الشهادة في سبيل الله درب المصلحين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم … وبعد،،،
فإن ملاحم النصر قد اقترنت في تاريخ الإسلام بمعالم الشهادة في سبيل الله تعالى، والتضحية بكل غال ونفيس، والذود عن الدين بكل متاح وممكن؛ فكان النصرُ مع الشهادة صِنوين لا يفترقان، قرينين لا يبتعدان، وكانت وما زالت الشهادة في سبيل الله أسمى أمنية لكل صالح مصلح وكل مؤمن يدرك الحقيقة ويفهم دينه الفهم الصحيح، وحينها لن يكون بعيدًا عن موعود الله بالنصر والتمكين.
إن مقاييس النصر في الإسلام لا تحتسب بعدد الشهداء ولا بكثرة الدماء التي تبذل رخيصة في سبيل الله، ولكن للنصر في الإسلام معايير ترتبط بنصرة الحق والثبات عليه وعدم التفريط فيه وإثخان العدو والحيلولة بينه وبين تحقيق مراده والوصول إلى أهدافه.
ولقد كان طوفان الأقصى جليًّا في تأكيد هذه المعاني، صريحًا في الوقوف على هذه الحقائق الحاسمة، فهاهم الرجال بعد وقف إطلاق النار يقفون شامخين منتصرين يخرجون من كل حدب وصوب يسلمون الأسرى ويثبتون أن عدوهم لم ولن ينجح في كسر إرادتهم أو إضعاف شوكتهم، وأن راية الجهاد باقية وروح المقاومة مستمرة وبأسَ المؤمنين لن يفلَّه قهرُ المجرمين.
وبالوقوف على معالم النصر والشهادة في تاريخ الإسلام نجد أنفسنا أمام معالم تاريخية كثيرة تذكرنا بارتباط النصر بالشهادة، فنجد أنفسنا على أعتاب الذكرى السادسة والسبعين لاستشهاد الإمام المؤسس حسن البنا في 13 من شعبان الموافق 12فبراير، وقريبًا من ذكرى مولده في 25 شعبان1324ه الموافق 14/10/1906 حيث أسس بين البداية والنهاية أجيالًا من العاملين للإسلام، وغرس نواة رجال كانوا روحًا تسري في الأمة فتحييها بعد موات، وفي 14 شعبان 1416هجرية الموافق 5/1/1996 ارتقى المهندس يحيي عياش شهيدًا بعد رحلة من الجهاد والعمل الجاد لنصرة دينه ووطنه، واستشهد في 06 شعبان 1367 هجرية الموافق 13/7/1948 الشاعر عبدالرحيم محمود والذي كان له باعٌ طويل في الجهاد مع القائد عز الدين القسام في معركة الشجرة ضد العصابات الصهيونية.
وتلتحم ذكريات الشهادة العزيزة مع وقائع النصر المظفر للمسلمين، ففي العام الثاني عشر الهجري في العاشر من شعبان كانت معركة “الحصيد” بين المسلمين بقيادة القعقاع بن عمرو التميمي وبين الفرس بقيادة أميرين؛ هما: روزبة و زرمهر فاقتتلوا قتالًا شديدًا، وهُزم المشركون، فقتل المسلمون منهم خلقًا كثيرًا، وقتل القعقاعُ بيده زرمهر.
وفي اليوم التالي مباشرة، في يوم 11 من شعبان 12هـ 21 من أكتوبر 633م كانت معركة «الخنافس» بين المسلمين بقيادة عروة بن الجعد البارقي ونصارى العرب أثناء الفتح الإسلامي للعراق، وقد انتصر المسلمون في هذه المعركة.
وفي العام الثالث عشر الهجري في الثالث والعشرين من شعبان انتصر المسلمون في معركة الجسر بقيادة الصحابي الجليل أبي عبيد بن مسعود الثقفي، ضد الفرس بقيادة ذي الحاجب بهمن جاذويه، وأضافت هذه المعركة سبعة شهداء من قادة المسلمين، علاوة على الكثير من الشهداء.
