لا يمكن لعين المراقب أن تغفل عن أن تركيا تعيش هذه الأيام واحدة من أصعب تحدياتها وأشدها حرجا، إذ تتسارع الأحداث وتتدحرج بسرعة، وللأسف ضد المصالح التركية، وهو ما دفع الكاتب اليساري التركي المعارض “تونجا أوراتان” للقول بأنه لم يعد لتركيا ثمة خطوط حمراء, ولم تعد تُحترم هذه الخطوط من قبل الحلفاء ولا الأعداء. فهل يا ترى أصاب الرجل، أم كعادة اليساريين المعارضين يشحذون سكاكين نقدهم ويعلون صوت امتعاضهم على أهون الأسباب؟
التواجد العسكري الروسي والأمريكي في الجوار السوري
مؤخرا، وبحسب تقرير لوكالة الأناضول، فقد انتهت الولايات المتحدة في أكتوبر الماضي من تأسيس قاعدة عسكرية في الشمال الشرقي من محافظة الحسكة السورية، وهي المنطقة الخاضعة لسيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي تعتبره الجمهورية التركية ذراعا سوريا لحزب العمال الكردستاني في تركيا، وهو ما يثير تساؤلات وشبهات حول الدور المستقبلي الذي ترغب الولايات المتحدة في لعبه، وخاصة في الورقة الكردية على الحدود التركية السورية والعراقية.
أما بالنسبة لروسيا، فلأول مرة في التاريخ يقف الدب الروسي على عتبات البوابات الشمالية والجنوبية للجمهورية التركية، فالجهود الروسية مستمرة على قدم وساق لإتمام إنشاء قواعدها العسكرية الاستراتيجية في المنطقة الشمالية السورية بالقرب من الحدود التركية. فقد ذكرت تقارير تركية أن روسيا سيطرت مؤخرا على مطار “القامشلي” الذي يبعد بضع كيلومترات عن ولاية “ماردين” في الجنوب التركي. وتشير التقارير التركية أيضا إلى أن روسيا قامت بنشر منظومة صواريخ أرض جو في منتصف يناير في تلك القاعدة.
إن مثل هذه القواعد لا تستهدف بأي حال بؤر داعش الإرهابية، بل على العكس تسعى بشكل أساسي لتغيير البنية الديموغرافية للمنطقة بتهجير سكانها السنة من العرب والتركمان وتعزيز الوجود الكردي، ويبدو ذلك واضحا بعد تمكين النظام السوري حزب الاتحاد الديمقراطي من السيطرة على مدينة “الرميلان”، وعزز تلك السيطرة الغطاء الجوي الروسي الأخير الذي مكّن قوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي من السيطرة على مناطق مفصلية واستراتيجية في الشمال السوري لمحافظة حلب، قرب مدينة “اعزاز” الاستراتيجية، وهو ما كانت تعتبره تركيا خطا أحمر لا يمكن القبول به أو السكوت عنه.
قد يرى البعض أن سباق القواعد العسكرية في المناطق العربية ليس طارئا على المنطقة، فسوريا ليست استثناءً، فغالبية الدول العربية كانت ولا تزال مرتعا مضيافا، وأرضا خصبة للقواعد العسكرية سواء بالوجود الفعلي العلني أو السري الاستخباراتي، وقد أضحت سوريا مؤخرا وجهة الروس والأمريكان على حد سواء لإنشاء قواعد عسكرية.
بالنسبة للولايات المتحدة، فهي ليست حديثة عهد بإنشاء القواعد العسكرية في الشرق الأوسط. فعقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أعلنت الولايات المتحدة صراحة عمقها الاستراتيجي في إنشاء قواعد عسكرية هائلة في الشرق الأوسط الذي يمثل بؤرة مركزية لما أسمته The Arch of Crisis أي قوس الأزمات، وذلك بالدرجة الأولى لحماية مصالحها وتعزيز نفوذها، وليس لمساعدة حلفائها العرب أو الدفاع عنهم. ولك أن تتخيل أن لها في العراق وحده ما يربو عن 75 قاعدة عسكرية، فضلا عن عديد القواعد في جل دول الخليج والشمال الإفريقي.
