دروس من تجارب الإخوان الماضية (7)

الدرس السابع: استخدام الحركة الإسلامية للعنف يدفع جهاز الدولة للتماسك والاقتناع بمشروعية ما يقوم به من قمع

في أكتوبر1965 كتب كمال الدين حسين عضو مجلس قيادة الثورة ووزير التربية والتعليم السابق رسالة لعبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة يشكو فيها مناخ الطغيان والنفاق الذي ساد مصر وقتها، ورد عليه عبد الحكيم عامر مبررا هذا المناخ ( إن المؤامرة الأخيرة التي دبرها الإخوان المسلمين المتعصبون مؤامرة لا يمكن وصفها بأنها جريمة ضد شعب بأسره .. بل جرائم قتل باسم الإسلام، دماء تسيل وخراب يعم باسم الإسلام … هل فكرت ماذا كان سيترتب على نسف محطات الكهرباء فقط؟ … توقف المستشفيات، وفاة المرضى .. القاهرة بلا ضوء .. بلا مصانع تعمل فيها )[1]

ربما تكون لدينا دواعٍ مفهومة لاعتبار كلمات عامر من قبيل الاستخفاف بالقارئ, خاصة وقد قام هو ذاته بمخاطبة عبد الناصر بذات مضمون خطاب كمال الدين حسين بعد أن تمكن عبد الناصر من إزاحته من السلطة في أعقاب هزيمة 1967 … غير أننا هنا لا نبحث مقدار التجني على الإخوان في مثل هذه الادعاءات، ولا نبحث في مدى مسئولية النظام الحاكم – وقتها – عن ذلك المناخ المتدهور، ولكننا نلفت النظر إلى: كيف وجد عامر في ذلك العنف – الذي لم يتعدَ أن يكون أفكارًا ونوايا لم تتحقق – من جانب الإخوان مبررا مقنعا له – ويجب أن يكون مقنعا للآخرين! – لصرف الذهن عن كل ذلك الانحطاط الذي أصاب الدولة والمجتمع حينذاك, آخذا في الاعتبار أن هذه المراسلات الخاصة لم تكن موجهة للنشر، ولم يتم كشفها إلا بعد سنوات.

الدرس الثامن: إغلاق الباب أمام تكفير الحكام كمدخل للتورط في العنف

إذا كان المستشار حسن الهضيبي مضرب الأمثال في صلابته وثباته – وفق ما سبق أن ذكرناه – تجاه ما ناله من عنتٍ في سجون الحكام الطغاة، فإن هذا العنت لم يدفعه – عندما أطلت فتنة التكفير برأسها في السجون – إلى الترخص مع من دعوا إلى وصم هؤلاء الحكام بالكفر المخرج من الملة – لحكمهم بغير ما أنزل الله – واحتج على هؤلاء  في بحثه  ” دعاة لاقضاة ” بأن الكفر المبيح لقتال الحكام لمخالفتهم حكم الله، والحكم بغيره يرتبط باقتران المخالفة بجحود هذا الحكم وإنكاره ( فيما يتعلق بآية ” ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ” وردت الأخبار الصحاح بأن الصحابي الجليل ابن عباس، والتابعي الجليل طاووس اليماني قالا ” إن الآية ليست على ظاهرها وإطلاقها، وإن الكافر هو من حكم بغير ما أنزل الله جاحدا، وأن من أقر بحكم الله وحَكَمَ, أي اقام الأمر علي خلافه، فهو ظالم فاسق”، وبذلك قال السدي وعطاء وجميع فقهاء أهل السنة)[2] .

 ويضاف إلى ذلك ( أن تبين الجحود مما يَدِق وتختلف فيه أوجه النظر خاصة بالنسبه لمظهر شعائر الإسلام )[3] .. وبالطبع فإن مكمن الخطورة في الحكم بالكفر هنا هو فيما يترتب عليه من استباحة الدماء، وبعبارة الدكتور عصام العريان – الذي يعتز بهذا الموقف لقيادة الجماعة – فإنهم ( أصروا على أنه لا يمكن الحكم بكفر شخص أو حاكم هكذا اعتباطا، ثم ترتيب نتائج على هذا الحكم تبيح قتله، وتبيح دمه )[4] .

