاصل وعظام ودماء وشرايين وتلافيف العقل الباطن والعميق لدولة الضباط، فعهده هو الأطول بين عهودهم وهو الأكثر تجذراً ليس في مؤسسات الدولة فقط لكن كذلك في نسيج المجتمع وتكتلات المصالح وبيروقراطية الدولة والثقافة العامة وفلسفة الحياة على وجه العموم، ولم تكن ثورة 25 يناير غير إضاءة خاطفة وفاصل قصير في التاريخ لم تصمد أمام كثافة التراث العميق لحقبة مبارك، انطفأت الإضاءة وانتهى الفاصل، وعادت الديكتاتورية من جديد مع حقبة 30 يونيو 2013م تستأنف مهمتها وتزاول نشاطها بهمة متجددة، لكن مع عدة ملاحظات.

1 – الأولى: أن ثورة يناير صاحبة الفضل في كسر قاعدة أن الضباط لا يترشحون إلا حيث تكون نتائج الاستفتاءات أو الانتخابات مضمونة سلفاً ومحفوظة في ركن أمين من جيوبهم وتجري بعلمهم وترتيبهم وتوجيهاتهم ويتم تفصيلها على مقاساتهم وذوقهم وحسب مصالحهم ومطامحهم، ثورة يناير كسرت هذه القاعدة، وترشح فيها اثنان من كبار الضباط، أولهما رُفضت أوراق ترشحه، والثاني دخل جولة الإعادة وكان من الوارد أن يفوز في انتخابات 2012م، هذا الضابطان استثناء في دولة الضباط على مدى سبعين عاماً ممن عمرها، من 1953 – 2023م.

2 – الثانية: أن اختيار الرئيس بنظام الاستفتاء بنعم أو لا كان نوعاً من الديكتاتورية الصريحة، أما اختيار الرئيس بنظام الانتخابات التي يختار فيها الرئيس منافسيه من المعارضين المستأنسين ومن المؤيدين المدلهين في حبه فهذه ديمقراطية فاسدة ومفسدة طمست فطرة الناس وشوهت الحقيقة وزيفت الواقع وشرعنت الكذب وقتلت المروءة وقننت الخطيئة وزلزلت المعايير، وهي من أسوأ ما في تراث مبارك، هي بعث وإحياء صريح للحالة الاجتماعية والثقافية والسياسية والأخلاقية التي جسدها نجيب محفوظ في شخصية محجوب عبد الدايم في رواية ” القاهرة الجديدة “، حيث يقرر الطرف المقهور – في لحظة ضعف تحت ظروف قاسية قاهرة – أن يضحي بكل قيمة أخلاقية في مقابل كسب مصلحة مادية. الخلاصة: ديكتاتورية الاستفتاء بما تنطوي عليه من وثنية سياسية كانت أشرف من انتخابات ليست أكثر من فساد وإفساد لكل قيمة سواء سياسية أو انسانية أو أخلاقية.

3 – الثالثة: تطورت مسألة انتخاب الرئيس في السنوات العشر 2013 – 2024م لتكون مجرد جبر خواطر، الشعب المقهور المفقور المغلوب على أمره يجبر خواطر حكامه فينتخبهم ثم يعيد انتخابهم المرة تلو المرة، وهذه أكبر عملية قلب للمعايير وللمنطق ولألف باء الأشياء، إذ المعلوم أن الأقوى والقاهر والغالب والأغنى هو من يجبر خواطر الضعفاء والمكسورين والمغلوبين والمقهورين، فهذه السنوات العشر 2013م – 2023م لم تكن غير حكم ديكتاتوري محض على نمط الاستبداد الشرقي القديم، حيث تم ركن الشعب فوق الرصيف و تجريده من قوته وتخييره بين الأمان والصمت، فاختار الناس الصمت لأجل الأمان، ورغم ذلك بقي الأمان بعيد المنال واستوطن الخوف قلوب المائة مليون مصري.

