الأمة ودورها في مقاومة الظلم والظالمين ( 3 )

تحدثنا في مقالين سابقين عن آفة الظلم وقلنا إنه ( وضع الشيء في غير موضعه) . وذكرنا أن هناك أشكالاً مُتعددة للظلم تعافها النفس السوية، وأن الشرع والعُرف والفِطرة السَّوية تأبى الظلم وتُوصِي بمقاومته، وأشرنا إلى ثوابت يجب مراعاتها حال مقاومة الظلم والظالمين، كما تحدثنا عن الغرض من مقاومة الظلم ووسائل مقاومته. وفي المقال الثاني تحدثنا عن العبرة من ذِكْر مصارع الظالمين كما بينا أن الظالم يُميته الله تعالى موتات ولا يهنأ له عيش ثم بينا نماذج من دعوات المظلومين وأثرها في هلاك الظالمين.

وفي مقالنا هذا نتحدث – بفضل الله تعالى ومنته عن:

علماء ورموز وقادة الأمة قديماً وحديثاً ومقاومتهم للظلم

يقول الإمام أحمد بن حنبل: ” إذا سكت العالِم تُقية ( حذراً وخوفاً ) والجاهل يجهل، فمتى يظهر الحق؟” ولذلك لم تخلُ حقبة على مدار التاريخ من وجود علماء ورموز وقادة تصدوا للظلم وقاوموا الظالمين تأسياً بالأنبياء والمرسلين عليهم جميعاً من الله السلام. فإبراهيم الخليل عليه السلام تصدى للنمرود، وكليم الله موسى عليه السلام تصدى لفرعون وهامان وجنودهما، والنبي  صلى الله عليه وسلم تصدى لبطش قريش ورفض أن يداهنهم أو يركن إليهم.

 فجميعهم لم يخُر لهم عزم ولم تلن لهم قناة ، فكانوا – عليهم السلام – خير قدوة لأسلافهم وأتباعهم إلى يوم القيامة.

1- سلطان العلماء العز بن عبد السلام يواجه الملك الصالح إسماعيل :

عندما كان العز بن عبد السلام في دمشق كان الحاكم الملك الصالح إسماعيل من بني أيوب، وقد ولّى العز خطابة الجامع الأموي، وبعد فترة تحالف الصالح إسماعيل مع النصارى الصليبيين، أعداء الله ورسله، وسلّم لهم قلعة الشَّقِيف، وصَفَد، وبعض الحصون، وبعض المدن من أجل أن يستعين بهم على قتال الملك الصالح أيوب في مصر . فلما رأى العز هذا الموقف الخائن الموالي لأعداء الله ورسله لم يصبر فصعد على المنبر، وتكلّم وأنكر على الصالح إسماعيل تحالفه مع الصليبيين، وقطع الدعاء له في الخطبة، بعدما كان اعتاد أن يدعو له، وختم الخطبة بقوله: ” اللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا تُعِزُّ فيه وليَّك، وتُذِلُّ فيه عدوَّك، ويُؤْمَر فيه بالمعروف، ويُنْهَى فيه عن المنكر” ثم نزل .

وعرف الصالح إسماعيل أنه يريده، فغضب عليه غضبًا شديدًا، وأمر بإبعاده عن الخطابة، وسجنه، وبعدما حصل الهرج والمرج، واضطرب أمر الناس، أخرجه من السجن ومنعه من الخطبة. وخرج العز من دمشق مُغضبًا إلى جهة بيت المقدس، وصادف أن خرج إسماعيل إلى تلك الجهة أيضًا والتقى أمراء النصارى قريبًا من بيت المقدس، فأرسل رجلاً من بطانته وقال له: اذهب إلى العز بن عبد السلام، ولاطِفْهُ ولايِنْهُ بالكلام الحسن، واطلب منه أن يأتي إليّ، ويعتذر مني، ويعود إلى ما كان عليه، فذهب الرجل إلى العز وقال له: ليس بينك وبين أن تعود إلى منصبك وأعمالك وزيادة على ما كنت عليه، إلا أن تأتي وتُقَبِّل يد السلطان لا غير، فضحـك العز ضحكة السـاخر وقال: ” يا مسكين، والله ما أرضى أن يُقَبِّلَ الملك الصالح إسماعيل يدي فضلاً عن أن أُقَبِّلَ يده، يا قومُ أنا في وادٍ، وأنتم في وادٍ آخر، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به”. قال: إذًا نسجنك، فقال: ” افعلوا ما بدا لكم”. فأخذوه وسجنوه في خيمة، فكان يقرأ فيها القرآن ويَتَعَبَّد ويذكر الله تعالى.

