دروس من تجارب الإخوان الماضية

الدرس السادس: إعادة النظر في المشروعية المجتمعية لفكرة رد العدوان

سبق أن تعرضنا للقواعد العامة للحركة التي سار عليها الشهيد سيد قطب في تجربة تنظيم 1965 والتي تتلخص في الامتناع عن استخدام القوة لقلب نظام الحكم، أو فرض النظام الإسلامي من أعلى، وفي الوقت ذاته تم اعتماد قاعدة ( رد الاعتداء على الحركة الإسلامية .. وكان أمامنا المبدأ الذي قرره الله سبحانه ” فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم)[1]

والحقيقة أنه بقدر وضوح فكرة رد الاعتداء عند طرحها نظريا، وإمكان افتراض تمتعها بقبول اجتماعي وأخلاقي بدرجة أو أخرى, فثمة إشكاليات عديدة تقابل الحركة الإسلامية عند وضعها موضع التنفيذ، ويمكن أن نقترب من إحدى هذه الإشكاليات إذا قفزنا إلى حالتنا اليوم؛ فهل يتم التعامل مع الانقلاب العسكري البائس باعتباره اعتداءً يبيح الرد عليه أم أن المقصود هو الاعتداء علي الحراك الرافض للانقلاب؟.

مثال آخر؛ عندما يقوم الحاكم الظالم بحل الجماعة، فهل يتم اعتبار هذا الحل اعتداءً يبيح الرد عليه أم أن مرجعنا هو الاعتداء على الأفراد؟

ومثال ثالث؛ هل تنتظر الحركة وقوع الاعتداء أم تبادر بالهجوم إذا رأت أن الاعتداء المنتظر عليها أصبح في حكم المقرر؟

ومثال رابع؛ فإن الحياة قد تطورت فلم تعد أدوات ومهارات رد الاعتداء متاحة للجميع كما كانت في المجتمعات القديمة، فهل تبادر الحركة الإسلامية بحيازة هذه الأدوات واكتساب هذه المهارات أم تنتظر وقوع الاعتداء أولا؟ وماذا لو بادرت الحركة الإسلامية بذلك فاكتشف النظام الحاكم هذه المبادرة، واعتبرها عدوانا عليه يحق له مواجهته وسحقه؟

علي أية حال؛ فإن الواضح من سياق أقوال الشهيد سيد قطب وغيره من أعضاء التنظيم أنهم – وقد أخذوا الدرس من الاعتداءات القاسية على الجماعة عام 1954 – بادروا بالسعي للوصول لبعض هذه الأدوات والمهارات – وإن كان ذلك قد تم بسطحية بالغة – وجرى الحوار بينهم حول المبادرة بالهجوم بعد ما وصل إلى علمهم وجود حملة اعتقالات قد تصل إليهم .. الأمر الذي لم يتم لعدم الجاهزية من ناحية، ولمسارعة أجهزة الأمن بالقبض عليهم تباعا مما أصاب التنظيم بالشلل … إلا أنه على فرض توافر الجاهزية وتأخر عمليات القبض بما مكن التنظيم من البدء في التنفيذ فهل كان من الممكن حينئذ الحديث عن توافر الشرعية المجتمعية لمثل هذه العمليات في حس المجتمع المصري عامة؟ وفي حس جمهور العاملين بأجهزة الدوله التي تواجه التنظيم على وجه الخصوص؟.

حملات إعلامية وتكرار للبطش الإجرامي

صحيح أن التنظيم لم يقم بتنفيذ أية عمليات ابتداءً، لكن الحملات الإعلامية النشطة لأجهزة الدولة سوقت هذا الطرح النظري – أو الخيالي على وجه الدقة – للتنظيم باعتباره أمرا واقعا فعلا، ثم نزعت عن التنظيم كل شرعية أخلاقية ومجتمعية باعتباره أنه بادر بالاعتداء, ثم تمادت في تجبرها بتكرار عمليات البطش الإجرامي التي سبق أن وجهتها للحركة الإسلامية عام 1954 ، وبصوره أكثر وحشية عقابا لها على عدوان مزعوم لم يقع أصلا! إن الدرس الذي نخرج به من هذه التجربة أن فكرة تحقيق الشرعية المجتمعية لاستخدام الحركة الإسلامية للعنف باعتباره يمثل ردا على عدوان الدولة عليها, فكرة تتمتع بوضوح نظري لكنها عند التطبيق ستفقد بالضرورة هذا الوضوح، وسيسهل تسويق هذه العمليات باعتبارها تمثل عدوانا من الحركة الإسلامية, لا علي أجهزة البطش فحسب، ولا حتى على الدولة بعمومها, ولكن على المجتمع بكل مكوناته، وسيتم عزو هذه النزعة العدوانية إلى انحرافات فكرية ونفسية وأخلاقية لدى أعضاء الحركة، وستعجز الحركة الإسلامية عن تبرير موقفها في ظل الضغط الأمني الواقع على أعضائها – كأشخاص – بإعتبار أن لهم علاقة بأنشطة إرهابية, فضلا عن ضعف قدراتها الإعلامية بالقياس لقدرات الدولة.

