أعطال القطارات أصبحت أمراً معتاداً في مصر
26 ساعة استغرقها القطار في رحلة لا تزيد مسافتها عن 12 ساعة فقط
قطارات الغلابة والمبسوطين وجهان لعملة واحدة
بخطوات مسرعة وعين جاحظة وإصرار على الوصول.. ظل الشاب المصري العشريني يجري وراء القطار المتجه من الجيزة نحو الصعيد حتى لحقه في اللحظات الأخيرة، كانت الفرحة تغمره ليس فقط لأنه استطاع الوصول للقطار المتحرك بل لأنه وجد مقعدًا يجلس عليه ولو بعد مشادات مع أحد الركاب على جملة “فيه واحد هنا يا بيه”, أي أن المقعد يخص أحد الركاب وسيأتي ليجلس عليه, لكنه بحكم الخبرة رد بأنه سيجلس الآن وسيقوم من مكانه حين يحضر هذا الشخص.
تحرك القطار
في تمام الساعة الحادية عشر مساء تحرك القطار رقم 992 مميز من محطة الجيزة ومتوجهًا للأقصر.. وفي التوقيت ذاته بدأت قصة المعانة التي عاشها محرر “علامات أونلاين” ذهابًا وإيابًا في قطار يسمي بـ”الركاب أو مميز” لكن الأغلب يطلق عليه “قطار الغلابة” لما يتميز به من تهالك في شكل القطار إذا تشعر أنه منذ بداية الخليقة لم يجدد “شبابيك مكسرة كراسي متهالكة، حمامات لا يطاق رئحتها”.. فكانت هذه التسمية أقرب إلي قلوب مسافريه.
نعود لاستكمال الرحلة لم يتمالك الشاب فرحته فور أن وطأت قدماه القطار فراح يحادث أهله هاتفيا أن معجزة ما حدثت معه بأن وصل أثناء تحرك القطار واستطاع الصعود إليه ببعض المعاناة، وبأنه وجد كرسي يجلس عليه طوال الرحلة التي عادة ما تستغرق من الجيزة حتى طما 6 أو 7 ساعات.
بداية الرحلة (شراء التذاكر)
لم يكن صاحب الرحلة ينتوي السفر في قطار الغلابة، لكن شباك التذاكر هو من فرض عليه ذلك إذا ذهب قبل الحجز بـ 4 أيام للحجز لكنه لم يجد مكانًا داخل قطار “المبسوطين” ففي مصر يفضل أن تجحز قبل الرحلة بـ”10 أو 15″ يومًا اللهم إلا إذا لعب معك الحظ -فتستطيع أن تجد لك مقعدًا في القطار “المكيف” قبلها بيومين أو ثلاث؛ لكن هذا نادرًا جدَا- عمومًا صاحب الرحلة اكتفي بحجز مكان للعودة مع أسرته وقرر خوض التجربة التي اعتاد عليها منذ أن كان صغرًا داخل قطار “المعدومين”.
يا فرحة ما تمت
وكأن المسؤلون يعاندون “الغلابة” حتى في رحلتهم المحفوفة بالمعاناة والمشقة.. فبعد سير القطار ما يقرب من ساعة وتحديدا بعد منطقة البدرشين التابعة للجيزة وقبل محطة الواسطى التابعة لمحافظة بني سويف توقف القطار، ظن الركاب أن يتحرك بعد دقائق معدودة كعادته، لكن كانت الصدمة والأنباء التي تداولها الركاب أن “قطار بضائع” انقلب في الطريق بعد محطة الوسطى.
و في دولة الانقلاب لا تسأل أين الوسيلة التي يمكن من خلالها رفع القطار المنقلب على السكة الحديد حتى تستكمل باقي القطارات رحلاتها،و حتى لا تتعطل أعمال البشر؟، بل عليك أن تصمت وتنتظر إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
توقف القطار 4 ساعات
تبادل الركاب أطراف الحديث وكل ذهب يحلل الموقف حسب رؤيته، منهم من قال إنهم “المسؤلين” سيسحبون القطار “العطلان” خلال دقائق.. وآخرون كانوا عالمين ببواطن الأمور ويعرفون مصر العسكرية -التي ظلت طوال 60 عامًا يحكمها العسكر- أكثر من غيرهم فقالوا إننا لم نتحرك الآن وقد يصل الأمر لصباح اليوم التالي، وهو ما حدث بالفعل إذ ظل القطار متوقفًا قرابة الـ 4 ساعات متكاملة انتشرت فيها حالة من “العكننة والضيق والململة” ما يكفي للغلابة في أيامهم المعتادة.
