إيران.. الديمقراطية المزيفة

 يشير الحراك السياسي الداخلي في إيران إلى سعي  الجناح المحافظ  للسيطرة على مجلسي الشورى والخبراء في السنوات المقبلة، بعد أن استطاع تحجيم الجناح الإصلاحي وإبقاءه في دائرة مغلقة، ليتجسد من جديد نظام دكتاتوري أحادي اللون والنكهة.

 المثير أن ذلك لم  يفاجئ الغربيين الذين راهنوا ضمناً على فوز الجناح الإصلاحي في الانتخابات القادمة بعد نجاح روحاني في التفاهم النووي، على اعتبار أن ذلك سوف يُسهم في تعديل السلوك الإيراني تجاه الانفراج مع الخارج .

على الصعيد الداخلي

يُواصل التيار الإصلاحي, وضمنه الرئيس روحاني, الضغط لإعادة النظر في عملية رفض أهلية الكثير من المرشحين لانتخابات مجلسي الخبراء والشورى، في الوقت الذي اتهم فيه مرشد الجمهورية علي خامنئي من سماهم بأعداء البلاد بتأجيج الأزمة المتعلقة بالترشيح بغرض تهيئة الأرضية لنفوذ أعداء الثورة، ومحذراً من محاولات الدول الغربية التأثير على منظومة قيم الثورة من خلال استغلال الاتفاق النووي للنفوذ إلى الداخل الإيراني, ومطالباً ببقاء الجيش في حالة استنفار حتى إجراء الانتخابات المزمع إجراؤها في 26 فبراير المقبل.

 أولاً: لا شك أن  الجناحين؛ المحافظ والإصلاحي بتلاوينهم المختلفة يحتكمان في النهاية إلى مرجعية واحدة هي المرشد، الذي يحاول الظهور دوماً وكأنه الحكم المحايد بين مختلف الأجنحة والقوى والمؤسسات، والساعي للحؤول دون اصطدامها وهي كذبة كبرى في النظام الإيراني.

 ثانيًا : أثبتت الأحداث أن المرشد له تأثيره المباشر في كلا الجناحين بدرجة واضحة والضغط لدفعهما إلى نوع من التوافق إذا ما شعر أن تيار المحافظين أو الاصلاحيين بأجنحته المختلفة، يمكن أن يؤثر في قواعد اللعبة الداخلية والخارجية، والتي بدت وكأنها نوع من توزيع الأدوار أو تقسيمها بنحو أدق، وهذه هي عين الحقيقة، لأن القاسم المشترك بين مصالح الإصلاحيين والمحافظين في بقاء النظام وليس الانشقاق عنه أو الإطاحة به .

السيناريوهات المتوقعة

يبدو أن إيران باتت تعاني بعد رفع العقوبات عنها من عقدة الانفتاح نحو الخارج، لأنها تُدرك أن ذلك قد يطيح بالنظام، بسبب تعطش الشعب للحرية التي حرمه منها النظام الإيراني منذ الثورة. فالمتابع للحراك الإيراني الآن يلاحظ أن كل الصراعات التي نشبت بين المحافظين والإصلاحيين كانت نتيجتها دوماً تحسم لصالح التيار المحافظ؛ خصوصاً القرارات المصيرية على المستويين الداخلي والخارجي   .

كما  أن الدبلوماسية الإيرانية اتسمت طوال العقود الماضية بالدهاء والخبث, فقد حاولت إيران استثمار حالة الصراع والمناكفة بين الأجنحة السياسية واستغلالها لكسب نقاط سياسية تجعلها في موقف دولي و إقليمي أقوى, وتبني عليها مواقف واستراتيجيات، بل تُخفي نتائج تطورها، وقد بدا هذا واضحاً من خلال التقدم الذي حققته إيران في المجال النووي والصاروخي في عهد الرئيس الإصلاحي المبتسم لغاية الآن محمد خاتمي؛ ففي الوقت الذي انشغل به العالم والإعلام الإقليمي والدولي وأجهزة استخباراته بالصراع المحتدم الذي وصل للدموية والعنف بين الإصلاحيين والمحافظين، كانت إيران تسير بخطى حثيثة  لبناء صناعاتها العسكرية والنووية.

