لم يكن السيسى عابثًا ـ كما ظن البعض ـ حين قال إنه مستعدٌ لبيع نفسه إن كان ذلك هو الحل الوحيد لتتجاوز مصر أزمتها الاقتصادية التى كان هو ونظامه سبب ازدياد حدتها، بل ـ على العكس من ذلك تمامًا ـ لم يكن تصريحه هذا سوى مجرد تمهيدٍ للبدء فعليًّا فى بيع مصر أو ما تبقى فيها.
أراد السيسى أن يقول للمصريين إنه كسلعةٍ لا تجد رواجًا في الأسواق لانعدام قيمتها ونفعها؛ لأن أحدًا لن يدفع مليمًا واحدًا في شراء شيئٍ يفتقد القيمة والمنفعة، وبالتالى فلن يكون من الحلول متاحًا سوى البحث عما يمكن بيعه، وبالطبع فإن مصر ملأى بما يطمح الكثيرون في شرائه بأىِّ ثمنٍ كان إذا عرضه السيسى للبيع.
الانحدار بمصر إلى حافة الإفلاس كانت سياسته ليجد المبرر والذريعة للتنازل تباعًا عن أجزاءٍ من إقليم الدولة وثرواتها الطبيعية في صفقات بيعٍ يحاول إيهام الناس بالباطل أن حصيلة أثمانها ستوجَّه إلى توفيرالغذاء والوقود اللذين ستعانى الدولة افتقارًا حادًا فيهما بسبب الأزمة الاقتصادية التى تسبب فيها عن قصدٍ وعمدٍ، لكن الأمر في حقيقته لن يخلو ـ بالطبع ـ من الكثير من المنافع الشخصية التى حصدها وسيحصدها من وراء صفقات الخيانة تلك، ومن ثم فإنه ـ بذلك ـ يضع المصريين بالخيار بين أرض الوطن وبين الغذاء والوقود، إما التنازل عن الأرض وإما الموت جوعًا، وهو ما يمكن صياغته في تعبير ” الأرض مقابل الغذاء والوقود” .
بمثل تلك الآليات استُخدِم تعبير “النفط مقابل الغذاء” إبان حصار العراق، واستُخدِم ـ أيضًا ـ تعبيرا ” الأرض مقابل السلام ” ثم “الأمن مقابل السلام” في المفاوضات العربية الإسرائيلية، ليكون جليًّا ـ بما لا يدع مجالًا للشك ـ أن جميع تلك التعبيرات والمصطلحات وإن كانت تختلف في مبانيها ومعانيها وظروفها وملابساتها والمَعْنِيين بها إلا أنها تنبثق من آلية تفكيرٍ واحدةٍ تسعى إلى الهيمنة على العالم بأسره وسلب مقدرات الشعوب وتجويعها للسيطرة عليها.
لن تكون جزر البحر الأحمر التى ورد نبأ تنارل السيسى عنها إلى السعودية آخر ما يعرضه للبيع، بل هى أول ما فُتِح المزاد عليه، وقائمة المزاد طويلةٌ تستعصى على الحصر لكنها ـ بالطبع ـ ستشمل أجزاءًا أخرى من إقليم الدولة على رأسها شبه جزيرة سيناء وقناة السويس، وربما تشمل القائمة أبا الهول وأهرامات الجيزة، ولا يستطيع أحدٌ على الاطلاق أن يتكهن بما يمكن بيعه ولاسيما أن البائع ـ وهو رأس النظام في الدولة ـ أبدى استعداده أن يكون بشخصه قابلًا للبيع، وهو ما يعنى قابلية من هم دونه من عامة الشعب للبيع أيضًا، وأعتقد أنه لن يجد غضاضةً في عرض النساء والرجال والأطفال للبيع في مزادٍ علنىٍّ، بل إنه سيعتبر ذلك منهم عملًا وطنيًّا وتضحيةً في سبيل الوطن.