وبحسب تقرير مؤسسة “راند”، فإن الولايات المتحدة تسعى لتعزيز قواعدها العسكرية في الأراضي السورية لمواجهة “الإرهاب الأصولي الإسلامي”.. ويا للغرابة!! فلم يتحدث التقرير من قريب أو بعيد عن مواجهة تجبر النظام السوري القاتل وإرهابه الأسود بحق المدنيين والآمنين من أبناء بلده.
حزب الاتحاد الديمقراطي
من ناحية أخرى، فقد اعتبر رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أغلو دعوة حزب الاتحاد الديمقراطي للمشاركة في محادثات جنيف خط تركيا الأحمر، وصرح بأنه إن تمت دعوة الحزب فليكن في صف النظام وليس بين صفوف المعارضة. تركيا – كانت ولا تزال- لا تعارض حق الحزب في الدفاع عن حقوق الأكراد، بل تعارض وبشدة تطلعه الواضح والمدعوم لتغيير الحدود التركية السورية، وهو ما من شأنه أن يشكل انهيارا لمعاهدة لوزان (1923) التي رسمت الحدود التركية.
يعتقد كلٌ من حزب العمال الكردستاني وشقيقه الاتحاد الديمقراطي أنه ومن خلال تعزيز علاقتهم بالولايات المتحدة، والاستفادة من العداء القائم بين روسيا وإيران من جهة والجمهورية التركية من جهة أخرى، فإن احتمالية فوزهم بكيان مستقل أضحت واقعية وأقرب للتطبيق. ولتحقيق هذا الهدف، فإن الحزبين على أتم استعداد للتحالف مع الشيطان لنيل مرادهم وتحقيق مبتغاهم، ولذلك فمن المتوقع أن تشهد تركيا أعمالا إرهابية أشد ضراوة قد تنتقل إلى مناطق خارج حدود الصراع الحالي.
الرؤية الأمريكية المعلنة
طرح نائب الرئيس الأمريكي- والذي لن يستمر في منصبه عقب الانتخابات الأمريكية القادمة في نوفمبر من العام الحالي – أثناء زيارته الأخيرة لتركيا؛ عدة قضايا كان أهمها مقاتلة “داعش” وبرنامج تسليح وتدريب المعارضة السورية المعتدلة بالإضافة إلى الملف العراقي الشائك، وكان حزب الاتحاد الديمقراطي نقطة خلاف رئيسية بين الحليفين الاستراتيجيين. فتركيا ترى أنه لا بد من تمكين قوى المعارضة السورية المعتدلة من السيطرة على مناطق غرب الفرات، بينما ترى الولايات المتحدة أن حزب الاتحاد الديمقراطي أثبت فعاليته في محاربة تنظيم داعش، وهو أقرب للتعاطي مع الأجندة الأمريكية من قوى المعارضة السورية المعتدلة التي ترغب تركيا في تمكينها وتعزيز قوتها.
وتصر واشنطن على أن حزب الاتحاد الديمقراطي مختلف تماما عن حزب العمال الكردستاني الذي تعتبره منظمة إرهابية، ومن جهة أخرى فإن واشنطن لم ترفع صوتها ضد التدخل الروسي الفعلي بإنشاء قواعده العسكرية وإعادة انتشار جنوده في المناطق السورية، بل قد تكون بغاية الامتنان، لأن موسكو أنابت عنها في هذه المهمة المكلفة طالما أن القوات الروسية لم تتعرض بأذى لحزب الاتحاد الديمقراطي الذي شكل نقطة التقاء بين الاستراتيجية الأمريكية والروسية على ما يبدو.
