الداعشية في الكتب المدرسية الإيرانية (2)

 

تنبع النوازع الداعشية الإيرانية الحالية من مجموعة من المكونات النفسية والدينية والمادية التي توارثها الفكر القومي والشيعي على امتداد عصوره لتكّون ما يعرف بمفهوم الصراع أو الثأر، وهو ما تحول داخل وجدان كل طالب إيراني إلى ما يشبه العقيدة المتوارثة، مع تغليف كل ذلك بنزعة فوقيه ترى أن الفرس ليسوا مثل غيرهم من البشر لاختيارهم دون غيرهم من الشعوب ليكونوا شعب الله المكلف برسالة الخلاص. هذه الفكرة العنصرية، وقد لازمت فكرة الصراع والعنف والتعالي على الآخرين, سيطرت على الفكر التربوي الإيراني وتقمصت أشكالاً وصوراً مختلفة منه  تتراوح ما بين الحوار بأشكاله المختلفة ؛ حوار المذاهب، والأديان، والحضارات, التي أثبتت فشلها, مروراً بالسلوك الإيراني مع معظم الأزمات الإقليمية لإيجاد موطئ قدم لها؛ في الوقت الذي يزخر التاريخ الإيراني والشيعي، بالكثير من الحوادث وأشكال الصراع مع الآخرين، بل إن المذهب الشيعي يطبع عقيدة  الثورة الإيرانية برباط وثيق بين الحرب النهائية والثورة الإيرانية. 

وبمرور الوقت تحول هذا الصراع المقرون بنظرة عنصرية استعلائية نحو الآخرين إلى منهاج عمل يسعى لتحقيق أهداف إيران في المنطقة انطلاقاً من الاعتقاد بأنه بدون هذا الصراع لن يتسنى للمهدي العودة, إذ يجب أن يكثر القتل والتدمير، وتعم الفوضى، والظلم, وكل جريمة تصبح شرعية وقانونية طالما تسعى لتحقيق ما سمى بالوعد الإلهي. 

بهذه الصورة تحول هذا الوعد في الفكر الثوري الشيعي الإيراني إلى صنم تقدم له القرابين من ذبح وقتل على أعتابه، لأن الإمام المهدي لن يظهر حتى يعم الذبح في العراق.

رغم ما يبدو للوهلة الأولى من أن المشروع الإيراني قد حقق أحد أهم أهدافه بسقوط العراق، إلا أن احتلال العراق عرض الأمن الإيراني لمشاكل جديدة مستمرة ومن الممكن أن يفجر تلقائياً مشاكل يصعب مجابهتها.

وفي هذا الصدد، نجد أن الكتب المدرسية الإيرانية، وبشكل خاص كتب التربية الدينية، والأدب واللغة الفارسية، والتاريخ، والدراسات الاجتماعية، تكرّس ثقافة الانغلاق، وتشويه الآخر ، ومحدودية التفكير، وتغيب عنها ثقافة التعددية والوسطية والاعتدال والاعتراف بالآخر، بل واحتقاره بشكل مزرٍ. ومثل هذه النتائج  ليست جديدة، لكنها باتت تكتسي حساسية كبيرة في ظل التطورات السياسية الإقليمية في المنطقة وصعود المليشيات والتنظيمات المتطرفة.

لكن ما هي العوامل المؤسسة للفكر الداعشي في إيران؟

هناك عوامل ومتغيرات عديدة تضافرت فيما بينها لتعزز النزعة الداعشية سواء للدولة أو الثورة أو الشعب الإيراني.

أولاً:  الثورة الإسلامية ونتائجها   

تُستغل الثورة الإسلامية في تحريض الإيرانيين على الشعوب الأخرى وإيهامهم بحقهم التاريخي في قيادة العالم الإسلامي وريادته كونهم يعتنقون الإسلام الحقيقي، فالثورة أعطت للتشيع لضم العالم، وبالعنف, من خلال تطبيق ما يعرف بالجهاد بأشكاله المختلفة ” الدفاعي، الابتدائي، الوقائي”، الذي يشرع للثورة الإيرانية خوض الحروب بالزمان والمكان الذي تراه مناسباً.

يشكل المذهب الشيعي أحد العناصر المهمة في تركيب الشخصية الإيرانية وتكوينها، حيث يصبغ ويوجه الشخص الإيراني سواء كان متديناً أم علمانياً.