وقد لفت المستشار حسن الهضيبي الانتباه إلى أن هذا النوع من التكفير مرفوضٌ سياسةً أيضا, بجانب أنه مرفوض ابتداءً لمخالفته لأحكام الشريعة. يروي المستشار المأمون الهضيبي – وقد كان رفيق والده في السجن في تلك الفترة: ( قال الوالد – لأصحاب فكر التكفير – اسمعوا أنتم أخطر علينا من عبد الناصر .. وما تقولونه من أفكار فضلا عن أنها مخالفة لأحكام الشريعة، فإن من شأنها أن تدفع كل حكام المسلمين لرفع السيف ضد الإخوان المسلمين. عندما تحكم بأن الناس والحكام كفرة، فإن الجميع يكونون ضدك  .. وانتم بهذا الوضع تسعون للقضاء على الجماعة. ثم خَلُص من الكلام معهم إلى القول: إما أن تؤمنوا بالمبدأ الذي نحن عليه, كما وضعه واستخلصه حسن البنا وهو ما يتناوله هذا البحث، أو تفعلوا ما تريدون وأنتم أحرار، ولكن لاترفعوا راية الإخوان المسلمين)[5].

والحقيقة, فإن تعامل قيادة الإخوان – وهم في السجون – مع انحرافات التكفير كان حازما بما أدهش شباب تنظيم 1965 … يروي أحدهم – وهو الأستاذ أحمد عبد المجيد – وقد كان من نزلاء سجن “قنا” كيف تعاملت قيادة الإخوان بالسجن مع أزمة التكفير وقتها, وقد كان يتولى قيادة هذا السجن الأستاذ محمد حامد أبو النصر ومعه مجموعة من قدامى الإخوان أمثال الشيخ حامد شريت والأستاذ محمد مهدي عاكف واللواء صلاح شادي وغيرهم: ( أجرى الإخوان القدامى بقنا مسحا شاملا للجميع ” القدامي والجدد ” وقاموا بإدارة مناقشة مع كل شخص منفردا أشبه بالاختبار الشخصي في الامتحانات، وكان السؤال الأساسي, أو الإجباري, بمعنى أدق هو ” جمال عبد الناصر مسلم أم كافر؟” ، وعلى ضوء الإجابة تم تقويم الجميع، من قال بإسلامه اعتبر من الجماعة ومن اعضائها، ومن قال بكفره صدر بيان من الإخوة المسئولين ومنهم أعضاء مكتب الإرشاد الموجودون هناك ” الأستاذ حامد أبو النصر والشيخ حامد شريت ” وذلك باعتبار هؤلاء النفر خارج الجماعة في قنا)[6]. ويندهش الأستاذ أحمد عبد المجيد للصرامة التي تم التعامل بها مع أصحاب الاتجاه التكفيري بالمقارنة بالعفو والصفح اللذين قوبل بهما من وقع في فتنة تأييد عبد الناصر ونظامه ( قال المستشار الهضيبي ” وتتلخص عقيدتنا في رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، والبحث الذي أرسلناه إليكم – دعاة لا قضاة – ومن يخالف ذلك فليبحث له عن راية غير رايتنا”. وإذا كانت الجماعة قد عفت وصفحت عمن قام بالتأييد والاعتذار والهتافات وغيرها في سجن إبي زعبل، واحتضنتهم، بل ومنهم من تولى المسئوليات بعد ذلك، فلماذا لم تقم بنفس المعاملة مع الذين كان لهم رأي في هذا البحث من الوجهة الشرعية, خاصة وأنه نقل عن الأستاذ المرشد قوله عن المؤيدين وغير المؤيدين ” هم جميعا من الإخوان المسلمين، وهذه ظروف غير عادية، ولا تحكموا على الناس وهم يحملون أثقالا، انتظروا حتى يخفف الله عنهم وعنكم” )[7].

والحقيقة أن التباين في تعامل قيادة الجماعة وقتها ما بين حالات الضعف الإنساني، وحالات الانحراف الفكري يحمل دلالات لابد من الوقوف عندها حول وضوح الفهم الذي تحمله تلك القيادة؛ وهو فهم تشتد حاجتنا إليه اليوم حيث يبدو أن تبدل الأحوال بعد طول عافية قد أحدث خلطا لدى البعض بين الصلابة الواجبة في مواجهة الشدائد، وبين الغلو البعيد عن منهج جماعة الإخوان؛ فكريا كان أم عمليا.

