الانتخابات المحلية الفلسطينية .. السياق وسيناريوهات ما بعد التأجيل (2)

ماذا بعد قرار التأجيل؟

يبدو اللجوء إلى محكمة العدل العليا لتحقيق أغراض سياسية فئوية كالصعود إلى قمة الشجرة، ويفتح الباب أمام مخاطر جمة لجهة تحويل حالة الانقسام في المؤسسات إلى انفصال بينها، الأمر الذي يتطلب دراسة السيناريوهات المتعلقة بمصير الانتخابات المحلية بقدر عال من المسؤولية الوطنية، والعمل على إنجاح السيناريو الأكثر خدمة للشعب الفلسطيني ولهدف إنهاء الانقسام.

وبالرغم من أن تطورات عدة مرشحة للحدوث بشكل يؤثر على محاولة التنبؤ بمآلات الانتخابات المحلية بعد أربعة أشهر، إلا أن استقراء العوامل ذات العلاقة يتيح إمكانية الاجتهاد في تحليل السيناريوهات الرئيسية الآتية:

 

السيناريو الأول: إجراء الانتخابات في الضفة والقطاع:

ينسجم هذا السيناريو مع قرار الحكومة “بإجراء انتخابات الهيئات المحلية في كافة أرجاء الوطن في يوم واحد، إيماناً منا بوحدة الوطن، ووحدة الشعب، وحرصاً على استعادة الوحدة وإنهاء الانقسام، وتوحيد مؤسسات الوطن في إطار الشرعية والقانون” (وكالة معاً الإخبارية، 4/10/2016). لكن تحويل هذا الإيمان والحرص إلى واقع لا يبدو ممكناً دون توفير متطلباته عبر التوافق بين حركتي فتح وحماس وباقي الفصائل، وهو أمر صعب في ضوء حيثيات قرار المحكمة العليا التي رفضتها حماس.

وكان قد جرى التداول بشأن عدة مخارج قبل صدور هذا القرار، منها سحب الدعوى أمام محكمة العدل، والاتفاق على موعد جديد، على أن يتم سحب قوائم لكلا الحركتين في بعض المواقع. وقد صرح المتحدث باسم حماس سامي أبو زهري بأن الحركة رفضت عرضاً من فتح، عن طريق وسطاء، يقضي بتنازل حماس عن قائمة خانيونس مقابل تنازل فتح عن قائمة طولكرم، وبناءً على ذلك يتم إجراء الانتخابات بعد شهر من موعدها المحدد سابقاً في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر، معتبراً ذلك “دليلاً على تسييس قرار وقف الانتخابات” (موقع فلسطين اليوم، 25/9/2016).

وهناك من طرح مخرجاً آخر قوامه الاتفاق على موعد لإجراء الانتخابات مع تأجيلها في خانيونس، حيث قدمت معظم الطعون ضدّ قوائم فتح، على أن تعاد مجمل إجراءات العملية الانتخابية في خانيونس، بما في ذلك إعادة تشكيل وتسجيل القوائم الانتخابية.

أما المخرج الآخر، فكان يتمثل بالتوافق على إلغاء الانتخابات برمتها، ومن ثم إصدار قرار جديد بإجرائها، بما يشمل إعادة مجمل الإجراءات، بدءًا من إعداد ونشر سجل الناخبين وتسجيل القوائم والاعتراض وصولاً إلى الاقتراع، مع إمكانية تعديل القانون بالتوافق، بما يتيح تشكيل محكمة خاصة بقضايا الانتخابات المحلية.

وبالرغم من أن سيناريو إجراء الانتخابات في الضفة والقطاع هو المفضل، إلا أنه لا يبدو الأكثر ترجيحاً حتى الآن. فالتحضير لإجراء الانتخابات بعد أربعة أشهر بات يتطلب الالتزام بحيثيات قرار محكمة العدل، وخصوصاً “توفير البيئة القانونية لإجراء الانتخابات”، كما ورد في نصّ قرار الحكومة بتأجيل الانتخابات. والمقصود بذلك إيجاد مخرج لا يضفي “شرعية” على المحاكم في قطاع غزة، مما يعني إصدار مرسوم بتشكيل محكمة خاصة بقضايا الانتخابات تتولى صلاحية البت في الطعون، بعد إدخال تعديلات على قانون انتخاب مجالس الهيئات المحلية الذي ينص على أن تُقدم الطعون أمام المحكمة المختصة، وهي محكمة البداية في كل محافظة.

