توضح التطورات المتلاحقة بين قرار الحكومة الفلسطينية الصادر في 21 حزيران/ يونيو الماضي بإجراء الانتخابات المحلية، وقرارها في 4 أكتوبر بتأجيلها لمدة أربعة أشهر، كيف تحولت هذه الانتخابات من فرصة إلى تهديد؛ من فرصة لتحدي سياسة الاحتلال في تجزئة الفلسطينيين إلى تهديد بتحول الانقسام إلى انفصال بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ومن احتفالية بـ”عرس ديموقراطي” إلى مأتم، بل وفتح المجال أمام تهديدات جديدة تمس النسيج المجتمعي والسلم الأهلي، بعد قرار محكمة العدل العليا بعدم قانونية القضاء والمحاكم في القطاع، وما قد يترتب عليه من تشكيك في آلاف الأحكام الصادرة عنها خلال السنوات التسع الماضية.
ويُعدّ قرار التأجيل بمثابة مسح شامل للمشهد الانتخابي السابق، وعودة إلى نقطة الصفر لبدء مشهد جديد ينطوي على تحديات لا تقل خطورة عن المشهد السابق، الذي تشكل نقطة النهاية فيه نقطة البداية ذاتها في المشهد الجديد من حيث اللجوء إلى إجراءات “قانونية” لتحقيق أغراض سياسية، انطلاقاً من حيثيات ومبررات قرار محكمة العدل العليا الذي استثنى قطاع غزة من الانتخابات على أساس عدم قانونية القضاء والمحاكم هناك.
لم يكن الوصول إلى هذه النتيجة مفاجئاً، وخصوصاً من حيث استدعاء جهاز القضاء لتأدية وظيفة سياسية بغطاء قانوني. بل يرى البعض أن المفاجئ كان قرار الحكومة الفلسطينية بإجراء الانتخابات المحلية، إذ بدا كمحاولة لاقتناص الفرصة من أجل “تجديد شرعية” السلطة في الضفة، ولو على مستوى الهيئات المحلية، قبل أن يتضح أن قرار حركة حماس بالموافقة على إجراء الانتخابات يعني أن مجمل إجراءات العملية الانتخابية في قطاع غزة تضفي “شرعية”ً, طالما رفضتها “فتح” على مؤسسات مدنية وأمنية وقضائية تسيطر عليها حماس.
المثير أن حسابات الكلفة جاءت عقب صدور قرار إجراء الانتخابات، وليس قبله، في مشهد يعكس استمرار التفرد بصناعة القرار بعيداً عن التشاور مع الكل الوطني، بل وحتى مع اللجنة المركزية لحركة فتح هذه المرة. وفي هذه الحسابات، كان واضحاً أن كلفة اتخاذ قرار رسمي بإلغاء أو تأجيل الانتخابات أعلى من كلفة خسارة قوائم فتح في هيئات محلية رئيسية، وخصوصاً في الضفة. وهو الأمر الذي كان يتطلب البحث عن وسائل أخرى لطي صفحة الانتخابات، ولو إلى حين، باللجوء إلى القضاء، على الرغم من أن كلفة تسييس القضاء قد تكون أعلى من الكلفة في حالتي التأجيل، أو خسارة فتح.
سياق الانتخابات
منذ البداية، أثار قرار إجراء الانتخابات خلافات بين مؤيد ومعارض، وإن تباينت مبررات الرفض والتأييد، غير أن سيناريو الإلغاء أو التأجيل كان يزداد ترجيحاً مع الاقتراب من لحظة التوجه إلى صناديق الاقتراع، ليعزز من الآراء التي حذرت من وجود عوامل قد تحوّل الانتخابات المحلية من نعمة إلى نقمة. ويمكن تلخيص هذه العوامل بالآتي:
أولاً: العامل الإسرائيلي والضغط الخارجي:
تمّ تجاهل دور الاحتلال بالرغم من تزامن الإعلان عن قرار إجراء الانتخابات مع اتساع دور ما يسمى “الإدارة المدنية” التابعة لجيش الاحتلال في تطبيق خطة ليبرمان لتشجيع بروز قيادات محلية في الضفة الغربية، ما يعني الحرص على أن تخدم أي انتخابات محلية هذه الخطة لا أن تشكل حاجز صدّ أمامها.
