الأمة ودورها في مقاومة الظلم والظالمين ( 2 )

تحدثنا في مقال سابق عن آفة الظلم, وقلنا: إنه ( وضع الشيء في غير موضعه ), وذكرنا أن هناك أشكالاً مُتعددة للظلم تعافها النفس السوية، وبيَّنا أن الشرع والعُرف والفِطرة السَّوية تأبى الظلم وتُوصِي بمقاومته، وأشرنا إلى ثوابت يجب مراعاتها حال مقاومتنا للظلم والظالمين، كما تحدثنا عن الغرض من مقاومة الظلم ووسائل مقاومته . وهنا نتحدث – بفضل الله تعالى ومنته – عن:

أولاً: العبرة من ذِكْر مصارع الظالمين

إن العاقل من اعتبر بغيره ولم يكن هو عِبْرَة لغيره, فإن الله عز وجل قد جعل من بعض خلقه الظالمين والجاحدين والغافلين عِبْرَة لغيرهم من الخلائق لينزجروا بهم كما قال الله عز وجل: ” قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ {137} ” ( آل عمران 137 ) . والله تعالى يختم أخبار هلاك الظالمين من الأمم المُكذِّبة لرسلهم بقوله تعالى: ” إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ، الألباب، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون، يذكرون، يعقلون” لنعلم أن المراد من ذلك هو العظة والاعتبار .

هذه السُّنَّة الربانية المتكررة عبر الأزمان – هلاك الظالمين – يحتاج إلى قراءتها وفهمها كل البشر سواء أكانوا من الظالمين أم من المظلومين؛ فالظالمون يحتاجون إلى قراءتها وتدبرها وفهمها، لعلهم يرتدعون عن ظلمهم ويرجعون عن غيهم فيشكرون الله تعالى على ما مَنَّ به عليهم من القوة والسيادة في الأرض بإقامة العدل، ورفع الظلم، وعدم استغلال ضعف الضعفاء بالتسلط عليهم، ونهب ثرواتهم ومُقدراتهم، وتبديل دينهم وثقافتهم تحت مشاريع ومُسَمَّيَات ما أنزل الله بها من سلطان .

والمظلومون في أَمَس الحاجة إلى معرفة سُنَّة الله تعالى في هلاك الظالمين لأن معرفتهم بعواقب المجرمين ومَصارع الظالمين تزيد الإيمان لانتقالها من علم اليقين إلى عين اليقين، تزيدهم إيمانًا بدينهم، ويقينًا إلى يقينهم، وثباتًا عليه مهما كانت التبعات والتضحيات. كما أن فيها تسلية لهم، وفتحًا لأبواب الفرج والنصر، وكلما زاد ظلم الظالمين، واستكبار المجرمين، وأصرَّوا على تغيير معالم الدين عَلِمَ المؤمنون أن هلاك الظالمين بات وشيكًا، وأن سُنَّة الله الماضية في الظلم وأهله قد أَزِفَ وقوعها؛ لتكون عذابًا على الظالمين، ورحمة ونجاة للمؤمنين، كما مضت سُنَّة الله تعالى في الظالمين السابقين الذين هلكوا في أوج قوتهم وسيادتهم، واستفحال ظلمهم وطغيانهم .

 ثانياً: الظالم يميته الله موتات ولا يهنأ له عيش

إن أحوال الظالمين ومَصَارِعَهُم تنبأنا بعاقبة كل من حاد عن طريق الله والصراط المستقيم وسبحان من عجَّل للظالمين العقوبة في الدنيا قبل الآخرة, فالظلمَ يجعل صاحبه في حبس دائم، لا يسير إلا وحوله حرس مُدَجَّج بالسلاح، لا ينام ولا يصحو إلا وهو مُتخوِّف من المظلوم الذي يريد أن ينتقم منه . قال تعالى: ” وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً {104} ” ( النساء 104 ) .

فالظالم وإن كان حوله الجُند والخدم والحشم ومَنْ يُزينون له الظلم، إلا أن الله تبارك وتعالى لا يمنعه من أخذه مانع، ولو كان الظالم في بُروج مُشيدة،أو مَنْعَة وشِدَّة، وقد أرانا الله تعالى مصارع الظالمين لتكون عِبْرة؛ أرانا ماذا فعل مع فرعون وهامان، وقارون، وماذا فعل مع النمرود، ومع سائر الظالمين. فكم من بيوت كانت تعُج بالظالمين قطع الله دابرهم وماتوا شر ميتة فصارت ديارهم خراباً من بعدهم، ونُكِّثت راياتهم، ودُمِّرت عروشهم، وبدَّد الله مُلكهم. قال تعالى: ” فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ {44}‏ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {45} ” (الأنعام) .