وفي إحدى المرات عقد إسماعيل اجتماعاً مع بعض زعماء النصارى الصليبيين، قريباً من خيمة العز بحيث يسمعون قراءته للقرآن، فقال: هل تسمعون هذا الذي يقرأ؟ قالوا: نعم. فقال متفاخرًا: هذا هو أكبر قساوسة المسلمين سَجَنَّاه؛ لأنه اعترض علينا في محالفتنا لكم، وتسليمنا لكم بعض الحصون والقلاع، واتفاقنا معكم على قتال المصريين. فقال له ملوك النصارى: والله لو كان هذا القسيس عندنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقته!  فأصيب الملك إسماعيل بالخيبة والذلِّ. ثم جاءت جنود المصريين، وانتصرت عليه وعلى من كانوا متحالفين معه من الصليبيين، وأفرجت عن الإمام العز بن عبد السلام .

– هذا موقف صرّح فيه العز رحمه الله  بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على رؤوس المنابر، ورأى أن هذا الذي يسعه، مع أنه كان يستطيع غير ذلك، ولكنه رأى أن هذا هو الأسلوب المناسب، خاصة أن الصليبيين في تلك الوقعة دخلوا شوارع دمشق ومدنها، وتجوَّلوا في أسواقها ودكاكينها، وكانوا يشترون الأسلحة من المسلمين؛ ولذلك وُجِّه إليه الاستفتاء: هل يجوز أن نبيع السلاح للنصارى؟ فأفتى بأن بيع السلاح إليهم لا يجوز؛ لأن من يبيعهم السلاح يعلم أنهم سوف يقاتلون بها المسلمين .

– كانت لهذا الإمام الجليل مواقف في مقاومة الظلم والظالمين,  مواقف عظيمة لولا أنها مُسَطَّرة في الكتب لقلنا إنها من الخيال، لكنها مكتوبة، والذين كتبوها علماء ثقات عاصروه وعاشروه وعاشوا معه .

 2– الشيخ ” محمد أبو الأنوار” ورفضه للظلم

 روى الجبرتي: أنه لما حضر حسن باشا الجزائري إلى مصر وخرج الأمراء المصريون إلى الجهة القبلية واستباح أموالهم، وقبض على نسائهم وأولادهم، وأمر بإنزالهم لسوق المزاد لبيعهم زاعماً أنهم أرقاء لبيت المال، اجتمع الأشياخ وذهبوا إليه وخاطبه الشيخ ” محمد أبو الأنوار” قائلاً له: أنت أتيت إلى هذه البلاد وأرسلك السلطان لإقامة العدل ورفع الظلم كما تقول أو لبيع الأحرار وأمهات الأولاد وهتك الحريم؟ فقال: هؤلاء أرقاء لبيت المال, فقال له: هذا الأمر لا يجوز ولم يقل به أحد؛ فاغتاظ غيظاً شديداً وطلب دوانه وقال له: اكتب أسماء هؤلاء وأخبر السلطان بمعارضتهم لأوامره فقال له أحدهم: نحن نكتب أسماءنا بخطنا! فأفحم وكف عن إتمام قصده وتتبُّع أموال الأمراء وودائعهم، وكان إبراهيم بك قد أودع عند ” أبي الأنوار” وديعة فأرسل الوالي يطلبها فامتنع عن دفعها قائلاً : إن صاحبها على قيد الحياة, فاشتد غيظ الباشا عليه وقصد البطش به فحماه الله منه ببركة الانتصار للحق فكان حسن باشا  يقول: “لم أر في جميع الممالك التي وليتها من اجترأ على مخالفتي مثل هذا الرجل فقد أحرق قلبي” .