ولعل هذا التشويش المصاحب لعمليات رد الاعتداء – رغم قبولها شرعا واستساغتها منطقا – كانت وراء انحياز الإمام البنا إلى تجنبها؛ وينقل عنه الأستاذ أنور الجندي في كتابه ” الإخوان المسلمون في ميزان الحق ” تحت عنوان ” التوجيهات الصادقة لفضيلة المرشد ” قوله ( في مرحلة الاضطهاد توجه إلى الدعوة من خصومها والجاهلين بها، والمعادين لها، والمتخوفين منها, سهام النقد اللاذع وصنوف الاتهام الشائن، وتتلو ذلك ألوان من الاضطهاد والعنت والارهاق والعدوان ” لتبلون في أموالكم وأنفسكم، ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيرا، وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الامور “. وقد تطول هذه المرحلة وقد تقصر، وسبيل المؤمنين بها الصبر والاحتمال، والمقاومة السلبية فحسب، فهم لا يردون علي عدوان بعدوان، ولا يقابلون عنفا بعنف، ولكنهم يقولون كما يقول سيد المرسلين لنفر من المعذبين ” صبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة، لا أملك لكم من الله شيئا ” )[2].

سيد قطب يراجع فكرة استخدام العنف

ومن المفيد أن نثبت أن الشهيد سيد قطب قام بما يشبه المراجعة لفكرة استخدام العنف في رد الاعتداء رغم قصر المدى الزمني لتجربته، وسعى في إيقاف ما كان يجري إعداده بشأنها وذلك لتشككه في جدواها من ناحية، ولعدم استساغتها في حسه الشخصي من ناحية أخرى، وذلك وفق ما ورد بأقواله في التحقيقات (يوم 4 أغسطس أرسلت اختي حميدة لتبلغ زينب الغزالي الرساله المجملة الآتيو ” تقولي للأولاد إنهم يلغوا كل العمليات ” .. وأنا في الواقع كنت فكرت بيني وبين نفسي في عدم جدوى أي عمليات مضادة للاعتداء، وكنت باعتقد دائما أن اعتقالنا معناه الموت، وأنه لا يراعى فيه أي قانون, وكنا نسميه اعتداء لمخالفة ما يجري فيه لأي قانون معروف, وكان سبب إرسال هذه الرسالة عدة دوافع:

أولها: شعوري بعدم جدية الاقتراحات – يقصد الخاصة باستخدام العنف – من ناحية التنفيذ، وعدم وجود الإمكانيات كذلك, وأخذ يتكشف لي عدم جدوى مثل هذه الإجراءات من الناحية العملية.

ثانيها: بدأت أرجع إلى طبيعتي العادية كرجل فكر يصارح بالفكرة لا بالسلاح, وبدأت أعود إلى منهجي المستقر في نفسي من أن الحياة الإسلامية لا تقوم إلا على تربية طويلة المدى, وأن أي عمل في القمة لاقيمة له.

وعادت حميدة قطب بسؤال من علي عشماوي: هل هذه تعليمات نهائية حتى في حالة ما إذا وقعنا؟ وعندئذ اهتز شعوري مره أخرى أمام صور التعذيب والتقتيل الذي لاقاه الإخوان سنة 1954، والمحتمل في نظري دائما عند كل اتقال, فقلت ” في هذه الحالة فقط على أن يكون في الإمكان توجيه ضربة شاملة، فإذا لم يكن هذا ممكنا فلنلغي جميع التعليمات ” وكان إحساسي وأنا بأقول هذا الكلام إنه ليس في إمكانهم توجيه ضربة شاملة، فيكون هذا كأنه إلغاء, ولكن بصورة تتفق مع مشاعرهم واندفاعاتهم، وأحب أن أقول إن نفسيتي في هذه الفترة كانت تتأرجح بين عوامل مختلفة تتنازعني؛ بين طبيعتي في عدم استعمال العنف، وبين تأثيرات ورواسب وصور من حوادث سنة 1954 .

– ….

– …

– وما هي الإمكانيات التي كنت تتصورها للقيام بهذه الأعمال؟

– كنت أتصور أنها لابد أن تكون إمكانيات ضخمة من ناحية أن العدد المدرب تدريبا عاليا يحتاج لزمن طويل أطول بكثير من الزمن الذي انقضى فعلا .. وإلي كميات كبيرة من الأسلحة والذخيرة.

– ألم يكن جديرا بك – إذا ما صدق قولك – أن تتنحي عن التوجيه في استعمال العنف قبل أن تعرف الإمكانيات؟

– قد يكون هذا هو الأجدر، ولكنه لم يقع مني، وأحس الآن أنه خطأ)[3].

ولا حرج من أن نؤكد هنا أن الاستعلاء والصلابة المبهرة التي أبداها الشهيد سيد قطب تدفعنا لاعتبار أقواله هي المعبرة عن مكنون نفسه في مثل هذه المسائل الفكرية، بخلاف ما قد يكون مرتبطا بإثبات مسئولية أحد الإخوة عن واقعة ما, أو ما شابه ذلك .

[1] ) سيد قطب – لماذا أعدموني؟ نص أقواله التي تقدم بها في تحقيقات قضية تنظيم 1965

[2]  ) أنور الجندي – الإخوان المسلمون في ميزان الحق – ص 47

[3]  ) سامي جوهر – الموتى يتكلمون – نص أقوال الشهيد سيد قطب في تحقيقات النيابة

شاهد أيضاً

بعد موقفهما تجاه ليبيا.. محاولات لبث الفتنة بين تركيا وتونس

منذ أن بدأ الجنرال الانقلابي خليفة حفتر محاولة احتلال طرابلس في إبريل الماضي، لم تتوقف …