4 – الرابعة: فكرة أن الأضعف يجبر خاطر الأقوى وأن المقهور يجبر خاطر من يقهره هي انتكاسة فكرية عميقة ، إذ هي صياغة ظالمة تقر اختلال المعادلة السياسية التي يتم اختزالها في طرفين: الطرف الأول: حكم فردي مطلق يملك كل شيء بما في ذلك الحق في الصياغة النظرية للواقع الظالم وإضفاء نوع من القبول والرضائية عليه، إقرار من المظلوم أنه غير مظلوم أو – بالأحرى – لا يحس بالظلم الواقع عليه ولا يشعر بالضرر الذي يلحق به وليست له شكوى من ظالميه بل يكافئهم ويحنو عليهم ويلطف بهم ويتعطف عليهم ويجبر خاطرهم ويسمح لهم أن يحكموه في الغد كما حكموه بالأمس دون حتى مراجعة لأنفسهم وسياساتهم. ثم الطرف الثاني: شعب ارتفعت توقعاته إلى عنان السماء مع ثورة 25 يناير 2011م ثم حل محلها إحباط ثم إحباط ثم تشاؤم، فلا يتوقع الناس إلا ما هو أسوأ، وهذه الحالة تمكنت – بفعل القهر والفقر – فتحولت إلى عجز مطمئن مستقر، فلا مبادرة، ولا روح، ولا همة، ولا رد فعل، بحيث بات من الوارد أن نقهركم ثم نقول لكم شكراً أنتم جبرتم خواطرنا.

5 – بعد سبعين عاماً، من النظام الجمهوري، والنظام الرئاسي عبر الاستفتاءات أو الانتخابات، لم تعرف السياسة المصرية ديمقراطية حقيقية، إنما عرفت عدة نماذج للحكم الفردي المطلق، حيث الرئيس هو مصدر السيادة وليس الشعب، وحيث الرئيس يعلو فوق الدولة والشعب معاً، وحيث الرئيس نظرياً خاضع لسيادة القانون لكنه عملياً هو القانون ذاته، مساءلة الرئيس غير واردة كأنه ذو حيثية ألوهية تجعله يسأل ولا يُسأل عما يقول أو يفعل من صواب أو خطأ، هذه السنوات السبعون هي من وصلت بنا إلى هنا.

6 – نحن لم نصل إلى مأزقنا الراهن بين يوم وليلة، وصلنا على مراحل. 1 – مرحلة التسخين والتصدر للزعامة الإقليمية والدولية دون إمكانات في بلد خارج للتو من احتلال بريطاني اقترب من ثلاثة أرباع قرن وقد انتهت بهزيمة 1976م. 2 – مرحلة التبريد في الاتجاه المعاكس وقد انتهت باغتيال الرئيس السادات. 3 – ثم مرحلة التجريف في العمق وقد انتهت بثورة 25 يناير 2011م. 4 – ثم مرحلة إطفاء نور الشعب ونزع روحه وقتل روح المبادرة فيه ومازالت مستمرة. وخلاصة هذه المراحل الأربعة أن المصريين – في العموم – غير راضين عن أنفسهم ولا عن بلدهم، غير راضين بالمقارنة مع غيرهم من شعوب المنطقة، وغير راضين بمقارنة صورة مصر التي في خيالهم والتي في الواقع، حالة من عدم الرضا العام لا يستثنى منها الحكام أنفسهم، فهم في كل مناسبة يعبرون عن عدم رضاهم بالواقع الذي فيه البلد.

7 – نحن لن نخرج مما نحن فيه بين يوم وليلة، ولا بإحلال رئيس مكان الرئيس حتى لو بانتخابات حرة نزيهة نظيفة تعبر بالفعل عن إرادة الشعب، مأزقنا الرهان أعمق من أن يتم علاجه بين يوم وليلة، وأعمق من أن تحله انتخابات رئاسية حرة تأتي برئيس جديد. في الدول الطبيعية وفي النظم السياسية السليمة تكفي فكرة الانتخابات الدورية كل أربع أو خمس أو ست سنوات لإحداث التغيير والتجديد والإحلال المطلوب، بحيث يتم تنشيط المؤسسات وتغيير الدماء وإنعاش الأفكار وتحريك دولاب الدولة وقوى المجتمع خطوة إلى الأمام. عندنا الوضع مختلف، وباتت تحتاج التفكير في رؤى مختلفة.

8 – الأزمة عندنا ذات ثلاثة أبعاد.