3 – الشيخ الشرقاوي يقود عصياناً مدنياً ضد زعماء الظلم  

تزعم شيخ الأزهر ” الشرقاوي ” ثورة على أمراء الظلم والجور في مصر عام 1209 هـ كان سببها أن حضر إليه أهل قرية بلبيس بالشرقية وذكروا له أن أتباع ” محمد بك الألفي” ظلموهم وطلبوا ما لا قدرة لهم عليه, فاغتاظ الشيخ من ذلك وجمع المشايخ وقفلوا أبواب الجامع الأزهر وذلك بعد أن خاطب ” إبراهيم بك ” و” مراد ” ولم يقضيا شيئاً, وأمر الشيخ بإغلاق الأسواق والحوانيت ثم ركبوا ثاني يوم إلى بيت السادات وتبعهم كثير من العامة وازدحموا أمام الباب بحيث يراهم ” إبراهيم بك ” فأرسل إليهم يسألهم عن مرادهم فقالوا: نريد العدل وإبطال الحوادث والمكوث التي ابتدعتموها، فقال: لا يمكن الإجابة إلى هذا كله فإنّا إن فعلنا ذلك كله ضاقت علينا المعايش, فقالوا: ليس هذا بعذر عند الله وما الباعث على الإكثار من النفقات والمماليك, والأمير يكون أميراً بالإعطاء لا بالأخذ, وانفض المجلس وركب المشايخ إلى الجامع الأزهر واجتمع أهل الأطراف وباتوا فيه فما كان من ” مراد ” إلا أن عاد فخطب ودهم وطلب منهم الصلح” .

 4 الشيخ المراغي وخطبته الشهيرة

عندما نشبت الحرب العالمية الثانية وكانت مصر تحت الاحتلال البريطاني أعلنت الحكومة انضمامها إلى الحلفاء, فخطب الشيخ ” المراغي ” وقال كلمته المشهورة: ” هذه الحرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل “. أحدثت هذه الخطبة ضجة هائلة وقامت لها الحكومة المصرية وقعدت، واهتم بها بريطانيا العُظمى  وطلبت من الحكومة المصرية بياناً عن هذه الفكرة واتصل رئيس الوزراء بالشيخ المراغي وخاطبه بلهجة تفوح منها رائحة التهديد فثارت ثائرة الشيخ وقال له: مثلك يهدد شيخ الأزهر، وشيخ الأزهر أقوى بمركزه ونفوذه بين المسلمين من رئيس الحكومة, ولو شئت لرَقِيت منبر الحسين وأثرت على الرأي العام ولو فعلت لوجدت نفسك على الفور بين عامة الشعب.

 5 – عبد الحميد بن باديس وجرأته في مواجهة الاستعمار

 استدعاه يوما المندوب الفرنسي وقال له: ” إما أن تُقلع عن تلقين تلاميذك هذه الأفكار وإلا أرسلت جنوداً لإغلاق المسجد الذي تنفث فيه هذه السموم ضدنا وإخماد أصواتك المنكرة”, فأجاب الشيخ: ” أيها المسيو الحاكم: إنك لا تستطيع ذلك؛ فاستشاط المسيو غضباً وقال: كيف لا أستطيع؟ قال الشيخ: إذا كنت في عُرس علمت المحتفلين، وإذا كنت في مأتم وعظت المُعزين، وإذا جلست في قطار علمت المسافرين، وإن دخلت السجن أرشدت المسجونين، وإن قتلتموني ألهبت مشاعر المواطنين فخير لك أيها المسيو ألا تتعرض للأمة في دينها ولغتها” .

6 – الشيخ علي الصعيدي لا يركن للظالمين

كان الشيخ الصعيدي ذا مهابة تُوجب على علي بك الكبير أن يقبل يده, وكان الشيخ يمنع شرب الدخان ويفتى بتحريمه فصار علي بك يحرص على أن يخفى أدوات التدخين إذا علم بمجيئه خشية غضبه, وكان الناس يلجئون إليه إذا مسهم الضر فيسجل شكاواهم في صحيفة خاصة ويتحدث مع الحاكم في كل شكوى على حدة ولا يُلقى بالاً لتضايقه البارز في قطوب وجهه بل كان يصيح في وجهه قائلاً : ” لا تأسف فالدنيا فانية وسيسألنا الله عن تأخرنا في نصحك إن لم نفعل ” ثم يمسك بيده قائلاً : ” أنا أخاف على هذه الكف من نار جهنم يوم الحساب”. وقد لاحظ تلكؤاً في إجابة بعض مطالبه فخرج غاضباً ونفر الناسُ وراءه وارتبك الأمير فحاول اللحاق به مُعتذراً فأصر الشيخ على ألا يعود وأخذ يتلو قول الله تعالى: ” وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ” (هود 113) .