أما بالنسبة للعلاقات الأمريكية الإيرانية، فيبدو أنها تسير بسرعة نحو التطبيع والانفتاح والتنسيق الكامل في عدد من ملفات المنطقة، ولعلها تتعزز وتزداد وتيرتها في حال فوز “دونالد ترامب” الذي يرى في الإسلام السني إرهابا لا بد من مواجهته بشتى الطرق، هذا فضلا عن أن واشنطن لا ترى حلا للقضية السورية دون الدور الإيراني الفاعل.
الخيارات التركية
تحاول تركيا في ظل هذه المتغيرات خلق تحالفات جديدة وإن كانت تكتيكية وسريعة لمواجهة التطورات الداهمة والمتلاحقة. في ظل هذه الظروف الراهنة يبدو أن الحليف الأكثر قربا لتركيا هو حلف شمال الأطلسي، إذ يشكل لتركيا عمقها الاستراتيجي كونها عضوا دائما في الحلف، وهذا ما يفسر تصريحات أردوغان الأخيرة عقب انتهاك الطائرات الروسية للمجال الجوي التركي للمرة الثانية، فقد صرح بأن على روسيا أن تعلم أنها ستتحمل عواقب انتهاك المجال الجوي لإحدى دول حلف شمال الأطلسي، وطالب الناتو بتحمل كامل المسؤولية، وخاصة أن راداراته قد رصدت الانتهاك قبل الرادارات التركية. جدير بالذكر أن الطائرات التركية كانت قد أسقطت طائرة روسية بعد دخولها المجال الجوي التركي في الرابع والعشرين من نوفمبر من العام الماضي.
وقد يُنظر إلى زيارة داوود أغلو الأخيرة للمملكة العربية السعودية، والتي أعقبت زيارة سابقة لرئيس الجمهورية طيب أردوغان نهاية العام الماضي، على أنها تأتي لتعزيز التنسيق بين البلدين، خاصة في الملفين السوري والعراقي، وإن كانت أيضا للاطلاع على تفاصيل ما دار بين المملكة وواشنطن عقب زيارة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري الأخيرة للمملكة. ففي الوقت الذي كان نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن يعقد اجتماعاته في تركيا، كان كيري يسوق برنامجا مغايرا في المملكة، وقد لاقى ذاك البرنامج قبول ورضا روسيا، وهو ما دفع داوود أغلو للتوجه مباشرة إلى المملكة للاطلاع على تفاصيله.
كما يبرز أيضا دور كردستان العراق كداعم للموقف التركي في مواجهته الداخلية للإرهابيين الانفصاليين من حزب العمال الكردستاني، والذي إن استطاعت تركيا كسر شوكته في حربها على إرهاب عناصره في مناطق نفوذهم في الجنوب الشرقي التركي، فإنها تضمن تماسك ولحمة بيتها الداخلي، وتستطيع أن تضغط بكسرها شوكة الإرهاب الداخلي على حزب الاتحاد الديمقراطي وتفرض عليه رؤيتها لمستقبل الأكراد في المنطقة، كما سيشكل ذلك تعزيزا لموقفها أمام الحليف الأمريكي. ولا شك أن البيت التركي الموحد والمستقر سيكون شوكة في حلق الدب الروسي المترقب والمتأهب، ولذا فإن من أولويات الوقت هو الإسراع إلى حل المشكلة الداخلية، والعودة بطريقة أو بأخرى لتفعيل عملية السلام الداخلي، وإلا فقد تعددت الجبهات وكثرت التحديات، وقد تجد تركيا نفسها أمام مشروع تقسيم للمنطقة يخرج لها أكثر من كردستان. ولكن إن حدث هذا السيناريو فإنه وللأسف ستصبح هذه الكيانات خنجرا في خاصرة تركيا، تقض مضجعها وتقوض نموها الاقتصادي ونفوذها الإقليمي.