ورغم أن السعوديين يعلمون جيدًا أن دستور السيسى يحظر بموجب الفقرة الأخيرة من المادة 151 منه التنازل عن أىِّ جزءٍ من إقليم الدولة المصرية وقد جرى نص تلك الفقرة على أنه: ” وفى جميع الأحوال لا يجوز إبرام أية معاهدةٍ تخالف أحكام الدستور، أو يترتب عليها التنازل عن أىِّ جزء من إقليم الدولة” ، ورغم علمهم أن البرلمان المصرىَّ الشرعىَّ في الخارج قد أصدر قانونًا يقرر بطلان وانعدام كافة تصرفات وأعمال النظام الحالىِّ في مصر بما يشمل كافة المعاهدات الدولية التى يبرمها من أىِّ نوعٍ وتحت أىِّ مسمًى كانت؛ بحسبان أنه نظامٌ منقلبٌ غير شرعىٍّ لا تُلزِم تصرفاته الشعب المصرىَّ، فإن السؤال الذى يطرح نفسه والحال كذلك، لماذا أقدم النظام السعودىُّ على إبرام معاهداتٍ تتنازل فيها مصر عن جزءٍ من إقليمها مقابل ثمنٍ مادىٍّ وعينىٍّ تتقاضاه منه رغم علمه ببطلانها وانعدامها؟
ببساطةٍ شديدة يستطيع النظام الحالىُّ في مصر أن يتنصل من الالتزامات الملقاة على عاتقه بموجب هذه المعاهدات قِبَلَ الجانب السعودىِّ استنادًا إلى أحكام المادة 46 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات التى تخوِّل الدول الأطراف في المعاهدات الدولية الحق في التنصل منها إذا كانت القوانين المحلية في تلك الدول تحظر إبرام مثل تلك المعاهدات كليةً أو كانت لا تخوِّل شخص من أبرمها الاختصاص في ذلك، ومن ناحيةٍ أخرى فإنه في حال سقوط هذا النظام وإحلال نظامٍ وطنىٍّ محله ـ وهذا الأمر أضحى من الأمور القريبة المنال ـ فمن الطبيعىِّ أنه لن يكون لهذه المعاهدات أىُّ فرصةٍ للبقاء؛ ذلك أنها ستكون ـ أيضًا ـ محلًا للإبطال بموجب المادة 46 من معاهدة فيينا المشار إليها لافتقار السلطة الحالية لأىِّ مسوغٍ شرعىٍّ للاختصاص بإبرامها، ولن يستطيع السعوديون الاحتجاج بأيَّة شرعيةٍ للنظام الحالىِّ لأن دستوره الذى أبرِمت المعاهدات في ظله يحظر عليه إبرامها كليةً.
لكن يبدو أن السعوديين يقفون على حقيقة مجريات الأحداث التى ستجرى في مصر خلال المرحلة القادمة وفقًا لمخطَّطٍ دولىّ ٍ يرسم شكل النظام البديل لنظام السيسى يلعبون هم فيه دورًا محوريًّا فعالًا، من المؤكد أنهم يدركون ـ وفقًا لهذا المخطط ـ أن بديل السيسى لن يكون إلا ظلًّا باهتًا له يستكمل مسيرة خيانته وعمالته، وكما أن السيسى لن يُقدِم على إبطال المعاهدات التى أبرموها معه بالمخالفة لدستوره فإن خلفه ـ أيضًا ـ سيفعل نفس الشئ، لكنه إن صح ذلك فهذا يعنى أنهم من السذاجة بمكانٍ أن يهملوا إرادة الشعب المصرىِّ التى وإن وُضِعَت أمامها الحواجز والعراقيل فلن تثنيها إن آجلًا أو عاجلًا عن استرداد مكتسبات ثورتها .
لم يبقَ لنا إلا أن نتجه بأسئلتنا إلى المؤسسة العسكرية التى تذرعت في انقلابها على الرئيس الشرعىِّ المنتخب بدعوى الحفاظ على إقليم وأمن الدولة، أين هى الآن والسيسى ذو الخلفية العسكرية يبيع الأرض التى من أجلها ضحى السابقون بأرواحهم؟ هل أمن الدولة من وجهة النظر العسكرية يعنى بيع إقليمها؟ أليس من واجبها الحفاظ على كلِّ شبرٍ من أرض الوطن؟ أين الخلفية العسكرية التى دائمًا ما تتصدر المشهد؟ وأين الشرف العسكرىُّ الذى طالما تسترت النخبة العسكرية بردائه أم أن الزىَّ العسكرىَّ الذى يلبسونه مجرد ” يونيفورم ” موحدٍ يخفى من تحته كائناتٍ من كوكبٍ آخر؟ بل أين الشعب الذى سمح للعسكر بالتفريط في الأرض والعرض؟ هل ستتكرر حكاية الأغنية الشعبية الشهيرة ” عواد باع أضه”؟
أما إن كان هناك اتفاق بين العسكر والسعوديين على إبرام هذه المعاهدات التى يتنازل لهم بموجبها السيسي عن جزر البحر الأحمر لتكون تكئةً ترتكن المؤسسة العسكرية إليها لإثبات خيانته وعمالته من أجل كسب تأييدٍ شعبىٍّ يدعم انقلابًا تخطط له معهم تحت رعايةٍ دولية للإطاحة بالسيسى وإجلاس خائنٍ جديدٍ على العرش بدلًا منه معلوم بالضرورة لديهم، فليثق طرفا ذلك الاتفاق أن الأمر ليس بهذه البساطة التى يتصورونها، فلن يُلدغ المصريون من العسكر مرتين.
……………….
رئيس محكمة المنصورة الابتدائية – مصر