“إباحية ريادة الأعمال”.. لماذا تفشل 90% من الشركات الناشئة؟

شيماء جابر

طالعنا صحف المال والأعمال يومياً بالعديد من قصص تعثر الشركات الناشئة جراء الترويج المبالغ فيه لأسلوب حياة رواد الأعمال، ومن أحدث تلك القصص على الصعيد المحلي ما شهدناه مؤخراً من وقائع أزمة شركة “كابيتر” المصرية، وقبلها على الصعيد العالمي وصول محتالة وادي سيليكون “إليزابيث هولمز” إلى ساحة المحاكم بتهمة الاحتيال على مستثمري شركتها “Theranos”، المتخصصة في مجال إجراء فحوص الدم، ضمن فصول جديدة من قصتها المثيرة الموثقة داخل صفحات كتاب “الدم السيء: أسرار وأكاذيب في مشروع بوادي السيلكون” وفي مشاهد حلقات مسلسل (The Dropout) على شبكة “هولو”، لتحجز شركتها المزعومة مكاناً في مقبرة الشركات الناشئة بعدما فقدت قيمتها.

ثقافة شركات الكراج

في الأصل، يمكننا إحالة جنون تأسيس الشركات الناشئة إلى عشرينيات القرن المنقضي في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي فترة زمنية حاسمة شكلت نقطة تحول كبيرة على كافة الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية، مع سطوة ثقافة التحرر الفردي غير المقيد المتأثرة ببريق أسطورة الحلم الأمريكي، عقب صعود الطبقة المتوسطة من سكان منازل الضواحي الواسعة، التي تضم كراجاً لسيارة الأسرة كأحد مظاهر الرفاهية والمكانة الاجتماعية.

بما ساهم في ظهور ما يعرف بثقافة “شركات الكراج” كمصطلح يصف حقيقة أن بعض أكثر التقنيات نجاحاً في العالم، بدأت كفكرة بسيطة من داخل كراج صغير أو غرفة نوم مراهق من أبناء الطبقة المتوسطة الأمريكية، ممن يسعون إلى نيل الاستقلالية المالية والترقي الطبقي، وتكوين ثروة باهظة من اللاشيء، فيما يشبه تطبيقاً عملياً لنظرية عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر للترقي الاجتماعي.

وبوصول هوس تأسيس الشركات الناشئة إلى حد الجنون، مع زيادة كم المحتوى الترويجي المبالغ فيه لأسلوب حياة رواد الأعمال وثرواتهم ومكانتهم الاجتماعية، دشَّنت الولايات المتحدة الأمريكية فعالية سنوية تقام تحت عنوان “يوم عصير الليمون الوطني”، ويتجدد موعدها في التاسع والعشرين من شهر أغسطس/آب، بهدف تعليم الصغار المبادئ الصحيحة لريادة الأعمال وإدارة المشاريع الصغيرة والتعامل الواقعي مع بيئة تشغيل الأعمال التجارية؛ إذ يحلم الكثيرون بتحقيق قصة نجاح في دنيا المال تضاهي قصة الطفل “كوري نيفيز”، مؤسس مشروع “مستر كوريز كوكي”، الذي بدأ مشروع عربة لبيع عصير الليمون الطازج على ناصية بيته ليودع بعدها حياة الفقر تماماً.

وفقاً للإحصاءات التي جمعها موقع (Dealsunny) يعتقد 2 من كل 3 أشخاص حول العالم أن الخيار الأفضل لهم يتمثل في الركض وراء حلم عربة الليمون وخوض غمار ريادة الأعمال، كحلٍ مثالي لنيل الحرية المالية وتحقيق المكانة الاجتماعية وبدء حياتهم المهنية بعيداً عن محدودية ورتابة الوظيفة التقليدية، متغافلين عن حقيقة أن تأسيس شركة ناشئة جديدة يحمل مخاطر عديدة في ظل تقلبات أوضاع الاقتصاد العالمي، وزيادة درجة حذر شركات استثمار رأس المال المخاطر فيما يتعلق بقرارات التمويل، للحد الذي وصف معه عام 2022 بـ”شتاء ريادة الأعمال”.

إباحية ريادة الأعمال

لقد قرأنا جميعاً تلك المقالات المنتشرة عبر الإنترنت عن سبل تحقيق النجاح وتكوين الثروات، وكيفية تحويل حياتنا المهنية من شبكة خيوط عنكبوت تتدلى في مهب الريح داخل حدود وظيفة مكتبية رتيبة إلى قصة نجاح مهني مبهرة للجميع عبر تأسيس شركة ناشئة خاصة، وأصبحت كتب على شاكلة: “كيف تصبح انتربرونور في 24 ساعة؟” أو “أسس شركة ناشئة بمئة دولار” أو “من موظف بسيط إلى مؤسس عظيم” تباع على الأرصفة في كل مكان، وجميعها تروّج لعالم ريادة الأعمال بشكل مبالغ فيه كإحدى طرق تحقيق الاستقلال المادي لأفراد المجتمع، وأهم دعائم الخروج من المأزق الاقتصادي.

بجانب نشر مئات المقاطع المصورة من أحاديث منصة TEDx عن قصص نجاح رواد الأعمال المتسربين من جامعة هارفارد إلى عالم المال؛ مثل “جاك دورسي” و”ستيف جوبز” و”إيلون ماسك”، وقصص نجاح الشركات العالمية التي انطلقت من كراج صغير أو غرفة نوم مؤسسها لتحلق بعدها في السماء السابعة وتغير حياة البشرية مثل “أمازون” و”فيسبوك” و”جوجل”. 