 من المؤكد أن التطورات داخل إيران لن تقف عند هذا الحد, نتيجة للتطورات الدرماتيكية المتسارعة وإن الصراع المفتعل نسبياً بين الأجنحة لم يعد  ذلك كافياً للتعبير عن تناقضات واختلافات الشعب، الذي وصل حنقه وغضبه على الولي الفقيه إلى فصول متقدمة, ليدخل إلى مرحلة كسر العظم, بين الولي الفقيه وتوابعه من جهة, وبين الشعب الإيراني الذي لم يجد سوى التوجه لعدم الإنجاب هروباً من مشاكله المتفاقمة حيث وصلت البطالة لأكثر من 30% ، والتضخم لأكثر من 40% ، وفقدت العملة أكثر من 60 % من قيمتها خلال فترة قياسية,  عدا عن تفاقم مشاكل ارتفاع مستوى الجريمة وتعاطي المخدرات.

وهذا يعني أن الصراع وتصفية الحسابات ستنتقل بشكل مباشر بين الطرفين من خلال الشارع هذه المرة، وليس من خلال اللعبة، وسياسة التضليل والخداع التي ابتكرها النظام بين التيار المحافظ والإصلاحي، وهذا يتضح من خلال قراءة المواقف الأخيرة المتضاربة  بين الطرفين، حيث يظهر لنا أن الموقف الشعبي بات أكثر حزمًا وتصلبًا حيال ما يجري من أي مرحلة سابقة, يُقابله موقف ( ولي الفقيه  ومن خلفه) الذي بدا ضعيفاً، يحاول امتصاص التوتر الحالي، وممارسة الدبلوماسية الناعمة، ليتغاضي عن سبب الأزمة الرئيسي؛ وهو استهداف ومصادرة خيارات الشعب.

وهنا نتساءل: ما سبب هذا التشدد والتصلب الإيراني الداخلي، وإلى أين تتجه الأمور؟

لا يخفى أن إيران تعيش اليوم فترة ضعف اقتصادي وخلل اجتماعي شامل غير مسبوق لم تمر بها منذ الثورة. فقد أُنهكت من خلال مداخل الأزمات الإقليمية؛ لا سيما السورية التي استنزفت جل مواردها؛ فمن إستراتيجية انخراطها المباشر، ودعمها لمليشيات الموت والدمار في سوريا والعراق، وتخصيص موازنة سنوية ضخمة لحزب الله اللبناني منذ عقود, واستنزاف اقتصادها في دعم الحوثيين في اليمن وغير ذلك, كل هذا تسبب في استنزافها عسكريًا واقتصاديًا بشكل كبير، إضافة إلى العقوبات الاقتصادية المتعددة الأشكال منذ أكثر من اثني عشر عاماً, ثم جاء انهيار أسعار النفط , الذي عزاه محسن رضائي؛ أمين مجمع تشخيص مصلحة النظام إلى السعودية، محذراً إياها من أن الدم سيكون مقابل النفط تعبيراً عن حالة التردي الذي وصل له الخطاب السياسي الإيراني .

 لذلك كله باتت إيران في وضع لا تحسد عليه؛ فهي الآن في صراع  داخلي جديد مفتوح على كل الاحتمالات في حال استمر الضغط على الشعب, أما توقيت انتخابات مجلسي الشورى والخبراء فليس من صالحها أيضًا, ولذلك تحاول تجاوز الأزمة، وحسم موازين القوى الداخلية لصالح الجناح المحافظ , بغية التقاط أنفاسها قبل الدخول في أي تصفية حسابات محتملة بينها وبين دول الإقليم، لا سيما السعودية .