لا شك بأن انتشار الديكتاتورية والشمولية وغياب الديمقراطية والعدالة السياسية والاجتماعية والتوزيعية وحكم القانون الذي أسهمت به الثورة الإيرانية، وتعزيزها لقيم العنف والتطرف كردّ فعل طبيعي, على يد النظام الحاكم, الذي لا يقلّ دموية عن التنظيمات الإرهابية؛ وبالتالي فإن التطرف والتشدد الفكري والاجتماعي بات موجودا بشكل أكبر في المجتمعات الإيرانية، إضافة إلى قابلية النصوص المذهبية للتوظيف لتقوية النوازع الإجرامية، والغرائز المنافية والمضادّة، والقابلة لبناء ثقافة التوحش.

إلى جانب ذلك استفادت الدولة والثورة الإيرانية من نصوص مذهبية « محرفة »، تتيح إلباس التحريض والكراهية والعنف الذي تمارسه، لباسَا دينيا مقدسا؛ وبالتالي شرعنة السلوك الدموّي وجعله طريقاً إلى الجنّة.

فعندما يتعلم طلاب المدارس الإيرانية أنّ قتل الآخر على الضفة الأخرى من الخليج وبلاد الشام قربى إلى الله تعالى، على اعتبار أنهم أعراب كفار لا يستحقون سوى الازدراء والاحتقار، وأن قتلهم سيمهد لدولة العدل الإلهي، فإن الفرق بينهم وبين «تنظيم داعش » يصبح في القدرة على الإجراء والتطبيق، وحجم ذلك، فكثيراً من «مراجع التقليد الإيرانيين» يصدرون فتاوى تدعم وتؤيد ذبح الأخر، ويقدّمون خطاباً  فكرياً داعشياً بامتياز ، وفي نفس الوقت تمتلك إيران  الأدوات التنفيذية من قوى عسكرية مباشرة، ومليشيات، وتنظيمات مدعومة، يمكنها تطبيقه أو «ترجمته» على أرض الواقع بشكل واسع في سوريا والعراق واليمن وكل مكان تراه.

ثانياً: الدولة والنظام السياسي

عندما تتكاتف وتتوحد مكونات التحريض والكراهية والتطرف في الثقافة ذاتها، ويتم تجسيد ذلك في مناهج التربية والتعليم، فضلاً عن الجامعات والمعاهد والحوزات الدينية المنغلقة والمتعصبة، وفي ظل نظام حكم شمولي وديكتاتوري ذي بعد ثيوقراطي، فمن الطبيعي أن تكون النتيجة ما نشهده اليوم من سلوك دموي لإيران ظهر من خلال مداخل الأزمات الإقليمية العربية، حيث تسرح القوات الإيرانية من حرس ثوري وقوات خاصة، ومليشيات وجماعات وتيارات التطرف والتوحش، لتمثل النزعة الداعشية الإيرانية بأسوأ نسخها وتعبيراتها.

ومما يرفع من مستوى وتيرة الصراع, ما يتعلق كذلك بالبيئة الاجتماعية والثقافية الإيرانية ودورها في تربية المواطن  وتنشئته، فضلاً عن دور الجامعات والمعاهد التعليمية الرسمية وغير الرسمية, وكذلك الدور الذي تلعبه الحوزة، وخصوصاً عندما تسيطر عليها مراجع دينية متشددة تنتمي للتيار المحافظ الراديكالي.

ومما يعزز من نزعة التطرف بمجمله المتغيرات الخاصة بالبيئة الداخلية الإيرانية؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحالة التعبئة التي يمارسها الإعلام الرسمي الذي يحاول تبرير أن جزءاً من مشاكل إيران يعود لمؤامرة دول الجوار؛ لا سيما دول الخليج التي يعتبرها هذا الإعلام مشاركاً أساسياً للعراق في “الهولوكوست” ضد الشعب الإيراني إبان الحرب العراقية الإيرانية، ومحاولة تسويق أن هذه الدول لازالت منخرطة في حصار إيران، وأنها تتعمد المشاركة الفاعلة في تنفيذ العقوبات الدولية عليها، وأنها لا زالت متماهية مع قوى الاستكبار العالمي لاستهداف الثورة والشعب الإيراني؛ مما يسهم في ضمان استمرار التعبئة والحقد والكراهية ضد العرب.

ثالثاً- التشيع:

وجدت الثورة الإيرانية في الشيع أرضية خصبه لإذكاء الروح العدائية لدى البسطاء لما يحتويه من رخص وفتاوى بالقتل والاغتصاب ونهب ثروات الأمم والشعوب الأخرى، وبالمقابل منح صكوك الغفران ومفاتيح الجنان. وقد أكد رجال الدين الشيعة على أهمية تدريس أسس التشيع والقومية والتاريخ الفارسي، ومعرفة عامة بشرائعه وأدبه ليكون جزءاً من دراسة كل طالب شيعي، حتى ولو لم يكن حقل الدراسة هذا مجالاً للعمل، والأمر شبيه بتعليم التلميذ مبادئ الأحياء والعلوم والرياضيات.

