بعد تجارب مريرة اكتشفت حركات إسلامية، محسوبة على ما بات يطلق عليه حركات «الإسلام السياسي»، أنها بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في كثير من رؤاها ومواقفها السابقة بخصوص العديد من الملفات المتعلقة بالتعاطي مع الواقع، وعلى وجه الخصوص طبيعة العلاقة مع الأنظمة السياسية القائمة، وكذلك العلاقة مع القوى والأحزاب السياسية الفاعلة.
كان من الصعب على كثير من تلك الحركات التفكير بذات الطريقة التي باتت تفكر بها حاليا، فقد كانت ممارساتها السياسية تتسم بالصرامة العقائدية في سابق عهدها، المحددة لمشروعها الأكبر في تطبيق الشريعة، التزاما بمبدأ الحاكمية، ثم طرأ على تلك الرؤية تعديل خفف شيئا ما من صرامة الأيدلوجيا الحاكمة لنموذجها في العمل السياسي إلى التوجه نحو نموذج الدولة المدنية بمرجعية إسلامية.
ثم تقدمت حركة النهضة التونسية قبل الربيع العربي وبعده، بنموذجها الأكثر جرأة بالقبول باللعبة الديمقراطية بشروط الديمقراطية نفسها، وليس بفرض أي قيد أو شرط عليها من خارجها، كما يحلو لبعض الإسلاميين تقييد بعض مبادئ الديمقراطية، كالحريات المختلفة التي توفرها الأنظمة الديمقراطية بثوابت الأمة الدينية، أي وضع سقف ديني لمبادئ الديمقراطية.
تمثل ذلك بوضوح تام برؤية زعيم حركة النهضة، الشيخ راشد الغنوشي، الذي أعلن عن قبوله بالديمقراطية قبولا تاما، من غير أي شرط أو قيد يُفرض عليها من خارجها، وتحييد الدولة بسلطتها ونفوذها عن أن تكون خاضعة لأي اتجاه إسلامي. وهو ما حكم تجربة الحركة إبان تسلمها الحكومة والمشاركة فيها، عبر مواقف رموزها وقادتها بتحييد الدولة عن فرض الأحكام الشرعية وتطبيقها بسيف القانون والسلطة.
ثم توالت اكتشافات بعض تلك الحركات، بإعلاناتها المتكررة أنها كانت واهمة حينما وضعت ثقتها المطلقة بصناديق الاقتراع، التي ستمنحها السلطة الحقيقية حال فوزها بنتائج الانتخابات، لتكتشف أن مفاصل الدولة لن تكون بيد الإسلاميين حتى بعد فوزهم (الساحق) في الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية، لتعيد ترتيب أوراقها من جديد بناءً على شروط الواقع الحاكمة، ومعادلاته المهيمنة على سائر شؤون الحياة، ومختلف مؤسسات الدولة.
ثم اكتشفت تلك الحركات أنه لا بد من توسيع دوائر تحالفاتها مع مختلف القوى السياسية والوطنية، دفعا لنزعة الاستئثار التي كانت تحكم توجهاتها وسياساتها وقراراتها في سابق عهدها، (على الأقل من وجهة نظر خصومها)، فدخلت في تحالفات متأخرة مع القوى والشخصيات الوطنية على مختلف انتماءاتها الفكرية، مؤمنة بواقعية تامة أن الوطن لجميع أبنائه، ولا ينبغي لقوة أن تستأثر بحكمه دون الآخرين.
من المسلم به أن غالب تلك الحركات (المندرجة تحت ما يسمى بحركات الإسلام السياسي) ارتضت لنفسها أن تعمل من خلال مؤسسات الأنظمة القائمة، فهي تؤمن بالدستور المعمول به في دولها، وتخضع لسلطة القانون النافذ في مجتمعاتها، فهي تعمل ضمن أطر دستورية وقانونية، وتمارس نشاطاتها وأعمالها السياسية والاجتماعية بصورة علنية مكشوفة أمام الجميع، وتؤمن بالعمل السلمي، والإصلاح التدريجي من خلال الأطر الدستورية والقانونية القائمة.
وما دام أن تلك الحركات رضيت بالعمل من خلال مؤسسات الأنظمة القائمة، فلا يسعها إلا التكيف مع شروط الواقع مهما بلغت قسوتها، ولا تملك إلا الاستجابة لإكراهات الواقع الضاغطة بكل مرارتها، لأنه بكل وضوح ليس بين أيديها خيارات أخرى (مأمونة العواقب) يمكن الأخذ بها، وسلوكها في ظل مأوساية التجارب البعيدة والقريبة.
المرونة في التعاطي مع الواقع، لا تعني بحال التنازل عن ثوابت الدين، وقطعيات الشريعة، وإنما تعني الخضوع الجبري لشروط العمل المقدور عليه، فالعاجز عن الفعل، لضعفه وعدم امتلاكه القدرة اللازمة لإحداث الإصلاح والتغيير، ماذا بوسعه أن يفعل إلا التحرك ضمن الهوامش المتاحة والممكنة، وأن يجنب نفسه وجماعته الصدام مع الأنظمة، والذي غالبا ما يفضي إلى مفاسد كبيرة تفوق بأضعاف مضاعفة كل المصالح المتوهمة.