من أعظم تشريعات الإسلام؛ الصدقات والإنفاق؛ فبهما يتأسس المجتمع المترابط، الذي يشعر بعضه ببعض، ويتكافل بعضه مع بعض، بدءًا بالصدقة المفروضة في أموال الأغنياء، ومرورًا بالصدقة التطوعية، ووصولاً إلى منزلة الإيثار التي تجعل لحاجات الآخرين أولوية عند أصحاب القلوب المؤمنة الكبيرة.
والصدقة بجميع أنواعها – غالباً- ترتبط بالفقير والمسكين، وتُذكر عند الحديث عن السائل والمحروم. مثال ذلك قوله تعالى: (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم). ومن أجل أن تكون عملية التصدق جادة وفاعلة جعلها الله تعالى فرضاً من فرائض الإسلام، وركنًا من أركانه لمن ملك النصاب وتحققت فيه الشروط، وحثّ عليها بعد إقام الصلاة في أكثر من موضع في القرآن الكريم، وجعل من جنسها صدقات غير محدودة بالوقت أو القيمة. هذا بالإضافة إلى أنه تعالى تولى توزيعها بنفسه في ثمانية مصارف، تهدف في مجموعها إلى بناء مجتمع إنساني، تتلاشى فيه الفوارق الطبقية، وتتحقق فيه الكرامة الإنسانية، وتُجذر من خلاله معاني العدالة الاجتماعية بين الأفراد. ومن خلال تأمل مصارف توزيع الصدقات في آية سورة التوبة، نجد أنها تتعلق – بطريقة مباشرة أو غير مباشرة- بمصلحة الأفراد وحفظ بنيان الإنسان وكرامته داخل المجتمعات، مثال ذلك: (الفقراء، المساكين، العاملين عليها، المؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل). كما يلاحظ أيضاً أنها وُضعت لخدمة مقاصد الشريعة ودعم تحقيقها، وتحديداً في جانب الضرورات، مثل: حفظ النفس، في إطعام الفقير والمسكين وإيواء ابن السبيل, وحفظ الدين، في دعم المؤلفة قلوبهم, وحفظ المال، في مساعدة الغارمين والمدينين،… وغير ذلك.
ومن هذا يتبين أن أساس الصدقة في الإسلام هو حفظ الفرد ورعايته في الجوانب المادية والروحية والعقلية، وتُقدر الأمور بقدرها وضرورتها بحسب الزمان والمكان عند توزيع الصدقات. ففي هذا العصر الذي ظهر فيه الإنسان البائس الفقير، والعائلات المشردة الطريدة، والجياع الذين يأكلون من القمامة، وابن السبيل المستجير، والمحبوس المظلوم الذي قد يكون أسوأ حالاً ممن هو في الرقاب؛ يجب أن توجه أولويات توزيع الصدقة المفروضة والتطوعية إلى إطعام الجياع، وكسوة العرايا، وإيواء المشردين، وفك أسر المعتقلين ورعاية أسرهم، والتفريج عن المكروبين، ونصرة المظلومين والمستضعفين. يجب أن يكون ذلك هو نية كل متبرع متصدق، كما يجب أن يكون شرطاً ملزماً يوضع بين يدي القائمين على المؤسسات الخيرية التي تعمل على جمع الصدقات وتوزيعها, إذ لا يعقل أن تقوم بعض المؤسسات الخيرية بإنفاق الأموال الباهظة على مناشط دعوية، وإقامة برامج تعليمية في الفنادق والقصور داخل مجتمعات توفرت لها سبل العيش الكريم ووسائل التواصل المتنوعة لسماع الدعاة والعلماء تحت مسمى مصرف (في سبيل الله)، وهناك من المسلمين من يُساوَم في دينه وعرضه وحريته وكرامته، ولربما كان الفقر والبؤس والمرض وبطش الظالمين فيهم سبباً لرضوخ بعضهم لهذه المساومات الآثمة. بالله عليكم، إذا لم تكن زكاة المسلمين وصدقاتهم لحفظ أرواحهم ودينهم وأعراضهم وكرامتهم، فما حكمة تشريعها إذن؟ وما فائدة الفخر بالمليارات التي تجمعها المؤسسات الخيرية، إن لم تكن تطعم من جوع, وتؤمن من خوف, وتعز من مهانة وذل, وتقوي من ضعف, وتسهم في رفع الأمة إلى قيمتها في الخيرية بين الأمم؟!. إن واجب العصر يقتضي أن يقوم أثرياء الأمة والمؤسسات الخيرية ببناء جسور التكافل والتعاون مع المجتمعات الفقيرة المقهورة، الواقعة بين مطرقة الموت والهجران، وسندان الذل والطغيان، وأن يسرعوا في ذلك قبل أن تصل كتائب التنصير بالطعام والدواء والكساء على ترانيم الصلوات باسم الرب يسوع. إن أسرع طريق إلى الله ما كان عن طريق رعاية خلقه والاهتمام بشؤونهم، وبخاصة أصحاب الحاجة والعوز فيهم، سواء أكان ذلك مادياً عن طريق تلبية احتياجاتهم، أو معنوياً عن طريق الكلمة المؤازرة، أو الحض على التعاون والتكافل فيهم، أو الدعاء بالتفريج عن المكروبين، والتيسير عن المعسرين، ورفع الظلم عن المظلومين. إن ترتيب هذه الأولوية في الصدقات وفق المعايير الصحيحة، كفيل أن يضع الأمة على طريق بنائها الصحيح للعودة بها كسابق عهدها في العطاء والبناء، يوم يفيض مالها فيُستثمر في مشروعات ترفيهية أو تحسينية، أو يكون في خدمة نفع البشرية جمعاء؛ مسلمين وغير مسلمين، أو حتى لتشمل جميع المخلوقات من الدواب.