 7- الشيخ محمد الغزالي رحمه الله يعصي أوامر وكيل وزارة الأوقاف

يقول الشيخ محمد الغزالي: أذكر أن وكيل الوزارة كلَّفني يوماً أن أضع خطبة محترمة في ” تحديد النسل “، لأن المشروع يوشك على الفشل. فقلت له: إن مشكلة الانفجار السكاني في العالم لا تُحلّ على حساب المسلمين وحدهم. قال: ماذا تعني؟ قلت: التعليمات صدرت لغيرنا أن يتكاثروا، فلا أعمل أنا على تقليل المسلمين. فقال في عبوس: أنت موظف، وقد أمر الرؤساء بشيء فيجب تنفيذه. فقلت في صرامة: أنا لست موظفاً في بيت أحد الرؤساء، أنا وأي رئيس موظفون في جهاز إسلامي حسيبنا فيه الله، فأنا أرعى ربي قبل أي إمرئ آخر، أنا ورئيس الدولة نأخذ مرتباتنا من وعاء واحد، من مال المسلمين، أنا لا آخذ مرتبي من كيس أحد حتى أجعل ولائي له من دون الله. فأشاح مُعرضاً، وانصرف مُغضباً، وبعد أيام أرسل إليَّ، وقال: يا سيدي كتب الخطبة غيرك. قلت: ليكتب من شاء ما شاء، أمّا أنا فلا أبيع ديني لأحد. إنني أكره الشيوخ الذين يسترضون الرؤساء بالفتاوى الجهلاء، إنهم يدورون – في القاهرة وفي كل عاصمة – بذممهم، كما يدور سائق السيارة الأجرة بعربته، يتلفت: هل من راكب؟ قبحهم الله، وقبّح من كلّفهم، وقبل منهم .

8- موقف الصامدين في ساحات الجهاد وخلف القضبان

إن أمثلة الصامدين في ساحات الجهاد وخلف القضبان وفي الميادين في داخل مصر وخارجها كثيرة بل أكثر من أن تُذكر في مقال فهي تحتاج إلى كتب بل مجلدات. ويكفينا أن نُدلل بمثال واحد للأستاذ محمد مهدي عاكف الذي عاش طوال حياته مُقاوماً للظلم والظالمين؛ فلقد قاوم الإنجليز وقام بتدريب الفدائيين في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينات ، ورأس معسكرات جامعة إبراهيم (عين شمس حاليًا) في الحرب ضد الإنجليز في القناة حتى قامت الثورة، وسلَّم معسكرات الجامعة لـكمال الدين حسين المسئول عن الحرس الوطني آنذاك. وتم اعتقال عاكف  في عهد عبد الناصر ومبارك. وفي العهد الحالي – وقد بلغ من العمر عِتياً – يقبع في سجون الظالمين ولا ينبس بكلمة تداهنهم أو تُجمل من وجههم. إننا لا نتعجب من ذلك فهو لم يُداهن الظالمين ولم يمالئهم في شبابه – ولو فعل حينها لاعتبروه بطلاً قومياً – فكيف له أن يُداهن وهو على أعتاب التسعين من عمره؟

أكتفي بهذه الأمثلة علمًا بأن كل العصور فيها شخصيات فذة تُناطح الجبال في شموخها ونبوغها ويقينها وحُسن إيمانها وظنها بالله عز وجل مما يجعل العالم بأسره يدين لهم إلى يومنا هذا.

شاهد أيضاً

الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي يكتب :التوكل في أمر الرزق

مجال التوكل واسع، ومتعلقه شامل لكل ما يطلبه الخلق ويحرصون عليه، من أُمور الدنيا، ومطالب …