الغريب في الأمر أنك كنت تجد قطارات “مكيفة” تمر على هذا القطار “الغلبان” رغم الحديث عن القطار المتوقف هذا.. وهو ما أثار تساؤل الركاب وتذكيرهم بحقيقة أمرهم أنهم مواطنون من الدرجة الثانية أو فرز ثاني.
في مثل هذا الأجواء يجد المسافر الغلبان نفسه يردد كلمات أشبه بشعرًا عن حاله وما تفعل به بلاده، حيث يقول الشاعر ممدوح السباع عن القطار:
يا قطر الغلابة
يا أبو الشبابيك متكسرين
وباين عليك الكرم يابا
بيبانك دايمًا مفتوحين
مرة كنت مسافر
واستنيتك ما جيت
ومرة كنت مسافر
وركبت من باب
ومن بابك التاني اترميت
آه يا قطر المطحونين
لما بنكون ع المحطة
بنبقى حبايب نحكي ونتساير
ونفضل ندخن ف كومة سجاير
ولما تهل بطلتك ننسي الحكاوي
وكأننا متخاصمين
آه يا قطر الغلابة
يا أبو الشبابيك متكسرين
بتاخدنا حبايب
ولا نرجعوش
بتتغير جواك الوشوش
بتاخدنا مسافرين
وعارفين
إن إحنا مش راجعين
مرة تولع وتحرقنا
ومرة توجعنا
ومرة نندهلك ما تسمعنا
واللي رميني عليك
إن تذكرتك من أم 20
يا قطر الغلابة
يا أبو الشبابيك متكسرين
صوتك مع صوت بياعينك
يجيبوا أجدع نوع صداع
ما أعرفش من فين جيبينك
كل شئ فيك يتباع
وفين وفين علي ما توصل باب الحديد
ساعتها أقول إني اتولدت من جديد
يا قطر الغلابة
يا أبو الشبابيك متكسرين
الكمسري
قبل هذه الأجواء بقليل مر رجل يرتدي زيا أزرق اللون ممتلئ الجسم، صعب قسمات الوجه يبدو في هيئته القوة التي تتناسب مع “بلطجية القطار” أو المتهربين من دفع قيمة التذاكر، وهو الكمسري لا يتهاون مع “الغلابة” في دفع الأجرة التي متوسط قيمتها “17” جنيه تقريبا، وهو ثمن مناسب جدًا للراكب المعدوم ومناسب أيضا للخدمات المعدومة في قطار الغلابة.
ربما يتعجب البعض من قلة قيمة تذكرة قطار الغلابة لكن هذا العجب يزول سريعًا إذا ما رأي شبابيك هذا القطار مكسرة، والقمامة في كل مكان، والرئحة الكريهة تطمس هواء القطار، والزحام الذي قد يضطرك إلى تثبيت رجليك مكانها خشية تحريكها ثم لا تجد مكانها فتضطر أن تقف على قدم واحدة.
سحور الغلابة
بعد وقوف قرابة 4 ساعات كاملة تحرك القطار خلال الوقوف تسحر الغلابة لصيام اليوم التالي، كان طعامهم في الغالب عبارة عن أرغفة يتوسطه قطعة جبنة “نستو” أو “بيضة” وزجاجة مياه ليس معدانية بالطبع.
أما وجوه الفقراء من البشر معروفة للعامة في أي مكان بالعالم، لكنك تشهدها أكثر وضوحا في قطارات المصريين، إذ يتجمعون فيه فيسهل علي الإنسان وصفهم.. هم غالبا “صعايدة” ذهبوا للعمل فى قاهرة المعز تجد بعضهم عامل محارة أو نجار مسلح أو بائع متجول أو عامل ورنيش أو عامل نظافة أو حتى طالب فقير حدفه القدر للدراسة في “مصر” كما يسمونها، تجد ملابسهم متسخة بعض الشيئ، إلا ما ندر، وأحذيتهم متهالكة، وقد تعرف عملهم من ذيهم الذي يرتدونه بأن تجد حذاء هذا مبيض فتعرف أنه عامل مبيض محارة أو ذالك يده مسودة فتعلم أنه رجل أخذية.