  • “أليس لديك كراج؟ قم واشتر فوراً، لا تترك الفرصة تفوتك يا خليفة إيلون ماسك القادم!”.

هكذا، وقعنا في فخ محتوى تثقيفي ظاهرياً، لكنه قائم على تزييف الواقع وتغييب الأشخاص عن الجوهر الحقيقي للأشياء، تماماً مثل ترهات التنمية البشرية، محتوى أطلقت عليه الكاتبة “مورا آرونز”، ضمن مقالها المنشور في هارفارد بزنس ريفيو عام 2014، وصف “إباحية ريادة الأعمال” دلالة على الترويج للأساطير الوهمية وراء شعار: “دعك من الوظيفة التقليدية وأتبع شغفك في تأسيس شركتك الخاصة” دون النظر إلى حجم موهبة وإمكانيات وخبرات الفرد ومدى استعداده الشخصي.

مقبرة الشركات الناشئة

يرجع “كيرتس مورلي”، مؤلف كتاب “معضلة رائد الأعمال” زيادة الرغبة في الاقتحام غير المدروس لعالم ريادة الأعمال إلى ضغط الرغبة في تقرير المصير وتحقيق الاستقلال المادي مع فقدان الرؤية لكيفية تخطي العقبات، وعدم وجود خريطة واضحة للملاحة وسط الأمواج العاتية لحالة عدم اليقين الاقتصادي السائدة عالمياً؛ لتصبح النتيجة الحتمية اندفاعاً هائلاً نحو عالم الشركات الناشئة دون أي دراسة أو تخطيط أو استعداد مسبق، تحت تأثير “وهم المعرفة”، والمبالغة في تقدير حجم الموهبة وتضخيم إمكانيات الذات الذي تسبب فيه المحتوى الترويجي الزائف لريادة الأعمال، ومن ثم تحدث صدمة الذهاب السريع إلى مقبرة الشركات الناشئة بعد تجرع كأس الفشل لآخر قطرة.

لسوء الحظ، فإن معدل تعثر الشركات الناشئة مرتفع جداً، كما أن حجم التأثير الاقتصادي لمعظمها منخفض بشكل مخيب لآمال رواد الأعمال الجدد الحالمين بتأسيس عربة الليمون الخاصة بهم، وصانع السياسات والمستثمرين ممن يحاولون تسهيل تأسيس وبقاء وتشغيل الشركات الجديدة، بحسب ما جاء في نتائج دراسة “CB Insights” تفشل 90٪ من الشركات الناشئة في المنافسة وتموت بعيداً خارج أسواق المنافسة؛ مما يشير إلى أن رواد الأعمال المتحمسين يعملون في كثير من الأحيان في ظل مجموعة زائفة من الافتراضات المغلوطة، ومن هنا ظهر مصطلح “نزهة إلى المقبرة” وما تبعه من تدشين الموقع الإلكتروني “مقبرة الشركات الناشئة”، المتخصص في رصد وتتبع وتحليل أهم أسباب تعثر الشركات الناشئة والوقوف على أهم نقاطها.

أسباب تعثر الشركات الناشئة

وعلى عكس المتوقع، يأتي “مايكل جيربر” مؤلف كتاب “خرافة ريادة الأعمال” من الاتجاه المعاكس، مؤكداً أن ريادة الأعمال لا تصلح للجميع؛ إذ يختلف واقع الممارسة العملية في البيئة التشغيلية المحيطة بعالم الشركات الناشئة عن الأساطير الخرافية المحيطة به بفعل المحتوى الترويجي الزائف، فيما رتب “مايكل أيمز” في كتابه “إدارة المشاريع الصغيرة” ثمانية أسباب تؤدي إلى تعثر الشركات الناشئة والمشاريع الصغيرة واضعاً نقص خبرة المؤسسين على رأس القائمة، ثم أضاف إليه الكاتب “جوستاف بيرل” سببين آخرين (الأسباب 9-10)، وهي جميعاً كما يلي:

  1. نقص الخبرة الإدارية وضعف فريق العمل.
  2. عدم كفاية رأس المال.
  3. سوء اختيار موقع الشركة.
  4. سوء إدارة المخزون وطريقة الجرد المتبعة.
  5. الإفراط في الاستثمار في الأصول الثابتة صعبة التحول إلى نقود سائلة.
  6. سوء سياسات الائتمان.
  7. الاستخدام الشخصي لأموال الشركة.
  8. النمو السريع غير المتوقع بدون دراسة.
  9. شدة المنافسة في السوق مع عدم الرؤية.
  10. انخفاض وضعف معدل المبيعات.

وأخيراً في ختام حديثنا، لنكُن منصفين بعض الشيء: فثمة قلّة من الأشخاص حول العالم ولدوا ليكونوا رواد أعمال حقيقيين لهم قصص نجاح تملأ الدنيا صخباً، لعلك لو اتبعت شغفك تكون أحدهم، بعدما سهلت شبكات الإعلام الاجتماعي آليات الوصول إلى الجمهور المستهدف. هيا لا تخف من فشل تجاربك الأولى، حاول مراراً وتكراراً، فكما قال الكاتب البرازيلي “باولو كويلو” في روايته الأشهر “الخيميائي“: “سر الحياة أن تسقط سبع مرات، وتنهض ثماني مرات”، رجاءً دعوني أتوقف عن الحديث عند هذا الحد؛ لا أريد أن تنزلق قدمي في فخ إباحية عربة الليمون.

شاهد أيضاً

“فيتش” ترفع تصنيف مصر الائتماني بسبب بيع سواحل مصر!

بعدما خفضته بسبب نقص الدولار والمشكلات الاقتصادية، أعلنت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، رفع تصنيف مصر من “-B” إلى “B” مع …