يأتي القرآن الكريم في مقدمة مصادر السياسة الشرعية، وقد أكد العلماء على أن القرآن أصل، وأن ما سواه من الأدلة راجع إليه, فالقرآن مرجع لحجية ما يأتي من أدلة ومصادر، لذا لم يكن ثمَّ اختلاف في حجية القرآن والسنة، لكن ربما وجد في الإجماع، وكثر في أمر القياس، لذا جاءت نصوص الوحي بضرورة الرجوع إلى القرآن والسنة، قال سبحانه:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ }(سورة النساء 83)، وقال جل شأنه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}(سورة النساء 65)، وقال عزّ من قائل:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُم فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (سورة النساء 58-59). وهاتان الآيتان من سورة النساء أصل من أصول السياسة الشرعية، وهذا ما حدا بابن تيمية أن يجعلهما أساس كتابه: (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية)، وقال فيهما محمد رشيد رضا: هاتان الآيتان هما أساس الحكومة الإسلامية، ولو لم ينزل في القرآن غيرهما لكفتا المسلمين في ذلك إذا هم بنوا جميع الأحكام عليهما (تفسير المنار (5/ 136)).
والمتأمل للقرآن الكريم يدرك أنه اكتفى في الأمور الخاضعة للتطوير والتغيير وتبتعد عن دائرة الثبات, بالأسس والقواعد الكلية تاركاً للأمة ممثلة في ولاة أمرها (الأمراء والعلماء) سنّ ما يحقق لها مصلحتها بما يتماشي مع أحوالها وظروفها. والعلماء يضربون على ذلك مثلاً بالعدل والشورى والقانون الجنائي والمعاملات… وليس هذا مجال تفصيله.
السياسة الشرعية في القرآن تتنوع بتنوع مجالاتها
ولا يمكن حصر السياسة الشرعية في القرآن في دائرة الحكم ونظامه وما يدور معه من علاقات خارجية مع الدول الأخر حال السلم أو الحرب؛ لا. بل يتنوع الحديث وبكثرة نظرا لتعدد مجالات السياسة الشرعية. فالحديث عن العقيدة يكون من باب السياسة الشرعية، والحديث عن العبادات قد يكون من السياسة الشرعية، فضلا عن آيات الجهاد وطاعة ولي الأمر، والحديث عن الملك والحكم والاستخلاف والتمكين.
نماذج وأمثلة
ولمعرفة المساحة التي نالت حظا وافرا من السياسة الشرعية في القرآن الكريم، أذكر ما يلي:
1. الآيات الداخلة في الأحكام السلطانية (السياسة الدستورية والإداربة): ومن ذلك:
أ- النصوص الدالة على وحدانية الله في الحكم والتشريع: مثل قوله تعالى: {إنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } [الأنعام: 57] و[يوسف: 40]، وقوله سبحانه:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54].
ب- النصوص الدالة على الحكم بما أنزل الله: كقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]، وقوله جلّ شأنه: {فلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65].
ت- النصوص الدالة على طاعة النبي صلى الله عليه وسلم: كقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران: 32].
ث- النصوص الدالة على طاعة ولي الأمر: كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } [النساء: 59].
ج- النصوص الدالة على تحقيق العدل والمساواة والشورى: ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]، وقوله جلّ شأنه:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159].
ح- النصوص التي تحدثت عن الملك والحكم: قال تعالى: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} [النساء:54]، وقوله جلّ شأنه: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:251].
خ- النصوص التي تحدثت عن الاستخلاف والتمكين: كما في قوله:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [الحج:41]، وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55].
د- النصوص التي تحدثت عن الملوك الظلمة: كالنمرود وفرعون، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ…}(البقرة: 258)، وقوله سبحانه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} [القصص:4].
ذ- النصوص التي تحدث عن العادلين من الملوك: كقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ}(الكهف: 83)، وقوله سبحانه: {وَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}(النمل: 16).
2. الآيات الداخلة في السير والمغازي والجهاد (القانون الدولي العام): ومن ذلك قوله تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ}(البقرة:193)، وقوله جل شأنه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ }(البقرة: 216)، وقوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}(الأنفال: 61).
3. الآيات الواردة في الزكاة والخراج والجزية (السياسة المالية): ومن ذلك قوله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}(النور: 56)، وقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ..}(التوبة: 60)، وقوله:{ حتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}(التوبة:29).
4. الآيات الواردة في البيوع والمعاملات (القانون الخاص .. المدني والتجاري): ومن ذلك قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}(البقرة: 275)، وقوله: { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}(البقرة: 276)، وقوله جل شأنه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}(النساء: 29).
5. الآيات الواردة في الجنايات والحدود والتعزيرات: ومن ذلك قوله سبحانه: {ولَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}(البقرة: 179)، وقوله جل شأنه: {والسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}(المائدة: 38)، وقوله جلّ في علاه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}(النور: 4).
6. الآيات الواردة في القضاء والشهادة والدعوى (المرافعات): ومن ذلك قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}(البقرة: 282)، وقوله سبحانه:{ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ}(البقرة: 283).
7. الآيات الواردة فيما يتعلق بالحقوق والحريات: ومن ذلك قوله سبحانه: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}(البقرة: 256)، وقوله جل شأنه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}(الإسراء: 70).
8. الآيات الواردة في حقوق غير المسلمين في المجتمع المسلم: ومن ذلك قوله سبحانه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا}(المائدة: 2)، وقوله:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ}(المائدة: 5) وقوله: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ}(الممتحنة: 8).
9. الآيات الواردة في عمارة الكون والدنيا: ومن ذلك قوله سبحانه: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا }(هود: 61)، وقوله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}(القصص: 77).
10. النصوص الواردة في قصص الأنبياء السابقين: ومن ذلك قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } (الأنبياء: 79)، وقوله سبحانه: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ..} (يوسف, الآيات: 25 – 29)، وقوله سبحانه: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف, الآيات: 79 – 82].
11. النصوص الواردة في أقضية النبي صلى الله عليه وسلم: ومن ذلك حكمه في الثلاثة الذين خُلفوا, قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} (التوبة: 118)، وحكمه في أسرى بدر قال تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} (الأنفال: 67).
12. الآيات الدالة على مشروعية أنواع الفقه المختلفة (الموازنات والأولويات والمآلات والاختلاف) ومن ذلك قوله تعالى:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا}(الكهف 79 )، وقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ }(الأنعام 108)، وقوله جلّ شأنه على لسان هارون: { إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} (طه 94).
13. تعقيب القرآن على أفعال النبي صلى الله عليه وسلم: ومن ذلك قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43] وقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1، 2].