بعد أن تحرك القطار بعد صلاة الفجر وتحديد في الرابعة صباحًا فرح المسافرون، لكن كانت فرحتهم متقطعة نظرا لتكرار وقوفه وظلت الأجوء كذلك إلى أن وصل صاحب الرحلة محطة طما أولى مراكز سوهاج في تمام الساعة الحادية عشر إلا قليلا رغم أن الرحلة كما ذكرنا لا تستغرق 6 أو 7 ساعات لكنها المعاناه في هذه القطارات.. عازما ألا يعود له ثانية وواصل لعناته على القطار وأصحابه والبلاد ومن يحكمها وانصرف ينتظر رحلة معاناة جديدة.
رحلة قطار “المبسوطين”
وصل صاحب الرحلة في موعد القطار الذي حجز تذكرته من مصر للعودة فيه مع أهله في الرحلة التي تستغرق يوما واحد، فلم يتمكن من الخروج من محطة القطار وانتظر أهله ليبدأ رحلة العودة ثانية لكن هذه المرة بقطار “المبسوطين”.
ودع صاحب الرحلة، وركب أسرته القطار “المكيف” في تمام الساعة الحادية عشر إلا ربع صباحا، لكن الصدمة كانت مفزعة، إذ أن الرحلة لم تكن أحسن حالا من رحلة معاناته مع قطار “الغلابة”.
فما هي إلا ساعات قليلة إلا ووقف القطار الذي يحمل رقم 980 في إحدى قرية مركز مطاي محافظة المنيا وظل كذلك قرابة 4 أو 5 ساعات أيضا.
في أثناء ذلك تجمع ركاب القطار أمامه وظلوا في مشاداة مع السائق حتى وصل مأمور مركز القرية وهدأ الجو بعض الشيئ، كان سبب ذلك بحسب ما ذكر قطبان القطار قطار آخر معطل في الطريق.
تقول نعيمة محسن إحدى المصريات التي كانت تركب هذا القطار: “كنت إحدي ركبات القطار الذي تأخر عن وصوله إلى محطة الجيزة حوالي خمس ساعات ولن تصدقوا مدي المعاناة التي عانيتها أنا وأسرتي”.
وتضيف نعيمة: “كان من المفروض وصوله قبل الإفطار وهذا ما مدون بالتذكرة التي بين أيدينا ولكن للأسف، عندما توقف القطار فجأة في بلد نائيه بعيده عن العمران ولا نعرف لها اسم وكل ما أسأل أحد من العاملين بالقطار سواء أكان عامل بوفيه أو موظفي التذاكر لا أجد إجابة واضحة عن سبب قوقف القطار”.
وتتابع: “لاحظت معظم الراكبين ينسحبون من عربات القطار وينزلون ، ولكن لا أعرف إلى أين وكنت في حيره من أمري ماذا أفعل أنا ومعي بناتي وحقائبي الثقيلة ومعي أبني لا يستطيع وحده أن يقوم بهذه المهمة ولكن نزل من القطار ليستفسر عما حدث”.
وتمضي تقول لـ”علامات أونلاين “:كنت قلقه عليه أشد القلق حتى بطاريات الموبايلات فرغت شحناتها من أيدينا بسبب التواصل وقلق الأهالي علي الركاب والاتصالات التي بيننا وبينهم.. وأخيرا أتساءل وأوجه سؤالي الي من يهمه الأمر : كيف تحدث حادثة قطار في الطريق وانتم لم تنتهوا من إزالة العوائق التي ترتبت على الحادثوتسمحون للقطارات أن تسير وكأن شئ لم يحدث وتتوقف القطارات بالركاب الذين ليس لهم حيلة إلا الدعاء إلى الله”؟.
وختمت السيدة المصرية حديثها قائلة: “إلي كل مسؤول عن السكك الحديدية اتقوا الله في الناس كان عليكم العمل السريع لازاله بقايا الحادث أو توقف حركة القطارات لحين عودة الأمور لطبيعتها”.
من جهته يقول عنتر بخيت أحد ركاب قطار الغلابة إنه منذ 30 عام وهو يسافر ويعود في هذا القطار، مضيفًا أنه منذ أن راه لم يتغير حتى الآن.
ويضيف في حديثه لـ”علامات” أن البسطاء لا يجدون أرخص من هذه الوسيلة ليستخدموها، مشيرًا إلي أن سعر السيارات والأتوبيسات وصل ما يقرب من 80 جنيها للسفرية.