معايير النصر في الإسلام
إن معايير النصر في الإسلام مختلفة عما تعارف عليه بعض الناس من تحقيق الأهداف أو الوصول إلى الغايات، فقد أمر الله المؤمنين بنكاية المعتدين ومواجهة البغاة المجرمين، واشترى منهم بذلك أنفسهم وأموالهم، ليس مقابل النصر الدنيوي بمعايير الناس، بل بالجنة والفوز العظيم: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة 111).
ولا يقاس النصر في الإسلام بكثرة الشهداء أو تعاظم التضحيات، وإنما يقاس بنصرة الحق واتباع طريقه، بلا تغيير ولا تبديل ولا تنازل، والثبات والصمود في مواجهة الأعداء بلا تردد أو خوف أو جزع ، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} (محمد 07).
من معايير النصر في اﻹسلام النكاية في العدو وإرباكه وإضعافه وإسقاط هيبته، يقول الله تعالى : {مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} (الحشر 05).
ومن معالم النصر انتصار المظلوم من عدوه الذي أثخن فيه، يقول تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء 227)، {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ} (الشورى 41).
وخذلان العدو وفشله في تحقيق أهدافه هو نصر مبين، يقول تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} (آل عمران 127).
وانتصار الحجة والتعريف بالقضية التي بلغت العالمين، وآمن بعدالتها خلق كثير، هي من معالم النصر، يقول تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ..} (اﻷنعام 148–149).
انتصرت غزة وخاب المخذِّلون
واليوم ونحن أمام الطوفان نجد ملاحم الشهادة ترتبط بمعالم النصر الذي حققه الله في غزة على يد هذه الثلة المباركة فحققت نصرًا رغم الدماء وأعداد الشهداء، والتضحيات الهائلة والدمار الكبير الذي أتى على أكثر من 80% من البنية التحتية والمنازل والمدارس والمستشفيات، وتعرُّض شبكات المياه والكهرباء للتدمير، وتزايد معاناة المواطنين مِن نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، ووضع إنساني كارثي بسبب الحصار المستمر.
نعم لقد انتصرت غزة باعتراف الاحتلال الصهيوني بخسارته المعركة، وبحجم التغيير الجيوسياسي للكيان الغاصب، وبانهيار أسطورته التي أراد أن يفرضها بأنه الجيش الذي لا يُقهر، وانتصرت غزة عندما فشلت محاولات الولايات المتحدة في تعيين هذا الكيان شرطيًّا على المنطقة وقاطرة سياسية من خلال محاولات التطبيع الرسمية الفاشلة مع الأنظمة العربية.
انتصرت غزة عندما أثخنت الجراح في عدوها الذي فشل في استرداد أسراه بالحرب، وردت كيدهم وأجبرتهم على الاستسلام لشروط المقاومة، وانتصرت غزة عندما ظهرت المقاومة بعد وقف إطلاق النار قويةً فتيَّةً تودع شهداءها بفخار وتغيظ أعداءها بكل قوة.
انتصرت غزة عندما أفشلت مخططات التهجير التي كانت جاهزة ومرتبة لنقلهم إلى سيناء أو إلى صحراء النقب كما أعلن المنقلب من قبل؛ بهدف الانفراد بالمقاومة وحرمانها من الحاضنة الشعبية، وسوف تؤكد انتصارها بدحض دعاوى المتآمرين للتهجير حتى وإنْ صدرت هذه الدعاوى من رئيس أكبر دولة في العالم وأيَّده فيها بعض المتخاذلين هنا أو هناك.
وانتصرت غزة عندما أرغمت الاحتلال على الدخول في مفاوضات شاقة وطويلة مع المقاومة، التي ظنت أنها تريد التخلص منها والقضاء الكامل عليها، وإذا بها تتفاوض معها من خلال الوسطاء.
وانتصرت كل فلسطين عندما عادت قضيتها إلى واجهة الأحداث والاهتمام الدولي، بعد أن كان يُراد لها أن تختفي من خريطة الاهتمامات الدولية، وانتصرت عندما آمن بعدالتها قطاعات شعبية واسعة في الغرب وخاصة من جيل الشباب.
بل وانتصرت الأمة بظهور جيل جديد من الشباب في كل بلدان العالم الإسلامي آمن بأن فلسطين هي القضية المركزية للأمة، وتعرَّف عليها بعد أن حاولت مخططات الأعداء وفرق التطبيع العربية أن تحرم هذه الأجيال من معرفة الحقيقة.
