(إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) .. كلمات دافعت بها البتول الطاهرة العابدة سليلة بيت النبوة؛ مريم ابنة عمران عن نفسها وشرفها عندما اقتحم عليها خلوتها الروح القدس على هيئة بشر سوي, قبل أن يخبرها بأمر الله وببشارة رسول الله المسيح عليه السلام، وشاء الله سبحانه أن يجعلها للبشر جميعا قرآنا يتعبدون به إليه سبحانه وليبقى المشهد والحوار والميلاد والرسالة علامات تهدي إلى الرشد وإلى طريق الله المستقيم.
” وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا، قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا، قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا” (مريم).
ومن بشارة بعثة محمد صلى الله عليه وسلم يحفظ التاريخ حادثة غزو أبرهة الحبشي لمكة لهدم الكعبة حتى ينصرف العرب إلى كنيس بناه في اليمن فيجعلوه قبلتهم وحَجَّهم، وما أن وصل جيشه إلى حدود أم القرى بعد سحقه لمن تصدى له من العرب دفاعا عن كعبتهم، لاقاه عبد المطلب؛ جد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قدموه له بأنه سيد قريش صاحب عير مكة – التي استولى عليها أبرهة – الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في الجبال، فاستقبله الطاغية بعد أن رأى مهابته، ثم زهد فيه (كما تقول الرواية) عندما وجد أن عبد المطلب جاء ليسترد إبله ولم يطلب منه عدم هدم الكعبة بمقولته الشهيرة (أما الإبل فأنا ربها (صاحبها) وأما البيت فله رب يحميه), وأنشد بعد أن هرب أهل مكة جميعا إلى الجبال لأنهم لا طاقة لهم بأبرهة وجيشه الذي يتقدمه فيل ضخم لم يكن العرب قد رأوا مثله من قبل:
لاهم إن المرء يمنع حلَّهُ فامنع حلالك
لا يغلبن مكيدهم ومحالهم أبدا محالك
إن كنت تاركهم وكعبتنا فأمر ما بدا لك
وبدأت المعركة بلا عدو لأبرهة يراه؛ وهرب الفيل وأبى السير وجاءت الطير الأبابيل، وتبقى الحادثة قرآنا يتلى (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول).
وفي غزوة بدر التي شاء الله سبحانه وتعالى أن تجري وقائعها في شهر رمضان, والمسلمون صيام, وهم قلة, ولم يكونوا قد خرجوا لقتال، وبعد أن أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشه للقتال وقف في عريشه الذي أعده له أصحابه يدعو ربه ويناشده النصر الذي وعده ويقول في دعائه (اللهم أنجز لي ما وعدتني .. اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلن تُعْبد في الأرض)
وتقول الروايات الموثقة إنه صلى الله عليه وسلم ما زال يدعو ويستغيث حتى سقط رداؤه، فأخذه أبو بكر الصديق ورده على منكبيه وهو يقول: يا رسول الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله سبحانه وتعالى (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) ونشب القتال وانهزم المشركون، وبقيت آيات القرآن الكريم شاهدة قائمة إلى قيام الساعة، لتكون آية جديدة من آيات الله سبقتها آيات كثيرة تؤكد على أن صلة السماء بالأرض لم تنقطع, ولن تنقطع, وكما كتب الله على الناس الصيام كتب على نفسه عز وجل وبقرآن يتلى (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز) (المجادلة).
وفي ذاك الشهر الكريم الذي انطوت صحائفه والذي أنزل الله سبحانه فيه كتابه (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين، فيها يفرق كل أمر حكيم، أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين، رحمة من ربك إنه هو السميع العليم) (الدخان)، وهي ليلة يشهد الكون فيها إلى قيام الساعة أحداثا لو انكشفت للبشر على هذا الكوكب الذي نعيش عليه ما بقي عليها من أحد أبدا من هول ما يراه (تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) (القدر) ولا يعيش لحظاته ويتلمس رحماته غير النفس التي تعلو على طينية الجسد واجتهدت في القربى (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها).
ويشاء الرحمن الرحيم أن يأتي رمضان هذا العام مفعما بريح المسك الذي تناثر مع دم شهداء الأمة على أكثر من بقعة على هذا الكويكب الذي يجري في ملكوت الله ولولا أن الله سبحانه يمسكه لأصبح رذاذا، ويظن الطواغيت والمستكبرون من أهله أنهم قادرون عليه فيسفكون الدم الحرام ويجدون من شياطين الإنس والجن الدعم والتهليل؛ يُغيرون في دين الله بحجة التجديد، ويفترى أحدهم على الله كذبا وتأتيه الجرأة فيتأول آيات الله تأويلا باطلا، ولا تتوارى أقلام بعض مؤيديهم خجلا من ترهاتهم، فيواصلون تزيينها!.
وتنتفض أجساد القوم عندما تقرع آذانهم في صلوات رمضان، أصواتُ التأمين على دعاءٍ يدعو على الظالمين، وهم الذين لم تخشع قلوبهم لذكر الله والقرآن يتلى، ويولول إعلامهم ويصرخ علماؤهم رغم أن المتوجهين بدعائهم وتأمينهم إلى الله سبحانه وتعالى لم يذكروا أسماءهم وإن أشاروا إلى أدوار أمثالهم ليفتروا على الله الكذب ويقولون إن مساجدهم ليست للدعاء على الظالمين، وكأن مساجدهم خير من مسجد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو ثالث مسجد تشد إليه الرحال عندما ظل نبي الإسلام يدعو على الذين غدروا بأصحابه عند بئر معونة ثلاثين صباحا وخلفه المؤمنون يؤمنون على الدعاء.
ولتأتي الحجة القرآنية البالغة على الحق الذي عليه الداعين, والباطل الذي عليه المستكبرون في قوله تعالى في سورة الأنعام:
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ) وإنها والله الهزيمة التي لا تخفى والخزي الذي يلحق بالقوم.
طريق الدعوة إلى الله واضحةٌ معالمه, وله قواعده التي لا تختلف من زمان إلى زمان، والصلة بين السماء والأرض لم تنقطع.
نداء نوجهه إلى طائفتين من الناس، وإن كانوا ليسوا سواء:
الأولى: التي تواصل الافتراء على الله الكذب وتُعرض عن الحق الذي لم يعد لباطلهم حجة عليه ونرفع في وجوههم مناجاة جد الرسول صلى الله عليه وسلم ربه في مواجهة أبرهة الحبشي، ومناجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، والسلاح الرباني الذي نزل به الروح الأمين في سورة آل عمران (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ).
الثانية: من يختلف معنا على الطريق الذي لا ندعي احتكار العمل فيه، وتأتينا بعض سهامه، فإننا نقول لهم جميعا ما قالته السيدة البتول مريم ابنة عمران تذكرة لمن اقتحم عليها خلوتها مذكرة إياه بربوبية الكون الله الواحد الأحد (إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا).
تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وإخلاص العبادة.
وعيد مبارك نسأل الله أن يعيده على الأمة كلها بالخير واليمن والبركات.