وتقوم وزارة التعليم بتدريس الطالب الإيراني حدود الإمبراطورية الفارسية التي سادت العالم، ومن خلال ذلك تصبح لدى الطالب القناعة التامة بأن ما سيقوم به الجيش الإيراني ليس  احتلالا لأراضي الغير بالقوة، ولا اعتباره جيشاً مغتصباً وأن ما سيقوم به هو إعادة هذه الأراضي لأصحابها بناءاً على وعد نبوءات أخر الزمان لهم بالطرق والوسائل التي تراها مناسبة.

لعل الدارس يلاحظ تلك الملائمة والتوافق القوي بين أهداف التربية من جهة وأهداف الثورة الإيرانية، وحاجات المجتمع الإيراني من جهة أخرى كما تراها هذه الثورة، فلقد كانت التربية بخلفيتها المذهبية، والغيبية، وبفلسفتها المستمدة من تعاليم القومية، الوسيلة الأولى والأهم التي استخدمت لتحقيق أهداف الثورة الإيرانية في إنشاء دولة ولي الفقيه وبقائها.

لقد جعلت الثورة تدريس اللغة والأدب الفارسي أحد الأسس والركائز المحورية التي تعتمد عليها لبناء جيل ثوري وقومي وشيعي  متعصب؛ وهو ما أشار إليه الخميني؛ مفجر الثورة في كتبه حين وجّه جل اهتمامه بالتربية والتعليم باللغة الفارسية في المدارس باعتبارها أسلوباً لتحقيق أهداف الثورة وطموحاتها؛ وأن مصير الثورة يرتبط بإيجاد جهاز حقيقي لتنفيذ التعليم والتربية حسب مبادئ الثورة الإسلامية, وأنه لن يكون لهذه الثورة مستقبل بدون تربية فارسية وثقافة فارسية كذلك.

فمعرفة المذهب الشيعي كفيلة بتزويد الفرد الإيراني بجذوره وأصله وعظمته ومستقبله، وتضمن ارتباطه بشعبه في إيران، أما ما الذي سيحفظ المذهب الشيعي؟ فالجواب إنها اللغة الفارسية؛ فصمود إيران أمام التحدي الكبير الذي يواجهها  يتمثل في المقدرة على تربية مرتبطة بالتعاليم الروحية للمذهب الشيعي، والتركيز على اللغة الفارسية لأنها ليست لغة القراءة والكتابة فحسب بل لغة المذهب وطقوسه. 

لكن كيف أسهم تدريس اللغة والأدب الفارسي في تعزيز النزعة الداعشية لدى طلاب المدارس الإيرانية؟ هذا سؤال مهم, والجواب إننا نستطيع القول إن الفكر الداعشي المتطرف برز جلياً من خلال أهداف تعليم اللغة الفارسية، والتي يمكن إيجازها من خلال ما يلي:

1-  إكساب  الطالب الإيراني مُثلَ وقيم الحضارة الفارسية،  وآرائها ومشاعرها في أثناء مراحل تطور الأمة الإيرانية في فترات مختلفة، وتقوية الرباط التاريخي بين الشعب وبلاده وثقافته، حيث يتم التركيز على عظم الحضارة الفارسية عبر تاريخها الطويل، من أجل الإحياء الدائم للنهضة القومية والبعث التاريخي الحضاري، الثقافي الفارسي؛ مما يشعر الفارسي بأنه شعب عظيم ” شعب الله المختار” ، ومتميز حضارياً عن الآخرين. 

2- جعل التفوق والتميز والريادة حاضرة في عقل الطالب وذاكرته الجمعية؛ مما يعزز نزعة الاستعلاء لديه، وهذا يتضح من خلال تدريس الأدب الفارسي. 

3-  “التفريس” الشامل: نجحت السياسة التعليمية في إيران في سياسة التفريس الشامل، في جميع المعارف والعلوم، فقامت بتدريس سائر المواد الإنسانية العلمية والتقنية في كل الجامعات والمعاهد باللغة الفارسية، حتى أن اللغة العربية يتم تدريسها بقالب فارسي.  

4- إكساب  التلميذ من خلال تدريس اللغة الفارسية قيم الأمة العليا وآرائها ومشاعرها في أثناء مراحل تطور الأمة الفارسية في فترات مختلفة، وتقوية الرباط التاريخي الذي لم ينفصل بين الشعب وبلاده وثقافته، ويجب الكشف بشكل خاص عن جهود وانجازات هذا الجيل والأجيال القريبة منه من أجل النهضة القومية والبعث الحضاري والثقافي والاجتماعي. 