الدرس التاسع: التنظيمات السرية تقصم ظهر العمل العلني

سبق أن تناولنا هذه القضية عند النظر في مرحلة الإمام البنا, غير أن استمرار معاناة الجماعة من تداعيات هذه الازدواجية في مرحلة المستشار حسن الهضيبي  فرضت علينا أن نعود لها مرة أخرى، ويلفت الأستاذ حسن دوح – قائد طلاب الإخوان في مطلع الخمسينات – النظر إلى خلاصة رؤيته حول الجمع بين جماعة دعوية، و تنظيم سري مسلح تحت مظلة واحدة: ( واجب عليّ أن ألفت نظر الشباب إلى أن أي تنظيم سري سيقصم ظهر العمل العلني وسيُضعف منه، ولقد اثبتت التجارب أن السرية لا بد وأن يفتضح أمرها, سواء من داخلها أو باستخدام الإيذاء البدني)[8]. ويضرب الأستاذ حسن دوح – من واقع تجارب الإخوان – مثالا عمليا لكيفية إضرار التنظيمات السرية المسلحة بالعمل العلني من واقع ماجرى مع المستشار حسن الهضيبي ( لقد دبر الجهاز السري انقلابا ضد الهضيبي بعد أن احتل دار الإخوان .. لم دبر هذا الانقلاب ضد القياده الشرعية المختارة من الهيئة التأسيسية للإخوان وهي بمثابة المجلس التشريعي؟. دبره تحت ستار السرية، ولأن السرية محكومةٌ بشخص لا يُرى ولا يُناقش ولا يُراجع فقد استجاب أعضاء هذا الجهاز للأمر الصادر، ونفذه العضو بكل دقة، ونفذه وهو يظهر أنه يؤدي أعظم خدمة لدعوته، وأنه سيثاب عليها في الدنيا والآخرة. ولقد التقيت بشباب من الذين شاركوا في هذا الانقلاب، وكانت دموعهم تحكي مدى حرصهم على دعوتهم المضيعة, ثم التقيت معهم بعد أن تكشفت لهم الأمور فبكوا ندمًا على ما فرط منهم. هذا الاستطراد قصدته وتعمدته لأدلك على أن الأجهزة السرية تسير بقيادات غير مرئية، وأن خطأ هذه القيادات قد ينعكس على نفس الجماعة التي شكلت هذه الأجهزة)[9].

ويثبت الدكتور يوسف القرضاوي أحد الأعباء المرتبطة باستخدام العنف وهو السرية التي لابد أن تكتنف إدارة واتخاذ القرار في الأنشطة ذات الصلة بهذا العنف، وما تجره هذه السرية من أخطار ( عند اللجوء للسرية تقترب عناصر غير مأمونة، ولا معروفة، لم تُختبر، ولم تجرب، وكثيرا ما تكوّن هذه الفئة جماعة داخل الجماعة الكبرى، وقيادة وراء القيادة الظاهرة فيؤدي هذا إلى الازدواج والتناقض )[10]

………………………

[1]   ) عبد الله إمام – عبد الناصر والإخوان المسلمون  –   ص  223

[2]   )  المستشار حسن الهضيبي  –  دعاة لا قضاة  –  ص  208

[3]   )  المستشار حسن الهضيبي  –  دعاة لا قضاة  –  ص   208

[4]   ) د.عصام العريان –  مداخلته في ندوة –  كتاب: المتطرفون – ص  217

[5]   ) مأمون الهضيبي  – شهادات ومواقف تاريخية –  28 – 8 – 2003

[6]   ) أحمد عبد المجيد  –  القصة الكاملة لتنظيم 1965  –  ص  256

[7]   ) أحمد عبد المجيد  – القصة الكاملة لتنظيم 1965  –  ص  265

[8]   )  حسن دوح  –  الإرهاب المرفوض والإرهاب المفروض –  ص  14

[9]   )  حسن دوح  –  الإرهاب المرفوض والإرهاب المفروض  –  ص  19

[10]   )  الدكتور يوسف القرضاوي  – حتمية الحل الاسلامي.

شاهد أيضاً

بعد موقفهما تجاه ليبيا.. محاولات لبث الفتنة بين تركيا وتونس

منذ أن بدأ الجنرال الانقلابي خليفة حفتر محاولة احتلال طرابلس في إبريل الماضي، لم تتوقف …