1 – البعد الأقرب وهو نوع السياسات التي طُبقت في السنوات العشر 2013م – 2023م ويتوقع أن تستمر 2024 م – 2030م وهي سياسات تقوم على ركيزتين لا ثالث لهما: إدارة السياسة بالسجون وإدارة الاقتصاد بالديون، وقد أثمرت ما نحن فيه من إفلاسين مزدوجين: إفلاس سياسي ثم إفلاس اقتصادي، وكلاهما بلا حل في الأفق المنظور، لا الحكام عندهم حل ولا الشعب عنده حل، أقدار صعبة نزلت فوق رأس البلد وأهلها في عشر سنوات.

2 – البعد الأوسط و هو تراث دولة 23 يوليو 1952م وخلاصته أن السيادة في يد الجيش وليست في يد الشعب، ففي كل محطة فاصلة وعند كل مفترق طرق فإن الجيش هو من يقرر الوجهة ومن يختار الطريق ويرسم حدود ما يكون وما لا يكون، بما في ذلك محطة ثورة 25 يناير 2011م، فمن حسمها ضد التمديد لمبارك والتوريث لنجله هو الجيش، ثم انتخابات 2012م من رسمها وهندسها واستبعد من استبعد وقبل من قبل كان هو الجيش، الفاعل الحاسم من 23 يوليو 1952م حتى 25 يناير 2011م حتى 30 يونيو 2013م هو الجيش، يختلف دور الشعب من محطة إلى أخرى لكنه – في المجمل – هامشي في الحضور والثقل والتأثير في دفع عجلة الأحداث باستثناء الأيام الأربعة من 25 حتى 28 يناير 2011م، ثم من مغرب ذاك اليوم حتى كتابة هذه السطور والجيش هو سيد الموقف دون منازع والشعب على الهامش دون عزاء.

3 – ثم البعد الأعمق للأزمة يعود إلى جوهر الدولة الحديثة ذاتها منذ تأسست في النصف الأول من القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا، فالدولة الحديثة كانت ومازالت مشروع تسلط واستغلال تمارسه أقلية ضد الأغلبية تحت ستار الدولة والنظام والقانون والشرعية، وكان نصيب الشعب من هذه الدولة الحديثة في عهود محمد علي باشا وذريته من بعده، ثم الاستبعاد في عهود الرؤساء من ضباط الجيش.

9 – بهذا المعنى، فإن أزمتنا ليست سياسية فقط بحيث يمكن تجاوزها برئيس جديد وبرلمان جديد وحكومة جديدة، وليست مجرد أزمة اقتصادية يمكن حلها بتغيير وزراء الحقائب الاقتصادية، أزمتنا تتجاوز ذلك، أزمتنا أزمة وجودية في العمق ذاته، عمق الدولة، عمق المجتمع، عمق الشعب. الدولة المصرية – كخلاصة لمجموع الإمكانات والقدرات المصرية – تنتقل من سيء إلى أسوأ، صحيح لم تفقد قدرتها على فرض القانون وبسط الأمن والاستقرار في الداخل، وصحيح أن دولابها لم يتوقف عن العمل والدوران بانتظام وترتيب، وصحيح أن الشعب – كأمة مثقفة متحضرة – لم يفقد نزوع الامتثال للقانون واحترام النظام، لكن مخرجات كل ذلك أضعف وأوهن وأوهى من أن تضمن لمصر تفوقاً يرضى عنها شعبها ولا يضمن لها قوةً تستعيد لها موقعها القيادي بين العرب وفي الإقليم.

