دروس من تجارب الإخوان الماضية (4)

الدرس الرابع: عندما يتقيد أحد طرفي الصراع بالضوابط الشرعية والأخلاقية دون الطرف الآخر

هناك ضوابط شرعية وأخلاقية من الممكن أن تعيق قدرة الجماعة وأفرادها على التصعيد في استخدام القوة في مواجهة الحكام وأذنابهم؛ سواء أكان ذلك مرتبطا بأن الأصل في الحكم الشرعي لهؤلاء الخصوم – في عمومهم – هو الإسلام، وفي ذلك من القيود ما فيه، أو سواء نشأ ذلك عن الضغوط النفسية المرتبطة بالقيم التي يتربى عليها شباب الجماعة من حق مجتمعاتهم عليهم في خدمتها وإصلاحها, فإذا بهم يخوضون مواجهة ليس من اليسير التمييز فيها بين المراتب المختلفة لمن يصطدمون بهم قصدا أو عفوا، مع وجود مخاطر لأن يتطور التصعيد لتنجم عنه حرب أهلية، أو يسهم في فتح الباب أمام تدخل أجنبي؛ وكلها احتمالات عملية تفت في عضد أفراد الجماعة في مواجهة خصومهم الذين لا يأبهون لمثل هذه القيود. يسجل اللواء صلاح شادي في مذكراته ( لقد آثرت قيادة الجماعة، عدم مواجهة حكم عبد الناصر مواجهة مسلحة تتحول لحرب أهلية لا يعلم مداها إلا الله، وتفتح الباب على مصراعيه للتدخل الأجنبي المتربص بالبلاد, وتحملت الجماعة كل ألوان الاضطهاد والقهر والافتراء عليها، ورغم ذلك لم تحد عن القيم التي تؤمن بها، ولم تنزلق للمغامرة بمصير البلاد، فقد كانت تعلم أن خصمها الذي أعلن عليها الحرب لا يتورع عن القيام بأي عمل غير مبال بأي قيم)[1], وهو تفسير قريب مما رواه الأستاذ محمد فريد عبد الخالق في شهادته على العصر ( الإخوان سكتوا لأن الثمن الذي سيدفع حرب أهلية.. وماكناش مستعدين نعمل زي الجزائر(فيما بعد) … الصبر على الأذي أحسن من البديل اللي يهدم البلد كلها وكان حتبقي حرب أهلية لا تنتهي إلا الى خطر فظيع, فإحنا نعتبر موقفنا إيثار لمصلحة البلد ولو كان علي حسابنا )[2] .

ومن المفيد أن نثبت هنا ما أسر به الشهيد يوسف طلعت المسؤول عن النظام الخاص – وقتها – للأستاذ حسن عشماوي في ذات السياق ( كان يوسف طلعت يتخوف بعد حادث المنشية من أمرين يعوقانه عن التصرف هما التدخل الأجنبي إذا ثارت قلاقل في مصر، والتشفي ممن في داخل السجون, وعندما قلت معترضا ” ويقبض علينا من بيوتنا؟” كان رده ” وما الذي بيدنا لنمنع ذلك”؟)[3]. وبالطبع هناك ضوابط أخلاقية تحكم سلوك الجماعة وأفرادها في هذه المواجهات العصيبة, ولكن الحرج والعتاب يكمن في التأخر في إدراك القيود العملية التي تفرضها هذه الضوابط إلى حين وصول الصدام إلى مراحله النهائية، حيث يصعب إيجاد البدائل، وتعديل المسارات … رحم الله الجميع.

والدرس المستفاد هنا أن الصدام كان – وسيكون دائما – بين طرفين أحدهما مقيد في إجراءاته التصعيدية أخلاقيا وشرعيا – أو هكذا ينبغي أن يكون – والآخر منفلت الزمام من كل قيد، ومتحرر من كل خلق وقيمة, أو إلى هذا الحد من الممكن أن يصل.

ولعل حادث المنشية الملفق يقدم مثالا جليا للمدى الذي يمكن أن يصل إليه التجرد من القيم الأخلاقية في الصراع، غير أنه أيًا كان حكمنا الأخلاقي على هذه التمثيلية إلا أننا لا ننكر أنها مثلت ضربة قوية أصابت العقل الاستراتيجي للجماعة بالارتباك، وكأن قيادة الجماعة لم تضع في حساباتها إمكانية أن ينحدر خصمها إلى هذا المستوى. انظر إلى المستشار عبد القادر عوده وكيل الجماعة وهو يؤكد للأستاذ محمود عبد الحليم – قبلها – قناعته بأن الجماعة في موقف قوة ( بل إننا في مركز قوة، وهم في مركز ضعف، وستظهر الأيام ذلك إن شاء الله، وسيعلمون أن الإخوان قوة لاتقاوم )[4] .

كان هذا التأكيد في أواخر شهر سبتمبر؛ أي قبل حادث المنشية بشهر تقريبا, وما أن يقع الحادث الغادر، وتبدأ حملات التشويه والاعتقالات الواسعة المخطط لها مسبقا إلا ويجد المستشار عبد القادر عوده ذاته وقد استشعر أن الجماعة – بل وشخصه ذاته – أصبحت في موقف الضعف فيكتب لجمال عبد الناصر بعد الحادث بيومين نافيًا العلم به (كل ما أستطيع أن أقوله لك مخلصا أني لا أعلم شيئا عن هذه الجريمة، ولست أرضاها لأي إنسان، ولا من أي إنسان، وإذا ثبت يا أخي أن لي صلة بهذا الموضوع فأنا أحل لك دمي)[5] , ومتقدمًا باقتراح لمعالجة الموقف يبدأ بـ (حل النظام الخاص، ويسلم ما قد يكون لديه من أسلحة وذخائر في مدة تتراوح بين عشرة أيام وأسبوعين)[6]

وبالطبع, فلا جدوى من إثبات البراءة عند من يرميه بالبهتان قصدًا … ولاجدوى من اقتراح الحلول لوضع النظام الخاص لدى من يرى في وجوده فرصة لا تضيع لتوجيه ضربة قاصمة للجماعة برمتها، ولمشروعها بآفاقه القريبة والبعيدة.

 

 

[1]  ) صلاح شادي – حصاد العمر ” مذكراته ” – ص 337

[2]  ) فريد عبد الخالق – شاهد علي العصر — الحلقة 11 – 15 – 2 – 2004 – قناة الجزيرة الفضائية

[3]  ) حسن عشماوي – حصاد الأيام – ص 199

[4]  ) محمود عبد الحليم – أحداث صنعت التاريخ – ص 358

[5]  ) عبد الله إمام –   عبد الناصر والإخوان – ص 128

[6]  ) عبد الله إمام –   عبد الناصر والإخوان – ص 128

شاهد أيضاً

بعد موقفهما تجاه ليبيا.. محاولات لبث الفتنة بين تركيا وتونس

منذ أن بدأ الجنرال الانقلابي خليفة حفتر محاولة احتلال طرابلس في إبريل الماضي، لم تتوقف …