قصة قصيرة: الحاج حسن
شغل تأخر حسن في الإنجاب لزمن طويل الكثير من الأقارب والجيران، كعادة أهل القرى، إلا أنه لم يشغل بال حسن نفسه كثيرا، وكان دائما ما يقول لزوجته، في اطمئنان، وكأنه اتخذ عند الرحمن عهدا:
أنا على يقين بأن الله سيرزقني الولد الصالح، مهما طال الزمان.
مرت السنين ثقيلة ومؤلمة على حسن، حتى تجاوز سن الخمسين، وتخطت زوجته حسنية سن الإنجاب؛ ومع هذا فقد كان لا يمل الدعاء في دبر كل صلاة:
(رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين)
وبعد صبر طويل؛ استجاب الله دعاء حسن، ورزقه بولد، رأى في وجهه، حلما جميلا، تمنى أن تحوله الأيام إلى حقيقة. وقد تمنى حسن لولده أن يصير طبيبا. أما حسنية فقد كان منتهى أملها لطفلها، أن تراه (رجلا) مليء هدومه يوما ما.
وعندما أخذ حسن بيد ولده إلى المدرسة لأول مرة، كان يشعر بأن الله قد منحه الفرصة – التي حرمه منها الفقر- ليكمل تعليمه. ولم لا؟ فحياة الإبن امتداد لحياة أبيه.
ولم يخيب ظن حسن في ابنه يوما، فقد كان يأتي كل عام من الأوائل. والتحق أحمد بكلية الطب، في القاهرة ولم يكن يأتي إلا في نهاية الأسبوع.
كان حسن يمشي بين الناس فخورا ، مرفوع الرأس، وطالما شجع الصغار بقوله: شد حيلك يابني عشان تبقى زي أحمد.
وما كاد الحلم يتحقق بوصول أحمد إلى السنة الأخيره في كلية الطب، حتى كانت حسنية قد باعت كل “سيغتها”، وباع حسن قطعة الأرض، التي ورثها عن أبيه، فما كان ينبغي لهما أن يبخلا على تعليم أحمد بشيء من حطام الدنيا.
لم يكن المال وحده هو ما ذهب مع الزمن، ولكن ذهبت معه الصحة أيضا، فلم تُبقِ الأيام لحسن من نور عينيه، إلا شعاعا خافتا يكاد أن ينطفيء؛ ولكنه كان يشعر أن عينه الحقيقية التي يرى بها النور هي: أحمد.
ولضعف بصره، فقد كان حسن يستعمل تلفازه القديم كراديو، وهو يتابع بقلق شديد أحداث المظاهرات التي تجتاح الجامعة، وانقبض قلبه من الخوف، عندما سمع أن هناك جرحى وقتلى بين الطلبه.. لكن في المساء جاءه صوت أحمد عبر الهاتف مطمئنا وممازحا، وحذره حسن بشدة من المشاركة في المظاهرات.
مر يوما الثلاثاء والأربعاء بسلام، واستيقظت حسنية في صباح الخميس باكرا، وأيقظت حسن ليذبح لها بطة، تجهزها لعشاء أحمد، عندما يعود في المساء.
مرت ساعات الصباح بطيئة، وإذا بالهاتف يرن.. وضع حسن الهاتف قرب عينيه، ليقرأ اسم المتصل؟
إنه أحمد! وهو لا يتصل صباح الخميس، إلا ليقول إنه سيتأخر حتى الخميس القادم. ألا يعلم هذا الولد، أن أمه قد بدأت في إعداد الطعام؟ لماذا لم يتصل مبكرا قليلا؟
آلو يا أحمد أفندي
- آلو ياعمي أنا ياسر زميل أحمد في الجامعة.
- أين أحمد؟ هل هو بخير؟
- ياعم حسن، أنا عارف إنك رجل مؤمن، وللأسف فأنا مضطر لأن أبلغك، بأن أحمد في ذمة الله، و نريد منك أن تحضر إلى القاهرة لأخذ الجثمان.
لم يدرِ حسن ما يقول، تمنى للحظة، لو أنه لم يرد على الهاتف، وكأن ذلك كان سيغير من قدر الله!
دوى صوت حسنية بصرخة كانت هي آخر ما نطقت به لشهور، ثم تجمع الجيران على حسن يهدؤونه، وذهب معه بعضهم إلى القاهرة.
وفي مشرحة زينهم، رأى جثمان أحمد مسجىً على خشبة، وما زال الدم يقطر من فتحة في رقبته؛ ولم يكن بجسده أي جرح آخر. لقد قتل برصاصة واحدة في الرقبة!
ارتمى الرجل العجوزعلى جثة ولده، ودخل في نوبة بكاء هستيري، كان يرتجف معها جسده كله؛ ولم تفلح محاولات الحضور في تهدئته، فتركوه يبكي، ما شاء الله له أن يبكي.
