يُنقل عن وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة والمرشحة المحتملة للانتخابات الرئاسية المقبلة هيلاري كلنتون قولها: “نريد لحلفائنا أن يكبروا، ونساعدهم على ذلك، ولكن ثمة حد لا ينبغي لهم تجاوزه”. ويبدو أن هذا القول – بل أكثر منه – ينطبق على العلاقات الأمريكية – التركية بشكل عام.
لقد ارتبطت تركيا بعلاقة خاصة مع الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة تحت ضغط الاتحاد السوفيتي السابق ومطالبه الخاصة ببعض المدن والموانئ إضافة للمضائق التركية، وأصبحت تركيا عضواً في حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1952، لكنها بقيت طيلة فترة الحرب الباردة بمثابة قاعدة متقدمة لواشطن أو للحلف في مواجهة الخطر الشيوعي، ولم تخرج سياساتها عن مستوى الدولة “التابع” التي لم تلق معاملة حسنة من “العم سام”.
تاريخ العلاقات الثنائية بين تركيا والولايات المتحدة زاخر بالأمثلة على التعامل الفوقي من واشنطن تجاه أنقرة وعدم اكتراثها بها وبمصالحها، بدءاً من أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 والتي عرَّضت فيها الأولى الثانية لخطر أن تكون مسرحاً لحرب نووية بين القوتين العظميين في العالم قبل أن تسوي خلافها مع موسكو دون الرجوع لحليفتها، ومروراً “بالرسالة شديدة اللهجة” من الرئيس جونسون عام 1964 حين فكرت تركيا في التدخل في جزيرة قبرص، وليس انتهاءً بوقف مبيعات الأسلحة لها إثر تدخلها في الجزيرة عام 1974.
لاحقاً، كانت تسعينيات القرن الماضي فترة ذهبية – استثنائية – بين الطرفين، توجاها بإعلان “شراكة موسعة” بينهما عام 1991، ثم “شراكة استراتيجية” عام 1995، قبل أن تساعد المخابرات المركزية الأمريكية في القبض على زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان وتسليمه لأنقرة عام 1999 وفق بعض الروايات.
ومع وصول حزب العدالة والتنمية للحكم عام 2002، دعمت واشنطن ملف انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي – بعد تجميده لسنوات طويلة – وضغطت على دول الاتحاد لبدء مرحلة التفاوض معها، قبل أن يأتي غزو العراق عام 2003 بما لم يرغبه الطرفان، حين رفض البرلمان التركي السماح للقوات الأمريكية الغازية باستخدام أراضيه. لكن عام 2009 حمل جديداً على مستوى العلاقة الثنائية حين اختار أوباما مخاطبة العالم الإسلامي لأول مرة من أنقرة، مادحاً “النموذج التركي” الذي ينبغي أن يعمم على المنطقة.
بيد أن شهر العسل لم يدم على ما يبدو طويلاً بين العاصمتين، خصوصاً مع ثورات العالم العربي التي اتخذت فيها تركيا مواقف متقدمة في قضايا المنطقة وأبعدتها نسبياً عن الخط الأمريكي، وهنا بدأ مسلسل استهداف حزب العدالة والتنمية ورئيسه أردوغان غربياً وأمريكياً، تمثل في:
1- حملات إعلامية أمريكية ضد الحكومة والحزب الحاكم خلال أحداث “جيزي بارك” عام 2013، وإطلاق اسم “الربيع التركي” عليها منذ أيامها الأولى، بكل ما يحمله ذلك من دلالة.
2- ادعاءات الرشاوى والفساد التي طالت عدداً من الوزراء في الحكومة وأبنائهم نهاية عام 2013، والتي اعتبرتها الحكومة التركية “انقلاباً قضائياً” عليها يقوده “فتح الله كولن” المقيم في الولايات المتحدة، وتمنّع الأخيرة عن تسليمه لأنقرة رغم عديد محاولاتها ونداءاتها.
3- توجيه اتهامات للقيادات السياسية التركية بدعم الإرهاب (تنظيم الدولة -داعش) عبر قنوات سياسية وإعلامية عديدة، في مقدمتها نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن وصحيفة نيويورك تايمز.
4- دعم أمريكي للفصائل الكردية المسلحة في الشمال السوري، المصنفة إرهابية في تركيا، وهو دعم تضمن غطاءً جوياً لدخولهم بلدة تل أبيض في يونيو 2015 والذي نتج عنه تطهير عرقي للبلدة من التركمان والعرب، استغلالاً لحالة الاضطراب التي سادت تركيا بعد الانتخابات البرلمانية حينذاك.
5- تجاهل المطالب التركية بإقامة منطقة آمنة في شمال سوريا، والتنسيق مع روسيا على حل سياسي للأزمة السورية.