5- إعداد الطالب الإيراني حتى يبقى على اتصال حي مع القضايا والتيارات الفكرية المعاصرة ومع مسيرة الشعب الفارسي عبر مسيرته التاريخية، التي ينبغي أن تكون حاضرة معه دوماً.

6- التأكيد على البعد القومي في تدريس اللغة الفارسية، وكذلك  التأكيد على البعد الخاص بروح هذه الحضارة، وتعريف الطالب بالأدب الفارسي، العادات، التقاليد، القيم، الأعياد القومية, مما يخلق جوا فارسيا، وحالة ذهنية تجعل الطلاب مجبولين وفق البعد القومي والمذهبي، مع إعطائه أهمية من خلال تكثيف العناصر التقليدية، وذلك بزيادة عدد القطع الأدبية المأخوذة من الأدب الفارسي القديم والحديث، ويلاحظ أن الهدف من وراء ذلك:

بيان أهمية القيم القومية الفارسية والتقليدية.

تقوية روابط الطالب بتراثه الفارسي.

تعظيم الوعي الفارسي والقبول بكل المفاهيم التي يتم طرحها، بشكل لا يقبل الدحض والتغيير .

رابعاً-  أسطورة التفوق العرقي:

عمدت إيران إلى بث أسطورة تفوق “الشعب الإيراني الآري” على بقية شعوب العالم ضمن الدعاية التي تقوم بها لإقناع الإيرانيين في مختلف الدول بأن من واجبهم التجمع وبناء إمبراطورية الميعاد، ونجد العديد من العبارات التي تحاول إقناع الطالب الإيراني بتفوقه على الطلاب الآخرين وتقدم شعبه على الشعوب الأخرى، من خلال العديد من القصص التي تقدم للطلاب, وعند الحديث عن حروب إيران مع الدول العربية, وأيضاً من خلال الأناشيد التي تقدم للطلاب والألعاب التي يقومون بها، فهم يعملون على تربية الطالب منذ نشأته تربية عنصرية.

خامساً- الموروث الفكري “العنصري”:

يرتكز على أسبقية الحضارة وحقها في السيادة والبقاء على حساب الشعوب الأخرى، وهذا ما يتضح من خلال التوجهات العنصرية للتربية الإيرانية المترجمة من الواقع العملي عن طريق المناهج والمقررات الدراسية التي تفرضها وزارة التربية الإيرانية .

وانطلاقاً من هذا المفهوم – مفهوم السيادة والتفوق- تحاول  إيران تقليد الدول الاستعمارية الأوروبية في أسلوبها التوسعي، ولكن بأسلوب جديد من  خلال التبشير بالمذهب الشيعي بوسائل وطرق وأدوات مختلفة ومتعددة، كل ذلك  تحت شعارات تقديم المساعدات والعمل الخيري، وبذريعة مساعدة الشعوب الضعيفة واعتبار كل رقعة أرض تقع خارج إيران لا تعتنق الإسلام الحقيقي ” الشيعي ” بمثابة أرض  مباحة, كونها تؤلف نوعاً من الفراغ المذهبي ” الشيعي” ، فتصبح بذلك ملائمة لتوسيع المجال الحيوي المذهبي.

لا شك بأن توجيه الاهتمام إلى اللغة الفارسية والتاريخ بشكل كبير، أدى إلى غرس الغرور القومي، وتمجيد الذات، والإشادة برفعة الحضارة الفارسية، وإبداعها الروحي والأدبي، واحتقار الأدب والتاريخ العربي، وتعزيز نزعة الثأر وقدسية الانتقام ممن كان سبباً في دمار الحضارة الفارسية؛ وهم ” العرب “، وعرض صورة تاريخية عن العرب وتشويه الصورة التاريخية لهم، وكيف كان العرب تبعاً للإمبراطورية الفارسية، ولا بد من عودتهم كذلك، ثم استعراض مسار تحميل العرب مسؤولية تدمير حضارة فارس، بحيث يجبل الطالب وفق فكر داعشي حريص على  قدسية الانتقام والثأر من الآخر مدفوعاً بأسباب قومية مقيتة.

سادسًا: كتابات الحكومة والدستور

وكيف يتم تدريس نصوصهما للطالب الإيراني, وهذا ما سوف نتناوله بشكل مفصل في مقالٍ تالٍ إن شاء الله.

………………………………………………

رئيس وحدة الدراسات الإيرانية – مركز أمية للبحوث والدراسات الاستراتيجية

شاهد أيضاً

بعد موقفهما تجاه ليبيا.. محاولات لبث الفتنة بين تركيا وتونس

منذ أن بدأ الجنرال الانقلابي خليفة حفتر محاولة احتلال طرابلس في إبريل الماضي، لم تتوقف …