ونقل محلل الشؤون الفلسطينية في موقع “واللا” الإلكتروني، آفي يسخاروف، أن منسق أعمال حكومة الاحتلال في الأراضي المحتلة، الجنرال يوءاف مردخاي، “حذّر قيادة السلطة من أن الذهاب إلى انتخابات قد يكون رهاناً خطيراً”. وقال المحلل العسكري في صحيفة هآرتس، عاموس هرئيل، إن مسؤولين إسرائيليين حذروا نظراءهم في السلطة من أنهم “مبتهجون أكثر مما ينبغي” بإمكانية الفوز في الانتخابات، وأن حماس قد تستغل الانتخابات وتعزز تأثيرها السياسي في الضفة وتقوض بشكل أكبر مكانة السلطة ورئيسها المسن” (موقع عرب 48، 1/9/2016).
في ضوء هذه المخاوف، ذكرت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن سلطات الاحتلال وضعت خطة للتعامل مع الانتخابات المحلية، دون الكشف عن تفاصيلها، غير أن أليكس فيشمان، المحلل العسكري في صحيفة يديعوت أحرونوت، ذكر أن السؤال المركزي الذي كان يطرح في مداولات هيئة الأركان ووزارة الحرب الإسرائيلية ومجلس الأمن القومي، يتمثل في معرفة ما إذا كان سيتوجب على “إسرائيل” التدخل أم السعي للعمل على إلغاء الانتخابات الفلسطينية وتأجيل موعدها؟ (موقع فلسطين اليوم، 30/8/2016).
في كل الأحوال، كان هناك ما يكفي من مؤشرات على سعي الاحتلال للتأثير على مدخلات ونتائج العملية الانتخابية والمس بمدى توفر بيئة تتيح حرية الترشح والانتخاب، باعتبارها أحد أهم شروط نزاهة الانتخابات. فقد قامت سلطات الاحتلال باعتقال العديد من المرشحين أو الناشطين في الحملات الانتخابية في الضفة الغربية، كما تلقى عدد آخر تهديدات من ضباط الاحتلال تطالبهم بالانسحاب أو مواجهة الاعتقال.
وإلى جانب تأثير العامل الإسرائيلي، ترددت أنباء في وسائل الإعلام عن ضغوط مارستها دول عربية وأجنبية لإلغاء أو تأجيل الانتخابات المحلية. وقال النائب في المجلس التشريعي حسن خريشة إن “قرار تجميد إجراء الانتخابات (من محكمة العدل العليا) نجم عن ضغوطات خارجية وداخلية مورست على الرئيس عباس بعد تعبير العديد من الجهات الخارجية عن خشيتها من تكرار سيناريو عام 2006” (شبكة قدس الإخبارية، 8/9/2016).
ثانيًا:الانقسام الداخلي:
بالرغم من التحذيرات من تأثير العامل الإسرائيلي على حرية ونزاهة العملية الانتخابية، إلا أنه لم يكن العامل الحاسم في وقف إجراء الانتخابات، ومن ثم اتخاذ محكمة العدل العليا قراراً في الثالث من تشرين الأول/ أكتوبر يقضي باستكمال إجراء انتخابات في الضفة، وتعليق إجرائها في القطاع، لحين إصدار قرار من مجلس الوزراء لتحديد إجرائها في غزة، “لعدم قانونية المحاكم في القطاع”. فقد طغى التنافس بين حركتي فتح وحماس على ترميم “شرعية” المؤسسات التي تسيطر عليها كل منهما في الضفة والقطاع على ما سواه من عوامل مؤثرة في البيئة المحيطة بالانتخابات.
وأشارت تقديرات إلى أن حماس بموافقتها على قرار إجراء الانتخابات والمشاركة فيها كانت ستكون الرابح الأكبر في سباق ترميم “الشرعية”، حتى وإن لم تحقق فوزاً جديراً بالاحتفاء في الانتخابات، لو قدر لها أن تجرى وفق الترتيبات السابقة، إذ كانت ستنتزع إقراراً غير مسبوق من السلطة في رام الله بشرعية المؤسسات المدنية والأمنية والقضائية في قطاع غزة، بقبول إشرافها على العملية الانتخابية هناك، عقب سنوات من الانقسام وصفت خلالها هذه المؤسسات باعتبارها مؤسسات “الانقلاب” على “شرعية السلطة”!. كما انتزعت إقراراً بشرعية نشاطها السياسي المعلن في الضفة الغربية بالرغم من الانتهاكات التي تعرض لها نشطاؤها وعدد من المرشحين المحسوبين عليها.