بيد أن تطورات الأيام القليلة الماضية قد تكون تحمل متغيراً جديداً جديراً بالاهتمام. حيث ألقت السلطات الأمريكية قبل أيام القبض على رجل الأعمال التركي من أصل إيراني رضا زراب (أو صراف)، بتهم لها علاقة بكسر العقوبات الاقتصادية الغربية على إيران في فترة ما قبل الاتفاق النووي من خلال تجارة الذهب وغيرها. وهو نفسه رجل الأعمال الذي ألقي القبض عليه مع المسؤولين الأتراك نهاية عام 2013 ضمن قضايا الاتهام بالفساد والرشاوى، قبل أن يخلى سبيله لعدم كفاية الأدلة، ونسجت حوله الكثير من القصص والأساطير وأهمها العلاقة المباشرة مع دائرة اردوغان القريبة؛ عائلته ووزرائه!
اللافت في الموضوع أن صحيفة اندبندنت البريطانية (كنموذج عن الإعلام الغربي) تناولت الخبر في أكثر من تحليل تحت عناوين لافتة مثل “الاعتقال الذي سيطير النوم من عيني اردوغان”، والذي توقعت فيه أن يزيد هذا التوقيف من توتر العلاقات التركية – الأمريكية “المتوترة أصلاً”، باعتبار أنه – أي التوقيف – “أعاد التذكير باتهامات الفساد المتعلقة بدائرة اردوغان القريبة والحزب الذي أسسه”.
كل ما يتعلق باعتقال زراب ومكان احتجازه والتهم الموجودة في ملفه “السري” والمدعي العام المكلف بالتحقيق معه، وغيرها من التفاصيل الدقيقة تناولتها في تركيا حصراً صحيفة “حريت” المملوكة لمجموعة “دوغان” الإعلامية المعروفة بمعارضتها للحكومة ولاردوغان تحديداً، والمالكة لقناة CNN TÜRKالتركية.
ليس واضحاً بعد ما إذا كان اعتقال زراب مجرد هفوة منه أو اغتراراً بتحسن العلاقات مؤخراً بين واشنطن وطهران على خلفية الاتفاق النووي، أو كان بسبب صراع الأجنحة داخل إيران، أم كان يشمل تعاوناً منه في محاولة لتوريط اردوغان، لكن المؤكد أن بدء التحقيق معه في الرابع من أبريل القادم وقرار القاضي بمحاكمته معتقلاً أو من خارج الاعتقال وما سيدلي به من معلومات ستحمل إشارات ما على سياق اعتقال الرجل وما يراد من ورائه. كما لا يجب إغفال أن سفره للولايات المتحدة واعتقاله هناك، جاء بعد اعتقال شريكه “بابك زنجاني” في إيران والحكم عليه بالإعدام بسبب “معاملات مالية غير قانونية”، وهو ما يرجح فرضية الصفقة بين “زراب” والأمريكيين.
الآن، هل يمكن ربط كل ذلك بازدياد استهداف تركيا مؤخراً بالعمليات الإرهابية من أكثر من منظمة، ثم بالمقال الذي كتبه عضو البنتاجون السابق “مايكل روبين” (20 مارس 2016) بعنوان “هل يمكن أن يحدث انقلاب عسكري في تركيا؟” والذي خلص فيه إلى أن الولايات المتحدة لن تفعل الكثير إزاءه إذا ما حدث. ثم المقال الذي كتبه الصحافي التركي “عبدالقادر سلفي” المقرب من دوائر الحكومة التركية عن التفجيرات الأخيرة وألمح فيه إلى أن كل الانقلابات السابقة أتت بعد أحداث شغب أو فوضى أو عمليات إرهابية مدبرة؟!
ربما يكون هذا الربط – وأرجو أن يكون – مبالغاً فيه، سيما من شخص لا يميل للاستغراق في نظريات المؤامرة حَدَّ التنكر لتشابكات العلاقات الدولية، لكن المؤكد أن واشنطن ليست راضية عن سياسة أنقرة الخارجية في السنوات الأخيرة سيما فيما يتعلق بقضايا المنطقة، والمؤكد أنها تحاول الضغط عليها بمختلف الوسائل للعودة إلى حضنها ثانية والتخلي عن استقلاليتها الجزئية، والمؤكد أنه لا صديق دائماً للولايات المتحدة في المنطقة إلا دولة الاحتلال، والمؤكد أن واشنطن في الأعم الأغلب ترى مصالحها مصانة مع النظم الدكتاتورية والشمولية أكثر من النظم الديمقراطية التي تخضع للشعب.
يبدو إذن أن توريط اردوغان – تركيا في قضية رجل الأعمال المثير للجدل وارد جداً، وسيسعد عدة أطراف، فهل الفشل في عدة محاولات اغتيال، ثم في أحداث “جيزي بارك” ثم في إثارة قضايا الفساد ثم في العمل على الإفشال في الانتخابات البرلمانية ثم في التصعيد العسكري من حزب العمال الكردستاني ثم في العمليات الانتحارية، يدفع لهذا النوع من الضغط و/أو التوريط، أم لشيء أكبر وأخطر حتى من هذا؟