 ثالثاً: دعوة المظلوم وهلاك الظالمين

– دعوة المظلوم سهم لا يُرد ولا يُخطئ، فيا بُؤس الظالم ينام ملء عينيه والمظلوم يدعو عليه، يجأر إلى الله أن ينتقم منه، وأن يُشتت شمله، ويُعَجِّل عِقابه، وينزل به بأسه، ويحل عليه سخطه، ويأخذه أخذ عزيز مُقتدر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ” ثلاثة لا تُرد دعوتهم الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين ” ( رواه الترمذي ).

يستجيب الله تعالى لدعوة المظلوم  حتى لو كان فاجراً؛ فدعوته مُستجابة, وفجوره على نفسه، ودعوة المظلوم على الظالم تصعد إلى الله, فما بالك بدعوة التقي الصالح أو العالم الرباني ومن بذل نفسه لله تعالى؟

1- ورد في كتاب الكبائر للذهبي، عن وهب بن منبه قال: بني جبار من الجبابرة قصراً وشيَّده فجاءت عجوز فقيرة فبنت إلي جانبه كُوخاً تأوي إليه فركب الجبار يوماً وطاف حول القصر فرأي الكُوخ فقال: لمن هذا؟ فقيل لامرأة فقيرة تأوي إليه، فأمر به فهُدِم، فجاءت العجوز فرأته مهدوماً فقالت: من هدمه؟ فقيل: الملك رآه فهدمه، فرفعت العجوز رأسها إلى السماء وقالت: يارب إذا لم أكن أنا حاضرة فأين كنت أنت؟ قال: فأمر الله جبريل أن يقلب القصر علي من فيه فقلبه.

2- حُكِي أن رجلاً من قتَلَة الحُسَين بن عليٍّ رضي الله عنه رمَى الحُسين بسهمٍ فقال الحُسين: يا هذا! ائتنِي بماءٍ أشربه، فلما رماهُ هذا الرجل حالَ بينَه وبين الماءِ، فقال الحُسَينُ: اللهم أظمِئْهُ، فرُئِي هذا الرامي عند موته في الاحتِضار وهو يصيحُ من الحرِّ في بطنِهِ، ويصيحُ من البردِ في ظهره، فبين يدَيْه المراوِحُ والثلجُ وخلفَه المصطلي – موقد التدفئة – وهو يقول: أسْقُوني أهلَكَني العطشُ، فيُؤتَى بإناءٍ عظيمٍ فيه السَّوِيْقُ – وهو الماء واللبن –  لو شرِبَه خمسةٌ لكفاهم، فيشربَه جميعًا، ثم يعودُ فيقول: أسْقُوني أهلكَني العطشُ، ثم انقدَّ بطنُهُ – انشق – كانقِداد البَعير .

3- قيل إن الحجاج بن يوسف الثقفي الذي قتل مائة وعشرين ألفاً ومات وفي سجونه خمسين ألف رجل، وثلاثين ألف امرأة، وكان يحبس النّساء والرجال في موضع واحد، ولم يكن للحبس ستر يستر النّاس من الشمس في الصيف ولا من المطر والبرد في الشتاء ومن أشهر ضحايا هذا الطاغية أكبر علماء الأرض حينذاك ” سعيد بن الجبير” الذي دعا الله على الحجاج عند قتله له فقال: اللهم لا تُسَلِّط هذا المُجْرِم على أحد من بعدي. وتقبل الله تعالى منه هذا الدعاء. وقد ذكِر أن الحجاج أصيب بمرض ” الأكلة ” في بطنه وكان يهرش بطنه بيديه الاثنتين حتى يدمى إلى درجة أنهم كانوا يكوونه بالنار على بطنه لتخفيف تلك الأكلة التي أصيب بها ولم يكن يشعر بحرارة النار ويقول الرواة إنه كان يبكي كالأطفال من شدة الألم وقد شكا حاله إلى العالم الكبير الحسن البصري الذي قال له: كم قد نهيتك يا حجاج أن لا تتعرض لعباد الله الصالحين لكنك لم تنتهي, وهذا جزاؤك. فقال الحجاج بصوت يملؤه الأسى والألم: إني لا أطلب منك أن تدعو الله حتى يشفيني ولكني أطلب منك أن تسأل الله أن يُعَجِّل قبض روحي ولا يطيل عذابي. ويُقال إن الحسن البصري بكى بكاء شديداَ من شدة تأثره لحال الحجاج.