إن حصر وظيفة الانتخابات المحلية بالتنافس على ترميم “شرعية” المؤسسات القائمة في ظلّ الانقسام، بدلاً من اعتبارها “بروفة” لإعادة بناء شرعية النظام السياسي الفلسطيني على أساس برنامج سياسي مشترك ومؤسسات وطنية موحدة، لعب دوراً في تأجيج الصراع على “شرعية” كل من طرفي الانقسام. وهو ما أدى إلى ممارسة الأجهزة الأمنية التابعة لكل منهما، في الضفة والقطاع، للعديد من الانتهاكات، وتبادُل الطرفين الاتهامات بشأن ممارسة ضغوط عبر الاعتقال، والتهديد، والاعتداء بالضرب، قبل وبعد تشكيل القوائم الانتخابية.
ثالثاً: الخلاف الفتحاوي:
خلافاً للاعتقاد بعدم جاهزية حركة فتح في قطاع غزة لخوض الانتخابات المحلية بقوائم موحدة بسبب الصراع الداخلي مع تيار عضو اللجنة المركزية المفصول محمد دحلان، جاء النجاح في تحقيق توافق فتحاوي داخلي على تشكيل قوائم موحدة في القطاع مفاجئاً للكثيرين، وبضمنهم حركة حماس التي راهنت على عدم وحدة صفوف فتح كأحد العوامل المعززة لفرص فوزها في معظم البلديات في القطاع.
في المقابل، لم تتمكن فتح من تشكيل قوائم موحدة في عدد من المواقع في الضفة الغربية، وهددت قيادة الحركة بإجراءات صارمة بحق من يترشح خارج القوائم الرسمية للحركة، وهو ما حدث بفصل ثلاثة كوادر من عضوية فتح بقرار رئاسي، هم: رئيس بلدية أريحا السابق اللواء حسن صالح، ووزير الحكم المحلي خالد فهد القواسمة، ونائب رئيس بلدية الخليل جودي أبو اسنينة.
وقد بدا كأن هناك تهدئة داخلية في فتح، على الأقل من جانب تيار دحلان الذي كان على علم مسبق بخطة عربية لتحقيق مصالحة داخلية في فتح، معتقداً أن الرئيس عباس لن يستطيع التملص منها. وسرعان ما انقلبت إشارات التهدئة الداخلية إلى خلاف أشد من السابق مع الكشف عن خطة اللجنة الرباعية العربية (مصر، والأردن، والسعودية، والإمارات) التي نشرتها وسائل الإعلام في الرابع من أيلول/ سبتمبر الماضي، وتحدد خريطة طريق تبدأ بتحقيق مصالحة فتحاوية أساسها عودة دحلان إلى عضويته في اللجنة المركزية، وإعادة المفصولين من فتح والسلطة إلى مواقعهم السابقة.
غير أن تصريحات عباس في الثالث من أيلول/ سبتمبر الماضي، التي تحدث فيها عن عواصم عربية تتدخل في الشأن الفلسطيني الداخلي، وكذلك تصريحات بعض قادة فتح، أظهرت رفضاً مطلقاً لعودة دحلان وفق خطة “الرباعية العربية”، حتى ولو كان الثمن حدوث ضرر على المدى القصير في العلاقة مع بعض الدول العربية. وترافق ذلك مع أنباء عن ضغوط عربية لتأجيل الانتخابات المحلية إلى ما بعد تنفيذ المرحلة الأولى من الخطة، أي المصالحة الفتحاوية.
وربما تقدم رغبة الرئيس في إجهاض هذا الحراك العربي، تفسيراً للمسارعة نحو اعتماد خريطة طريق بديلة هدفها إحباط الخطة العربية، على أن تبدأ بعقد المؤتمر العام لحركة فتح قبل نهاية السنة، وانتخاب لجنة مركزية جديدة تغلق الطريق مرة وللأبد، أمام أي ضغوط لعودة دحلان إلى عضويتها، ومن ثم التحضير لعقد المجلس الوطني الفلسطيني، بالتوازي مع استئناف حوارات المصالحة برعاية قطرية، أملاً بالتوصل إلى اختراق في ملف المصالحة يتيح التوافق على تشكيل حكومة وحدة وطنية وإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية خلال ستة أشهر، أو التوافق على التوجه مباشرة إلى الانتخابات في حال تعذر الاتفاق على تشكيل الحكومة. ولو تحقق ذلك، يكون الرئيس عباس قد قلب أولويات خريطة الطريق وفق الخطة العربية رأساً على عقب.
رابعاً: تسييس القضاء:
كشف قرار إجراء الانتخابات المحلية، والتداعيات التي رافقت التحضير لها، عن تأثير الانقسام السياسي والمؤسساتي على الجهاز القضائي في الضفة والقطاع، والمخاطر الكارثية لتوظيف أحكامه لأغراض سياسية، فضلاً عن الملاحظات الانتقادية لدور نقابة المحامين في هذا السياق.
