لعل انتخابات مجلس الشيوخ التي انتظمت أخيراً في مصر، كانت محرجة للنظام بطريقة لم يتوقعها أحد. ففيما اعترف سياسيون عديدون بعدم جدوى هذا المجلس، وصرف المليارات على انتخابات معروفة نتائجها مسبقاً، هندستها الأجهزة الأمنية كما المعتاد منذ صعد عبد الفتاح السيسي إلى السلطة في أعقاب الانقلاب العسكري في 3 يوليو/ تموز 2013. ووجهت هذه الانتخابات صفعة قوية إلى ما تسمّى شرعية النظام المصري أو جماهيريته، أو بالأحرى الرئيس الذي يلقبه أنصاره منقذ مصر. يبلغ عدد المقيّدين في جداول الانتخابات 62 مليوناً و940 ألفاً و165 ناخباً، شارك منهم 8 ملايين و959 ألفاً و35 ناخباً في انتخابات مجلس الشيوخ، بنسبة مشاركة 14.23%، ليبلغ عدد المتخلفين عن التصويت نحو 54 مليوناً، ما حدا رئيس اللجنة العليا للانتخابات إلى اتخاذ قرار بتحويل هؤلاء جميعاً إلى النيابة العامة التي ردّت عليه بأنه لا يجوز قانوناً، لأنه صادر عن شخص لا أهلية له في ذلك. ولم تتوقف تبعات هذا الأمر عند هذا الحد، فقد خرج السيسي في أحد اللقاءات (افتتاح أحد المشاريع التي يشرف على تنفيذها الجيش كالعادة)، وهو يحيط به رجال الجيش أيضاً، قائلاً: “إذا لم يكن يريدني أحد أن أظل في السلطة، فسأقوم بعمل استفتاء على بقائي”. وسبب قوله هذا، المقاطعة الواسعة لانتخابات مجلس الشيوخ، وخروج النتيجة بهذه الصورة الباهتة. لحديث السيسي عنها بهذه الكيفية تفسيران: يبدو أن الأجهزة الأمنية المشرفة على ترتيب هذه الانتخابات لم تكن تتوقع هذه المفاجأة التي قام بها الشعب، ومقاطعة تلك المهزلة المسمّاة انتخابات. ويبدو أن تلك النتيجة بهذه الصورة جاءت محرجةً للرجل أمام عدد من خصومه الداخليين، خصوصاً داخل المؤسسة العسكرية، وبالتالي انكشف وضعه، ولم تعد لديه شعبية حقيقية. ويبدو أن حديثه بهذه الطريقة جاء على غير رغبة الأجهزة الأمنية التي توصي الرجل دائماً بألّا يتحدّث، لكنه لا يستمع إلى نصائحها.
السيسي هو الصانع الأساسي للصورة التي ظهرت عليها انتخابات مجلس الشيوخ أخيراً، أو أقله شريك في صناعتها
القول بالاستفتاء على بقاء الرئيس من عدمه لا يصدر عن رجلٍ جاء من طريق انتخابات ديمقراطية، بل عن شخصٍ يشعر بأن سلطته التي انتزعها بالقوة مهدّدة، وبالتالي يحاول أن يقول بعمل استفتاء، ليكون هناك نوع من تجديد الشرعية السياسية التي يعلم أنها في الأساس شرعية الداخل والشعب، وليس شرعية الغرب التي حصل عليها بموجب صفقات السلاح.
يكشف ما جرى في انتخابات مجلس الشيوخ مدى هشاشة نظام السيسي، فمن ناحية اعتماده على الأجهزة الأمنية، لكنه غير قادر علي إقامة تحالفات مجتمعية كالتي أقامها الحزب الوطني الديمقراطي في أثناء حكم حسني مبارك. كان ذلك الحزب هو المنوط به تزوير الانتخابات من خلال شبكة العصبيات والقبليات والولاءات التي شكلها على مدار ثلاثين عاماً في السلطة، وهو ما لم يستطع السيسي أن يقوم به، حتى إن الحزب الذي أشرفت على إنشائه المخابرات، “مستقبل وطن”، لم يكن قادراً على تشكيل هذه الشبكة من الولاءات أو عملية الحشد الشعبي، على الرغم من توزيع المواد التموينية على المواطنين. ولهذا أيضاً دلالة على ضعف رجال السيسي في تلك الأجهزة في ممارسة أي دور سياسي أو بناء تنظيم سياسي أو مجتمعي. ولعلها عقبة كبرى تواجه المدنيين، فما بالنا بالعسكريين الذين لا علاقة لهم بالسياسة من قريب أو بعيد. كذلك فإنها تكشف عن أنه ليس لدى رجال السيسي الشعبية والخبرة التي كان يتمتع بها رجال مبارك في تلك الأجهزة.
وضعت انتخابات مجلس الشيوخ بصورتها الضعيفة شرعية النظام مرة أخرى، محل تساؤل
السيسي هو الصانع الأساسي لتلك الصورة التي ظهرت عليها الانتخابات أخيراً، أو أقله شريك في صناعتها، في عدم إيمانه بمشروعية الحزب السياسي. استعاض بالائتلافات والجماعات المختلفة، بديلاً من مسألة الأحزاب. وعلى خطى مؤسس دولة يوليو، الجنرال جمال عبد الناصر، الذي أعلن حلّ الأحزاب وتجميد أنشطتها، عندما سطّر بداية انقلابه في أوائل خمسينيات القرن الماضي، أعلن السيسي عداءه لتلك الأحزاب ووجودها بوضوح، حينما اعتقل رؤساء وأعضاء أحزاب سياسية شرعية، مثل رئيس حزب مصر القوية، عبد المنعم أبو الفتوح، وغيره. استعاض بالائتلافات التي تحكمها الأجهزة الأمنية وتشكلها بديلاً من الحزب السياسي، وكذلك البديل الأمني في مجمله، بديلا من الظهير السياسي، متمثلاً بأجهزته الأمنية. عدم وجود ذلك الظهير السياسي للجنرال السيسي إلى جانب عدم وجود الخبرة لدى المخابرات الحربية في إتمام العملية، كما تقوم به الداخلية، أدّى إلى أن تكون انتخابات مجلس الشيوخ، ومن قبلها الانتخابات الرئاسية، في حلتها النهائية أقرب إلى المسرحية الهزلية على مستوى الحبكة والإخراج.
وضعت انتخابات مجلس الشيوخ بصورتها الضعيفة تلك شرعية النظام المصري، مرة أخرى، محل تساؤل، وأصبح السؤال المتجدّد الآن: هل أصبح لدى هذا الرجل والذين معه أي شرعية أو جماهيرية للبقاء في السلطة، بعد نسف الشكل المؤسسي للدولة التي حاول مبارك الحفاظ عليها خلال فترة حكمه. وجددت نسبة المشاركة في هذه الانتخابات سؤالاً آخر، يتعلق بالنسبة الحقيقية التي شاركت في عملية الاستفتاء على تغيير الدستور. تلك التغييرات التي أتاحت للسيسي البقاء في السلطة حتى عام 2030، وبالتالي إذا ما كُشف عن النسبة الحقيقية للمشاركة في ذلك الاستفتاء، فهل سينسف هذا شرعية البقاء في السلطة أو التعديلات نفسها التي جرت تحت رقابة الأجهزة الأمنية التي تدين بالولاء للرئيس وشخصه، وليس للدولة ومؤسساتها؟
نقلا عن العربي الجديد