4- وحكي أيضاً أن الحجاج حبس رجلاً ظلماً فكتب له رقعة قال له فيها: قد مضي من بُؤسنا أيام ومن نعيمك أيام والموعد القيامة والسجن جهنم والحاكم لا يحتاج إلي بَيِّنَة ثم قال له:

أما والله إن الظلم شُؤم ومازال الظلوم هو المَلوم

ستعلم يا ظلوم إذا التقينا غداً عند المليك من الظلوم

إلي دَيَّان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخُصوم

5- يُحكى أن وزيراً ظلم امرأة بأخذ مزرعتها وبيتها، فشكته إلى الله فأوصاها مُستهزئاً بالدعاء في ثلث الليل الأخير، فأخذت تدعو عليه شهراً، فابتلاه الله بحاكم فوقه قطع يده وعزله وأهانه، فمرت عليه وهو يُجلد فشكرته على وصيته وقالت:

إذا جار الوزير وكاتباه وقاضي الأرض أجحف في القضاء

فويل ثم ويل ثم ويل لقاضي الأرض من قاضي السماء

6- وفي العصر الحديث إذا تحدثنا عن الظالمين فهناك أمثلة بارزة أمثال حمزة البسيوني وشمس بدران وصفوت الروبي وغيرهم. يذكر علي عشماوي في مذكراته أنه كان مُعلقاً ويتم ضربه بالكرباج وأمامه شمس بدران مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر يدعوه للاعتراف عندما دخل عليهم رجل طويل أبيض له شارب غليظ وقال له شمس بدران: تفضل يا باشا. وأمسك ذلك الرجل – الذي علم علي عشماوي فيما بعد انه حمزة البسيوني –  برقبته وأخذ يضغط علي الحنجرة ضغطات معينة كان من الواضح انه مُدرَّب عليها وكلما ضغط قارب الرجل المُعلق على الإغماء فيتركه قليلاً وهكذا, وكان العذاب لا يُحتمل. ويحكي ” عشماوي ” أيضاً كيف كان حمزة البسيوني يضربه بالسوط بنفسه فيلسع به إحدى خصيتيه فلا يخطئها في كل ضربة .

– وفي نهاية حياته ظل حمزة البسيوني غائباً عن الإعلام والأضواء بعد خروجه من السجن، وتناساه الناس إلا ضحاياه الذين أصيب بعضهم بعقد نفسية وأصيب البعض الآخر بعاهات جسدية. وفي عام 1971 في أول أيام عيد الفطر المبارك كان حمزة مسافراً من الإسكندرية إلي القاهرة ومعه شقيقه راكباً إلى جواره واصطدمت سيارته بإحدى السيارات المحملة بحديد مبان ومات حمزة وشقيقه وتعرضت جثته لتشويه غريب نتيجة دخول عدد من الأسياخ الحديدية فيها . دلت المعاينة وشهادة الشهود على أن سائق السيارة القتيل كان يقود سيارته بسرعة غريبة وكانت أمامه سيارة نقل مُحَمَّلة بأسياخ الحديد التي تتدلي من مؤخرة السيارة ودون أن يتنبه استمر في سرعته حتى اصطدم بالسيارة النقل وحينها اخترقت أسياخ الحديد ناصية القتيل ومزقت رقبته وقسمت جانبه الأيمن حتى انفصل كتفه عن باقي جسده ” .

– وفي أيامنا هذه, وبعد العديد من المجازر التي شهدتها مصر مثل اقتحام اعتصامي رابعة والنهضة، ومجازر الحرس الجمهوري والمنصة ورمسيس، وأحداث مسجد الفتح، وقتل الأحرار والحرائر في المنصورة وغيرها من المحافظات، والتصفية الجسدية للمعارضين، وانتهاك الأعراض في السجون والمعتقلات، ومازال الستار يخفي العديد من الانتهاكات التي يتستر عليها مرتكبوها، وما زالت الأيام حبلى بمصارع الظالمين وأعوانهم ومن أحلوا لهم سفك الدماء حيث تطالعنا وسائل الإعلام كل يوم بنهاية مأساوية لأحد الظالمين، فهذا يموت في حادث مروع، وذاك يموت بسكتة قلبية أو جلطة بالمخ أو بمرض خبيث. والأيام القادمة ستكشف الستار عن المزيد من الأمثلة للظالمين والنهايات التي تشفي صدور قوم مؤمنين.

– نسأل الله عز وجل في عليائه أن يُجنبنا مصارع الظالمين وأحوالهم كما نسأله سبحانه وتعالى أن يحفظنا من الظالمين وبطشهم .

شاهد أيضاً

د علي الصلابي يكتب : كيف يكسب القادة المخلصون قلوب الناس؟.. مشاهد من سيرة الملك العادل نور الدين الزنكي

إنّ القيادة الصحيحة هي التي تستطيع أن تقود الأرواح قبل كلٍّ شيء، وتستطيع أن تتعامل …