بعد صلاة العصر في مسجد القرية كان كل شيء قد انتهى، ومضى الشيخ حسن، في وسط الجموع، كأنه طفل تائه، حائر، في زحمة المولد. مضى وهو لا يدري كيف سيواري بيديه حلمه، وحلم ابنه، وحلم زوجته، في التراب.
اعترض مشهد الجنازة المهيب، نساء يصرخن ويلطمن خدودهن، ولم تكن بينهن أم أحمد، التي لم تفق من غيبوبتها حتى اللحظة. شقت الجنازة طريقها وسط القرية، في هدوء ووقار، حتى وصلت إلى المقابر، وهناك خارت قوى الشيخ حسن، ولم تستطع قدماه أن تحملاه، فارتمى على الأرض، ليشاهد الأيدي وهي تضع فلذة كبده في التراب.
تمنى حسن أن يصيح بأعلى صوته:
“أدفنوني معه، أنا أحق بالموت منه، أنا أحق بالدفن منه، لم تعد لحياتي قيمة، ولم يعد لبقائي على ظهر الأرض معنى، مستقبلي كله هنا، تحت التراب، مع ابني وحبيبي، مع حلمي العزيز. لقد انطفأ نور عيني للأبد، انهار أملي في الحياة، بطلقة واحدة”.
كانت هذه الأفكار تدور في رأس الشيخ حسن؛ بينما بدأت الفؤوس في إهالة التراب على جثمان أحمد، وكأنها أحدثت تيارا كهربائيا، سرى فجأة في جسد الرجل، فانتفض واقفا، و صرخ بأعلى صوته:
قتلوك ياحمد.. قتلوك ياحبيبي
قتلوك ولاد الكلب..
برصاصة؟
انت تموت بالرصاص ياحمد؟
ليه؟ هو انت كنت في الحرب ولا في الجامعة يابني؟
بقى تقتلوا طالب في الجامعة بالرصاص؟
لا معاه رشاش، ولا معاه مدفع!
خفتم من جسم جدع ضعيف!
بالرصاص ياكفرة!
تقدم أحد الواقفين نحو حسن ولكزه بغلظة، ثم قال: وحد الله ياعم حسن
لم يلتفت له و ظل يردد:
قتلوك ياحمد … قتلوك يابني
قتلوك بالرصاص
وانت اللي عمرك ما آذيت حد
ولا شتمت حد
بالرصاص يابني؟
سرت غمغمة في الجنازة، وقال أحد المشيعين بصوت خفيض:
هو ما يعرفش إن المرحوم كان إخوان ولا إيه؟
اخترقت الكلمة سمع حسن كالرعد: إخوان؟
لم يكن حسن ابن السبعين عاما يدري (ما هي الإخوان)؟ و(ما معناها)؟ وهل هذه الكلمة كافية، لتبرير قتل شاب طاهر كأحمد، الذي رباه على يديه، ويعرف أخلاقه وأدبه، وحياءه كالعذراء في خدرها؟
رد بسرعة وبصوت عالٍ:
اخرس قطع لسانك
أحمد لم يكن إخوان، أحمد كان…. كان
أحمد كان راجل
أرجل منك ومن الكلاب الذين تخدمهم
أحمد جزمته برقبتكم كلكم..
كلكم ياكلاب
لم يكن المتحدث غير عمدة القرية، الذي هاج وماج، لأن حسن الأعور قد سبه، فاجتمع عليه الخلق يهدؤون من ثورته:
اعذره ياحضرة العمدة، لقد أفقدته المصيبة عقله.
بعد أيام تبرع أصدقاء أحمد، بعمل لوحة من الرخام؛ لتوضع على قبره، فلما عرضوها على أبيه حسن، ثارت شجونه، وتذكر تلك اليافطة الكبيرة، التي كان يحلم بها، وهي تزين القرية؛ وقد كتب عليها بالبنط العريض:
عيادة الدكتور أحمد حسن.
بكى الحاج حسن بكاءا داخليا مريرا، لم يشأ أن يرى أصدقاء أحمد شيئا منه، ومضى معهم لوضع اللافتة على قبر أحمد. وفي الطريق سمع منادي القرية ينادي: توفي اليوم إلى رحمة الله المجند/ أحمد فرغلي عطية.
توقف حسن عن المسير، وقال:
لا حول ولا قوة إلا بالله،
الذين قتلوا (أحمد) في الجامعة فشلوا في حماية (أحمد) على الحدود،
أرجع الآن إلى دار صديقي الحاج فرغلي لأواسيه، ففي قريتنا كل يوم:
أحلام حصدها الرصاص
(*) من مجموعة قصص قصيرة تحمل الاسم نفسه