على الصعيد الخارجي

ترصد الولايات المتحدة, والغرب عموماً ما يجري داخل الساحة الإيرانية بدقة متناهية، ويُوجهون الأحداث ويصعدونها لدرجة تسمح بوصول الجناح المحافظ لتحقيق جملة من الأهداف؛

 أولها: خلق بيئة صراعية بين إيران والخارج من خلال وصول الجناح المحافظ، مما يسمح باللعب على وتر التناقضات الجارية في الإقليم، وإدارة الفوضى الخلاقة، والاستمرار في سباق التسلح، وحرف الصراع من المواجهة مع إسرائيل إلى الصراع مع دولة ولي الفقيه الساعية للتمدد والنفوذ والهيمنة؛ مما يسمح بشرعنة الوجود الغربي ويعززه، وضمان دوران عجلة الاقتصاد الغربي القائمة أساساً على مصانع السلاح .

بالمقابل أحدث ما يجري في إيران صدمة في أوساط النخبة السياسية والحزبية الإصلاحية التي اعتبرت ذلك خروجاً عن قواعد اللعبة السياسية، ما جعل روحاني يرسل رسائل استرحام للمرشد، لكنه تلقى صفعة مدوية من خلال انتقاد خامنئي له بشكل لاذع  .

 أما ثعلب السياسة الإيرانية الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني الذي لم يستطع تنفيذ مخططه من خلال فكرته الخلاقة بالتأسيس لمجلس قيادة بديلاً عن منصب المرشد، بعد إدراكه أن النية كانت تتجه  لدفعه نحو  التقاعد السياسي من خلال التلويح باستخدام سلطة مجلس صيانة الدستور لحرمانه مرة أخرى من الأهلية للترشح  لمجلس الخبراء لولا نجاحه (رفسنجاني) في العودة إلى دائرة الضوء من خلال توجيه المؤيدين له لإرسال رسائل تحذير قاسية للنظام في حال تهميشه، فتم التوصل لتسوية تقضي بإلغاء تنفيذ مخططه في حال فوزه كعضو محدود الصلاحية في مجلس الخبراء المنوط به ترشيح المرشد الجديد .

 بصرف النظر عن النسبة المنخفضة للمشاركة الشعبية التي ستميز انتخابات مجلسي الشورى والخبراء، وهو ما حذرت منه نخبة واسعة من رجال الدين نتيجة منع حفيد الخميني من الترشح، إلا أن خامنئي بدا غير مكترث بما يجري على الإطلاق، ونجد من الضروري هنا لفت الأنظار إلى مسألة ربما تبدو جديرة بالتأمل، وهي أنه على الرغم من أن المحافظين لا يُشكلون تياراً واحداً ومنسجماً سياسياً في المقاربات الداخلية أو الخارجية على حد سواء، إلا أنهم توحدوا هذه المرة بشكل غريب مع المرشد ضد أطروحات التغيير لمنصب القيادة ما يعني أهمية وخطورة ما يجري في إيران، حيث أثبتت التطورات الأخيرة قدرة خامنئي على توظيف كل ما لديه من أوراق وإمكانات لتجييش المزيد من المؤسسات الثورية، ووصلت لحد تهديد حفيد الخميني وحتى رفسنجاني بالقتل، واتهامهم بتنفيذ مخطط غربي هدفه الإطاحة بالنظام.

 المشهد برمته له انعكاساته على البيئتين الداخلية والخارجية  الإيرانية، والرسالة فيما يبدو وصلت لإدارة أوباما التي تجمع  حقائبها للمغادرة بأن الرهان على التغيير – ونحن نشك أنه جدي  نظراً للمتغيرات التي تحدثنا عنها سابقاً –  محكوم عليه بالفشل، التي وإن كانت دعت الإيرانيين مبكراً الى دعم التيار الإصلاحي، لكن السلوك التصعيدي الغربي المتعمد مع إيران؛ أثبت أن الغرب يريد استمرار بقاء المحافظين في الحكم؛ وهذا ما اتضح من خلال فرض بعض العقوبات مؤخراً على إيران نتيجة التجارب الصاروخية، ودخول البحارة الأمريكيين للمياه الإيرانية، إضافة إلى حالة الاحتكاك بين البحرية الأمريكية والإيرانية في مياه الخليج أثناء مناورات الحرس الثوري، كلها مؤشرات تشي بسعي أمريكا لرفع حدة الحالة الصراعية، مما يُسهم في توتير الأوضاع الداخلية الإيرانية، ويرفع من شعبية الجناح المتشدد، وهو على خلاف ما تدعي واشنطن من أنها تدعم خيارات وصول الجناح الإصلاحي، لأن المتغيرات على الأرض لا تشير إلى  ذلك مطلقاً .