ربما كان يمكن لحركة حماس أن تدرس الموافقة على كل ذلك قبل صدور قرار المحكمة العليا، لكن سوف يكون من الصعب عليها، إن لم يكن من المستحيل، أن توافق عليه بعد قرار المحكمة، لأن الموافقة تعني إقراراً ضمنياً بالسياق الذي يندرج ضمنه القرار، وهو “نزع الشرعية” عن القضاء والمحاكم في القطاع.

ولو تمّ افتراض قبول حماس بتضحية كهذه، فلا توجد ضمانات بأن لا يتم استدعاء محكمة العدل العليا لاحقاً لتقديم دعوى جديدة تطعن بشرعية إشراف المؤسسات المدنية والأمنية في القطاع على عملية الانتخابات المحلية، مع إمكانية انسحاب ذلك على الانتخابات العامة في حالة التوافق على إجرائها.

لذلك، فإن تحقق سيناريو إجراء الانتخابات المحلية في الضفة والقطاع، يبقى مرهوناً بالاستجابة لدعوة القوى الوطنية والإسلامية، في ختام اجتماع لها في غزة عقب صدور قرار تأجيل الانتخابات، “لإطلاق حوار وطني فلسطيني جاد مسؤول يقود إلى إنجاز المصالحة، واستعادة الوحدة الوطنية، ومعالجة أزمة النظام السياسي الفلسطيني برمته”. أي بالتوافق الوطني على خريطة طريق لإنهاء الانقسام، تشمل تشكيل حكومة وطنية قادرة على الشروع بعملية إعادة توحيد المؤسسات المدنية والأمنية والقضائية، بما يساعد على إيجاد مخارج لمعالجة المشكلات التي أعاقت —وما تزال— إجراء الانتخابات.

 

السيناريو الثاني: إلغاء الانتخابات:

وهو احتمال وارد في حالة قيام الرئاسة والحكومة بإدخال تعديلات على قانون انتخاب مجالس الهيئات المحلية لا تحظى بتوافق وطني، وتثير موجة من الانتقادات في أوساط الفصائل والمنظمات الحقوقية والأهلية، وتؤدي إلى توسيع دائرة المقاطعة الوطنية والشعبية لإجراء الانتخابات، إضافة إلى رفض حماس تأجيل الانتخابات، وتمسكها بـ”استكمالها من حيث انتهت”، كما صرح أبو زهري، الذي عدَّ قرار التأجيل “نوعاً من التخبط والتهرب من الاستحقاقات الانتخابية، خدمة لمصالح فتح الفئوية”، مؤكداً رفض “أيّ مساس بشرعية المؤسسات القائمة في غزة” (وكالة سما الإخبارية، 4/10/2016).

ويُعدُّ هذا السيناريو أسوأ الاحتمالات في ضوء تداعياته على فرص إنهاء الانقسام، وعلى المكانة القانونية للقضاء والمحاكم في قطاع غزة بحكم الأمر الواقع. إذ إن عدم إمكانية إجراء الانتخابات في قطاع غزة بسبب مقاطعة حماس، وإمكانية تطور مواقف تطالب بالمقاطعة من قبل فصائل أساسية ومنظمات أهلية، قد تفضي للجوء إلى خيار تأجيل الانتخابات دون إعلان موعد محدد، ما يعني عملياً إلغاء الانتخابات.

هناك عوامل أخرى قد تدفع باتجاه سيناريو إلغاء الانتخابات، وخصوصاً خطر الانزلاق “المقصود” نحو حالة من الفوضى والفلتان الأمني في الضفة. وهو خطر قد يدفع باتجاهه الاحتلال، أو أصحاب المصلحة في عدم إجراء الانتخابات. فقد حذرت بعض التقارير الإعلامية من مخاطر تطور التدخل الإسرائيلي إلى حدّ إثارة حالة من الفوضى “المسيطر عليها” عشية إجراء الانتخابات المحلية، من خلال إشاعة الفوضى والتقاتل الداخلي، لا سيّما في البلدات والقرى الواقعة في المنطقتين ب وج (موقع فلسطين اليوم، 30/8/2016).

كما أن حالة الفوضى قد تتطور نتيجة لاحتدام الصراعات على مواقع القوة والنفوذ في الضفة، وانتشار السلاح بأيدي العائلات في العديد من المناطق. ولعل ما يعزز المخاوف من هذا الخطر المواجهات بين فينة وأخرى بين قوى الأمن ومسلحين تعدُّهم مطلوبين لها في نابلس وغيرها، والخشية من تطور الصراع الداخلي في فتح على خلفية تفاقم الخلافات مع تيار دحلان، وصعوبة إعادة تشكيل قوائم موحدة لحركة فتح في المستقبل، لا سيّما أن الانتخابات المحلية سوف تجرى وفق قرار الحكومة بعد المؤتمر العام السابع لحركة فتح الذي تجري ترتيبات لعقده قبل نهاية السنة على أساس إقصاء دحلان والمؤيدين له، ما يهدد باحتدام الصراع على مواقع القوة والنفوذ، وخصوصاً في الضفة.