10 – السؤال المحوري: ليس الانتخابات، ولا من يكون الرئيس، لكن هو: كيف تخرج مصر من أزمتها الوجودية المعقدة؟ ثم كيف تعود مصر إلى موقعها القيادي بين العرب والإقليم؟ كيف تكون مصر نموذجاً ناجحاً في الاقتصاد والتنمية؟ كيف تعود الجامعات والمدارس والتعليم المصري ليكون القمة بين العرب؟ كيف تعود الصحافة والإعلام ومناخ الحريات ليكون المتفرد بين العرب؟ كيف يتمتع المواطن المصري بتعليم وصحة ودخل ومستوى معيشة وكرامة وعدالة ترفع رأسه بين مواطني باقي شعوب الأرض؟ كيف تضمن مصر مستقبلاً كريماً بين القوى ذات النفوذ في الإقليم: تركيا، إيران، إسرائيل، إثيوبيا، السعودية ودول الخليج الغنية؟

باختصار شديد: لم يعد السؤال من يكون الرئيس، وإنما كيف يأتي الرئيس إلى موقعه، ثم كيف يزاول مهام منصبه، ثم ما هي حدود صلاحياته، مقيدة بالدستور أم مطلقة بتراث دولة يوليو، ومتى يخرج من السلطة، وكيف يخرج من السلطة، وما حقوق الشعب في اختيار الرئيس ومراقبته ومساءلته ونقده ومعارضته بل ومحاكمته وعزله – بالدستور والقانون – عندما تقتضي المصالح الوطنية عزله، ما نوع السياسات الاقتصادية والاجتماعية المعتمدة لدفع الإنتاج وجذب الاستثمار وتشجيع الادخار وزيادة الدخل القومي والفردي، ما العقد الاجتماعي العادل الذي يوثق رابطة المصريين كشعب واحد متناسق منسجم رغم تعدد وتنوع واختلاف مكوناته، ما الذي يجعلنا أمة واحدة نتسابق في الدفاع عن هذا البلد ونتساوى في حق الاستمتاع بخيرات هذا البلد، كيف يكون هذا البلد للجميع وليس لفئة واحدة تخدمها فئتان أو ثلاثة ثم باقي الفئات على الأرصفة والهوامش ؟.

………………………………………………………………………………………

كتب السفير المثقف أيمن زين الدين يتساءل: “أين المفر حينما يكون استمرار الحال غير ممكن وتغييره – كذلك – غير ممكن”، ثم عقب عليه الإعلامي الشهير حافظ الميرازي بأن: “يكفي شرف محاولة التغيير مقارنةً بالاستمرار”، أما الكاتب الكبير عبد العظيم حماد فذهب في تعقيبه إلى القول: “هذا هو السؤال الشكسبيري”، ويقصد السؤال اللغز أو العقدة، حيث الاستمرار غير ممكن، وحيث التغيير غير ممكن.

ثم كتب الروائي القدير نعيم صبري ملخصاً عبقرياً في كلمتين اثنتين توجزان وصف المحنة المصرية الراهنة فقال: “مُنهكون وخائفون”، عبقرية الروائي المقتدر ألهمته هذين الوصفين الذين يشرحان قصة ما قد جرى في السنوات العشر 2013 – 2023م، حيث جرى إنهاك الشعب وتجريده من قوته ونزع العافية منه وإطفاء نوره وتثبيط همته وكسر عزيمته وإفقاده الثقة في ذاته وهذا معنى كلمة “مُنهكون”، ثم امتازت السنوات العشر بفوائض قمع وقهر وبطش اغتالت الشجاعة في الأنفس وأسكنت الرهبة في القلوب وعممت الخوف حتى صار قارب السلامة والنجاة من شرور السلطة وهذا معنى كلمة “خائفون”، عبارة “منهكون وخائفون” هي رواية عبقرية موجزة شاملة جامعة مانعة موحية ملهمة تنضاف لقائمة إبداع الروائي الكبير نعيم صبري المبدع الفنان الهادئ الرصين.

وكتب الباحث السياسي الأستاذ محمد راشد يقول: ” إيه أهمية أي إنجاز مزعوم، والناس مبقتش قادرة تشتري أساسيات الأكل، لنفسها ولعيالها “. مدونات التواصل الاجتماعي تسجل للتاريخ عمق الأزمة الوجودية التي تعيشها مصر في خاتمة الربع الأول من القرن الحادي والعشرين.