وأخيرا انتصرت غزة عندما نجحت في تعرية الأنظمة المتخاذلة ووضعتها أمام شعوبها في الموقع الذي تستحقه، وكشفت الباطل والزيف الذي حاولت أن تسوقه خلال سنوات طوال، فباتت الشعوب الإسلامية على بيِّنة بخفايا تلك الأنظمة وولاءاتها الحقيقية.
إن المحاولات الأخيرة من الاحتلال للانتقال بجرائمه من غزة إلى الضفة ستبوء، هي الأخرى، بحول الله، بالخسارة والفشل ولن تنجح في إطفاء وهج المقاومة الذي أطلقه الطوفان عندما اقتلع جذور الخوف من القلوب، وشحذ الهمم لمواجهة احتلال غاشم لن يفلح معه سوى المقاومة بكافة الوسائل.
ذكرى التنحي وإرهاصات الأمل
وفي أثر ثورة يناير الخالدة، ونحن على مقربة من ذكرى تنحي مبارك، تعيش مصر اليوم في ظل حدث دولي وإقليمي متغير، وفي إطار حالة من الاحتقان الشعبي غير المسبوق وتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بما يهدد بكوارث وتغييرات في بنية المجتمع نتيجة تغييب الدعاة والمصلحين وإخفاء صوت الدالين على الخير، والتصدي لكل من يسعى لتضميد جراح المجتمع وإصلاح ما فسد منه وإعادة ما غاب عنه من قيم.
إن الناظر إلى حركة التغير في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي المصري يدرك أن الاستمرار في هذه المنظومة مهلكة للجميع وضياع لحاضر المصريين ومستقبلهم، ويلمح – في الوقت ذاته – حالة من الوعي المتنامي لدى الشعب المصري مبشرةً بأن واقعًا كهذا لن يستمر طويلًا، وأن الخلاص ربما يكون قاب قوسين أو أدنى.
ذلك أن استمرار هذا الانقلاب يهدد كيان المجتمع والدولة المصرية ومؤسساتها المملوكة للشعب، ويزيد ويطيل من حالة الضعف والتراجع متعدد المستويات، ومن أهمها التأثير الإقليمي والدولي، لا سيما في القضايا التي تمس جغرافيتها وأمنها القومي في فلسطين والسودان وإفريقيا.
رسوخ نقطة انطلاق نحو التطوير
دشّنت جماعة الإخوان المسلمون خلال المرحلة الماضية مشروع رسوخ ليعبر عن المنطلقات والثوابت التي ترتكز عليها هذه الدعوة المباركة، وليكون هذا المشروع بوابة على كافة عمليات التطوير والبناء، واستئناف العمل الجاد؛ لتحقيق رسالة هذه الجماعة المباركة وأهدافها المرجوة.
لقد أخذت الجماعة على عاتقها ووضعت نصب أعينها جهود تطوير الأداء، ورفع الكفاءة، والتحرك الجاد لتحقيق الأهداف، ضمانًا لاستمرارية العطاء؛ انطلاقًا من الثوابت، وصناعة الأفكار التي تسهم في وصول الجماعة إلى بغيتها، مدركة أن جهود التطوير لن تنجح في الوصول إلى غاياتها ولن تحقق أهدافها إلا عندما تنطلق من ثوابت راسخة، ومحددات ومعالم واضحة.
إن عملية التطوير والتقييم قد تضل الطريق وتحرث في الماء إذا كانت بلا قواعد وأصول ومن غير محددات وثوابت، وبدون بوصلة واضحة ترتكز على تاريخ عريق وواقع مشرِّف، وهو ما تستدرك الجماعة القيام بمتطلباته والتحرك من أجل الوصول إلى غاياته بعمل جاد دائب، يستوجب من جموع الإخوان؛ كلٌّ في موقعه، أن ينهضوا به ويتحملوا تبعاته، ويواصلوا الليل بالنهار لخدمته، مستحضرين قول الله تعالى: {وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُۥ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة 105).
واللهُ أكبرُ وللهِ الحمد
أ. د. محمود حسين
القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة ” الإخوان المسلمون “
الخميس 30 رجب 1446 هجرية – الموافق 30 يناير 2025م