 

السيناريو الثالث: إجراء الانتخابات في الضفة:

ثمة أصوات تطالب بإجراء الانتخابات في الضفة الغربية فقط، لا سيّما أن ذلك كان الهدف من قرار إجراء الانتخابات المحلية في ضوء الرهان على رفض حماس لإجرائها في القطاع. ويرى أصحاب هذا الرأي أن قرار محكمة العدل العليا يتيح إجراء الانتخابات في الضفة، مع إمكانية تأجيلها في القدس إلى مرحلة لاحقة كإجراء يتيحه القانون، أو حتى تجزئة إجراء الانتخابات على مراحل كما حدث في المرة السابقة، بما يتيح إجراء الانتخابات في المواقع التي تضمن فتح الفوز فيها، وتأجيلها بانتظار توفر شروط الفوز في مواقع أخرى.

يبدو هذا السيناريو مرجحاً لعدة أسباب، من أهمها:

– رفض حماس لقرار محكمة العدل العليا من الأساس، وصعوبة قبولها المشاركة في عملية انتخابية تتأسس على المساس بشرعية المؤسسات المدنية والأمنية والقضائية القائمة في القطاع، مما يعني أن فرصة السماح بإجراء الانتخابات في القطاع تبدو شبه معدومة.

– عدم وجود مؤشرات على إمكانية تحقيق اختراق ذي مغزى في ملف المصالحة خلال الأشهر الأربعة القادمة يتيح تشكيل حكومة وحدة وطنية تشرف على الانتخابات، أو التوافق على التوجه مباشرة إلى الانتخابات الرئاسية والتشريعية، لا سيّما أن أولويات حركة فتح تنصب على عقد المؤتمر العام وحسم الخلاف مع دحلان، في حين تنشغل حماس بانتخاباتها الداخلية وقضية خلافة رئيس مكتبها السياسي؛ خالد مشعل.

– عدم وجود ضمانات تحول دون إعادة استدعاء القضاء كلما دعت الحاجة لإقصاء الخصوم والمنافسين، مما يُبقي سيف تسييس القضاء مشهراً في وجه أيّ عملية انتخابية، حتى ولو تراجعت حماس عن موقفها وقبلت بإجراء الانتخابات في القطاع.

– الحاجة إلى تجديد الشرعيات المتآكلة للسلطة في الضفة، ولو على مستوى الهيئات المحلية، وحاجة حركة فتح لإظهار وجود التفاف حولها عبر عملية انتخابية لا منافسين جديين لها في الضفة، وهي حاجة يُتوقع أن تزداد في حالة النجاح في عقد المؤتمر العام للحركة كأداة لحسم الخلافات الداخلية، وقطع الطريق على فرص تجدد تدخل “الرباعية” العربية.

– إمكانية تفاقم الخلافات الداخلية في فتح، لا سيّما في قطاع غزة، حيث يتمتع تيار دحلان بثقل يهدد فرص نجاح قوائم الحركة الرسمية في حالة تشكيلها، على قاعدة إقصاء مرشحين مؤيدين لدحلان في ضوء نتائج المؤتمر العام القادم. وهو ما قد يشجع على إجراء الانتخابات في الضفة فقط.

من شأن تطور فرص تحقق هذا السيناريو، في ضوء توقع تزايد وزن وتأثير العوامل السابقة، أن يطيح بالرهان على إمكانية أن تشكل الانتخابات خطوة باتجاه إنهاء الانقسام وإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، بل وأن يهدد بتحويل الانقسام إلى انفصال مؤسساتي.