أوضاعنا الراهنة، محنتنا الراهنة، معضلتنا الوجودية الراهنة، يمكن إيجازها في نقطتين:

1 – الأولى: نحن محكومون بالقوة، بمنطق القوة، وإملاءات القوة، والقوة هي دستور نفسها، وهي قانون نفسها، وهي وسيلة نفسها، وهي غاية نفسها، وهي تبرر نفسها بنفسها، وهي تحمي نفسها بنفسها مهما يكن ثمن الحماية، ولا تسأل نفسها عما فعلت، ولا تسمح لكائن من يكون أن يسألها عما فعلت، هي قوة طليقة من القيود، بما في ذلك قيود المساءلة الضميرية الوجدانية الذاتية بما فيها خواطر الندم أو مشاعر الإحساس بالذنب أو تأنيب النفس.

فلم يحدث في التاريخ أن تم تهديد الشعب ووعيده بنشر القوات في مواجهته في ست ساعات إلا في هذه السنوات العشر، كذلك لم يحدث تهديد الشعب وتوعده بأن يتم تجهيز الآلات والمعدات لتنزل القرى لهدم بيوت المواطنين المخالفين لقوانين البناء إلا في هذه السنوات، كذلك لم يتم التوسع في بناء السجون وعمارتها بكل ذي رأي وفكر مختلف إلا في هذه المرحلة، هذه كلها وغيرها كانت رسائل قوة مفعمة بالرهبة والرعب، صدرت عن السلطة بوضوح شديد، وتلقاها الشعب بوضوح أشد، وكان هي النصف الأول من معادلة العقد الاجتماعي الذي أُديرت البلاد وفقاً له طوال السنوات العشر، هذا الطرف الأول من المعادلة هو حق السلطة في مزاولة القوة المطلقة دون قيود من الدستور أو القانون..

2 – الثانية: نحن شعب منزوع كامل الحقوق، سواء الحقوق السياسية أو الحقوق المدنية أو الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وعلينا أن نتحمل ما ينزل بنا من قهر، ثم نتحمل ما يزحف علينا من فقر، ثم نتسامى فوق محنتنا، ونغفر، وننسى، ثم نشكر الحكام، ثم نجبر خواطرهم، ثم نعيد انتخابهم، ليواصلوا – بكل إصرار وعزيمة – قهرنا وفقرنا ما داموا على قيد الحياة وما داموا قابضين على الزمام وممسكين باللجام وجالسين فوق الكراسي ومتربعين فوق القمة.

الدستور الحالي – صدر في يناير 2014م وتم تعديله في إبريل 2019م – يكفل في نصوصه جملة من الحقوق تجعله من دساتير العالم الديمقراطي المتحضر، حتى بعد تعديله تظل حقوق المواطنين محفوظة ومصونة كحبر على ورق، لكن الممارسة العملية حبست هذه الحقوق في المساحة شديدة الضيق بين مادة الحبر وملمس الورق، فقط توجد حقوق المصريين في هذه المسافة التي لا تُرى بالعين الطبيعية، أما في الفضاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي فلا حق إلا ما تسمح به السلطة أو ما هو من باب الضرورة الطبيعية مثل التنفس عبر الرئتين شهيقاً ثم زفيراً، أما التنفس السياسي أو التنفس الاقتصادي أو التنفس الاجتماعي فهو ممنوع خاصة إذا لم يتوافق مع إرادة السلطة. حتى اعتناق ” الأمل ” اعتبرته السلطة عملاً يستحق العقاب، وبالفعل عاقبت من فكروا في السعي لبث روح الأمل في المواطنين. وهذا هو النصف الثاني أو الطرف الثاني من معادلة العقد الاجتماعي الظالم الذي ساد البلاد في السنوات العشر الأخيرة.

……………………………………………………………………..

بألف باء المنطق، فإن المخرج من هذه المعادلة الظالمة، بات يقتضي أمرين:

أولهما إلزام قوة السلطة بضوابط الدستور وقيود القانون ونفوذ الرأي العام.

ثانيهما إحياء حقوق المصريين وإخراجها من مدافنها بين جدران الحبر والورق إلى واقع الحياة العملية.

توازن الحق والقوة هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.

شاهد أيضاً

أ.د. إسماعيل علي يكتب : هل يستحق الإخوان المسلمون (العفوَ) مِن السيسي؟!!!

بعد ثورة_25_يناير 2011، مارَسَ الإخوانُ المسلمون حقَّهم المشروعَ ـ بل واجبَهم المنتظَرَ منهم ـ فتقدموا …