وقد تعرض اتفاق لجنة الانتخابات المركزية مع حركة حماس على البت في الطعون من قبل القضاء ومحاكم البداية في القطاع، لانتقادات من أوساط سياسية وقانونية مقربة من فتح، باعتباره يضفي الشرعية على محاكم “غير قانونية”، وهو ما دفع فتح إلى رفض بتّ المحاكم في القطاع بالطعون المقدمة إليها، وتشجيع اللجوء من قبل محامين محسوبين على فتح إلى محكمة العدل العليا بدعوى طعنت في شرعية المحاكم التابعة لحركة حماس في القطاع، وطلبت في ضوء ذلك إلغاء الانتخابات.
في المقابل، قدمت طعون بحق عدد كبير من قوائم فتح في القطاع، ما أدى إلى إسقاط تسع قوائم في خطوة عدَّها الناطق باسم فتح في غزة فايز أبو عيطة “مجزرة من قبل محاكم حركة حماس ضدّ قوائم فتح” (وكالة معاً الإخبارية، 8/9/2016).
أما فيما يتعلق بموقف نقابة المحامين الذي استند إليه الطعن المقدم إلى محكمة العدل العليا، فقد فنّد مجلس منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية دعوة النقابة لإرجاء الانتخابات وفق الحيثيات الواردة في بيان النقابة المنشور يوم 24 آب/ أغسطس الماضي، وأهمها “الفراغ القانوني” في القطاع، المتمثل في الرقابة على العملية الانتخابية من الناحية القانونية ونتائجها، و”استثناء مدينة القدس من إجراء الانتخابات فيها، واستثناء المقدسيين من المشاركة في العملية الانتخابية برمتها”، لا سيّما أن هذا البيان جاء بعد ما يزيد على شهرين من قرار مجلس الوزراء الصادر في 21 حزيران/ يونيو الماضي بإجراء الانتخابات المحلية، ودون أن يوضح “سبب سكوت النقابة” طيلة هذه الفترة، قبل المطالبة بالتأجيل في خضم العملية الانتخابية، حسب بيان أصدره المجلس في 25 آب/ أغسطس.
كما وجهت عدة مؤسسات حقوقية رسالة إلى الرئيس عباس، شددت فيها على “ضرورة صيانة استقلالية القضاء وإبعاده عن أية تجاذبات أو تأثيرات سياسية”، وطالبت بالالتزام بإجراء الانتخابات المحلية وتذليل أيّ عقبات يمكن أن تعترض إجراءها (وكالة معاً الإخبارية، 20/9/2016).
ويعتقد بعض المراقبين والقانونيين أن تسييس القضاء واستخدامه لتأجيل الانتخابات، حتى ولو استدعى ذلك نزع قانونية المحاكم في قطاع غزة، أحد أخطر التداعيات التي يمكن أن تنجم عن الصراع الداخلي، وخصوصاً من حيث تأثيره السلبي على وحدة النسيج المجتمعي في قطاع غزة. إذ إن نزع الشرعية عن أحكام القضاء والمحاكم، وهو الأمر الجوهري في قرار محكمة العدل العليا، يعني التشكيك في المراكز القانونية التي ترتبت على هذه الأحكام، وفتح المجال أمام المتضررين لإعادة الطعن فيها لاحقاً. ويدور الحديث عن آلاف الأحكام في قضايا تتعلق بحياة ومصالح الناس، بدءاً من النزاعات حول الأراضي والملكيات والحقوق وليس انتهاء بعقود الزواج والطلاق.
كما أن التداعيات المستقبلية لقرار المحكمة سوف تلقي بظلالها على فرص التوافق على اقتراح حركة فتح ذاتها بالتوجه مباشرة إلى الانتخابات الرئاسية والتشريعية في حال تعذر الاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية، طالما بقيت المؤسسات المدنية والأمنية على حالها من الانقسام، حتى ولو تمت معالجة قضية المحاكم بحصر صلاحيات النظر في الطعون بمحكمة خاصة بقضايا الانتخابات. إذ سوف تبقى إمكانية الطعن بمدى قانونية إشراف المؤسسات المدنية والأمنية في القطاع على الانتخابات العامة مشكلة مستعصية الحل في ضوء ما شكله قرار محكمة العدل الأخير من سابقة “قانونية” قابلة للقياس عليها مستقبلاً.