 

استنتاجات وتوصيات:

تؤكد تداعيات قرار إجراء الانتخابات المحلية، ومن ثم توظيف القضاء كوسيلة لتأجيلها وإلغاء جميع الترتيبات السابقة، إلى أهمية إدراك وظيفة الانتخابات في البيئة والظرف الفلسطيني، من حيث استحالة إجراء انتخابات محلية أو عامة حرة ونزيهة تحت الاحتلال، إلا إذا ضمن أن نتائجها ستخدم أهدافه وسياساته. كما أن الانقسام الداخلي لا يمكن أن يوفر أجواءً تتسم بالحرية والنزاهة لأي عملية انتخابية قبل إعادة توحيد المؤسسات المدنية والأمنية للسلطة في الضفة والقطاع على أساس برنامج سياسي واحد وقيادة موحدة. ويمكن في هذا الإطار تسجيل الاستنتاجات والتوصيات الآتية:

– عندما يتعلق الأمر بالانتخابات المحلية، لا يمكن الفصل بين وظيفتها الوطنية والخدماتية، وخصوصاً عندما تتراوح خيارات الاحتلال ما بين التدخل لإلغاء الانتخابات أو التدخل لتطويع نتائجها لخدمة خطة ليبرمان. ويقتضي ذلك استعادة سياق الانتخابات المحلية سنة 1976، التي كانت محطة ضمن المعركة الوطنية لإحباط أهداف الاحتلال في فرض هيئات محلية شبيهة بروابط القرى العميلة، بالرغم من دفع الفائزين ضمن التيار الوطني ثمناً باهظاً وصل إلى درجة تعرض بعضهم لمحاولات اغتيال. وترافقت هذه المعركة مع نهوض وطني مماثل في الفترة ذاتها في أراضي 1948، كانت من أبرز محطاته معركة يوم الأرض في 30/3/1976. وإن تعذر إجراء الانتخابات على قاعدة استعادة سياق سنة 1976، يمكن استعادة سياق النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي في التعامل مع البلديات وفق مبدأ التعيين، مع الاستفادة من دروس تلك التجربة، وفي مقدمتها ضرورة تعيين المجالس البلدية والمحلية بالتوافق الوطني في غياب القدرة على إجراء انتخابات حرة ونزيهة.

– لا تشكل الانتخابات المحلية أو العامة مدخلاً لإنهاء الانقسام، بل قد تؤدي إلى تعميقه أو إدارته، ما لم يتم التوافق أولاً على رؤية وطنية شاملة لإعادة بناء الوحدة الوطنية، وليس تحقيق المصالحة بمفهومها الضيق بين حركتي فتح وحماس، مع توافق على آليات ومراحل تحقيق ذلك. ويعدُّ التوافق على برنامج سياسي مشترك الحجر الأساسي في هذه العملية، من أجل استعادة إطار التحرر الوطني لكفاح الشعب الفلسطيني. ولكي لا تتحول الانتخابات المحلية من فرصة إلى تهديد، ينبغي أن تشكل محطة تخدم إعادة بناء المؤسسات الوطنية الموحدة على مستوى منظمة التحرير والسلطة.

– إن السيناريو المفضل، وإن لم يكن مرجحاً، هو إجراء الانتخابات المحلية في الضفة والقطاع، وهو أمر ممكن في حالة التوافق على تذليل العقبات التي برزت خلال الفترة الماضية. وينبغي تركيز الجهود على تحويل هذا السيناريو إلى خيار يقدم من خلاله الشعب الفلسطيني وقواه السياسية ومنظماته الأهلية نموذجاً على أن التوافق ممكن، بل وضروري، إذا توفرت الإرادة السياسية، بما يفتح الطريق أمام تعميم هذا النموذج ليشمل التوافق على معالجة مختلف ملفات الانقسام، وبضمنها توحيد جهازي القضاء والنيابة العامة.

– يُعدُّ تسييس القضاء من أخطر تداعيات حالة الانقسام، ومن شأن توظيف أحكامه لأغراض سياسية فئوية، أن يفتح الباب أمام مخاطر تهدد النسيج المجتمعي، لا سيّما في ضوء نزع الشرعية عن القضاء وأحكامه بما يمس بالمراكز القانونية المترتبة على هذه الأحكام في قطاع غزة. إن معالجة الخلاف السياسي ينبغي أن تتم عبر معادلة الصراع والحوار على قاعدة الوحدة، بعيداً عن تطويع القانون لخدمة الصراع السياسي. كما أن اللجوء إلى الأجهزة الأمنية للضغط على المرشحين والناشطين في العملية الانتخابية في الضفة والقطاع لا يعني سوى توسيع حالة عدم الثقة بأهليتها في توفير الحماية لمجمل مراحل العملية الانتخابية.

شاهد أيضاً

بعد موقفهما تجاه ليبيا.. محاولات لبث الفتنة بين تركيا وتونس

منذ أن بدأ الجنرال الانقلابي خليفة حفتر محاولة احتلال طرابلس في إبريل الماضي، لم تتوقف …