 أما لعبة إيصال روحاني لكرسي الرئاسة فتدفع للاعتقاد بأنها جاءت بغية استثمارها في اللعبة السياسية الدائرة مع واشنطن وعواصم صنع القرار الأوروبية، بغية تحسين صورة النظام، وتلطيف الأجواء والساحات الملتهبة في المنطقة، تحديداً في سورية والعراق واليمن ولبنان وفلسطين وهو ما لم يحدث فعلاً، لأن روحاني لا يعدو كونه كبير الموظفين في مكتب خامنئي؛ يأتمر بقرارات وتوجهات المؤسسات الثورية في نهاية المطاف .

لكن أين نحن العرب من كل ما يجري؟

 نعتقد أن التطورات وسيناريوهات ما سيجري لن يكون وليد الصدفة، فعلى الصعيد الإقليمي والدولي نجد أن المتشددين هم من سيُحكمون قبضتهم على المنطقة، فالجناح المحافظ في إيران متجه لفوز كبير في انتخابات مجلسي الشورى والخبراء، وفي إسرائيل حكومة عنصرية متشددة، والرئيس القادم لأمريكا سيكون من الحزب الجمهوري حسب ما رشح من استطلاعات الرأي العام .

بالمقابل؛ المنظومة العربية مفككة، ومغيبة عن كل ما يجري، ولم  يُدرك العرب بشكل جيد أن إيران ومليشياتها ووكلاءها تمثل تحدياً خطيراً ومستمراً في المنطقة, وأنه لابد من استثمار حالة الضعف الإيراني الحالي لتدميرها وتطويق طموحها الدموي, والذهاب حتى النهاية لمواجهتها، لأن طاولة المفاوضات والخيارات الدبلوماسية أعجز من أن توقف إيران .

وعندما نقول بالذهاب إلى أخر الطريق فهذا لا يعني بالضرورة الحرب العسكرية المباشرة مع إيران التي تتخوف منها الأنظمة العربية,  فهذا خيار مستبعد في المرحلة الحالية على الأقل, وهناك خيارات أخرى كثيرة يمكن للدول العربية العمل بها. وحسب تصورنا فإن التركيز في المرحلة القادمة لا بد أن يكون من خلال الأزمة السورية، ودعم معارضته وشعبه، والوقوف ضد محاولات التآمر والتواطؤ التي تتم من بعض الدول العربية التي ما فتئت تتاجر بدماء الأمة دون رادع ديني وأخلاقي، وباتت نفس هذه الدول تُشكل تهديدا حقيقيا للأمن القومي العربي. وإذا ما أراد العرب  الذهاب لهذا الخيار فعليهم حشد طاقاتهم، وعدم الاعتماد على المجتمع الدولي الذي خذل العرب دوماً، وبات ينظر للأزمة السورية من خلال زاوية اللجوء الإنساني ووقفه, مما يفقد إيران أوراقاً مهمة تعتمد عليها في بناء مجالها الحيوي.

……………………….

رئيس وحدة الدراسات الإيرانية – مركز أمية للبحوث والدراسات الاستراتيجية

شاهد أيضاً

بعد موقفهما تجاه ليبيا.. محاولات لبث الفتنة بين تركيا وتونس

منذ أن بدأ الجنرال الانقلابي خليفة حفتر محاولة احتلال طرابلس في إبريل الماضي، لم تتوقف …