السياسة في عالمنا العربي بحر هائج متلاطم الأمواج، تكتنفه صعوبات ومخاطر، لكن أصعب شيء في هذا المجال، الاعتماد على الإعلام في استقاء الأخبار ومتابعة الأحوال، لأن السياسة والإعلام خصمان لدودان، وإن بديا في الظاهر صديقين حميمين .. لا أحد ينكر أن الساسة يعملون ألف حساب للإعلام، وفي كل قناة ورافد أعلامي يوجد مطبخ، يعمل بحرص شديد وضوابط صارمة، وفق توجهات سياسية وأمنية، حرصا على أن تظهر الوجبة الإعلامية براقة متناغمة مع الخط السياسي الرسمي.
من هذا المنطلق كانت القراءة السياسية الرصينة لا تعتمد على ظاهر الأخبار، ولكنها قراءة لوغاريتمية تحلل الخبر وتستنبط الفحوى وتغوص لكي تدرك المغزى والمعنى .. قراءة أشبه بالمعادلات الرياضية أو الكيميائية التي تعتمد على معطيات ونتائج منطقية لا تبدو لأول وهلة لبادي الرأي.
فتنازل مصر –مثلا- عن جزيرتي تيران وصنافير، لا يمكن أن يمر أبدا بدون التنسيق مع إسرائيل، خاصة أن الجزيرتين تتحكمان في مدخل خليج العقبة ذي الأهمية الإستراتيجية والمصيرية لدولة الكيان الصهيوني، فإذا انضاف للأمر حرص الغرب وخاصة الولايات المتحدة على أمن إسرائيل، تجلت لنا المعادلة بوضوح، وأنه كان اتفاقا رباعيا مصريا، سعوديا، إسرائيليا، أمريكيا، أو بمباركة ورعاية أمريكية.
وإن كان الدافع من وراء هذه الخطوة حاجة مصر لدعم سعودي مادي وسياسي إلا أن المكاسب للطرفين السعودي واليهودي ما زالت غامضة في ظل ما هو معلن من أخبار شحيحة في هذا الصدد، خاصة أن مصر تمر الآن بمرحلة انسجام تاريخي مع الكيان الصهيوني وبقاء الجزيرتين بحوزتها أصلح للمحتل، ولابد أن تكون التنازلات السعودية سخية من أجل أن يتم التحول بهذا المشهد.
أيضا من المعادلات السياسية المهمة: التوجس التاريخي العربي بين السلطة الحاكمة والسلطة الدينية، حتى وإن بدا إعلاميا روح التزاوج والتآلف، وهذا التوجس نتيجة امتلاك السلطة للعروش وامتلاك المشايخ للقلوب، خاصة وأن الشعب العربي متدين بفطرته، وللإسلام قوة روحية تأبى الظلم والضيم، ولذلك تتوجس السلطة دوما من الهبات الشعبية التي تمتزج بالدين.
من هذا المنطلق حرصت السلطة على تحييد دور علماء الدين في المشهد السياسي، والضغط بالعصا والجزرة لضمان الولاء، ففي مصر – على سبيل المثال- حرص عبد الناصر على تهميش دور الأزهر، ففي عام 1952 تم تأميم الأوقاف ووضعها تحت سلطة وزارة الأوقاف التي تم إنشاؤها حديثا، مما أوقف قدرة مشايخ الجامع الأزهر على السيطرة على الشؤون المالية، وألغى المحاكم الشرعية، ودمج المحاكم الدينية مع النظام القضائي للدولة في عام 1955، مما حد من استقلال العلماء، وفي عام 1961 صدر قانون الإصلاح، الذي ينص ببطلان قانون أصدر في وقت سابق من عام 1936 الذي يضمن استقلال الأزهر، وأصبح لرئيس مصر سلطة تعيين شيخ الأزهر.
أما في الخليج فالخطوط السياسية الحمراء صارمة للغاية بالنسبة لعلماء الدين، والسجن والاعتقالات وإسقاط الجنسية عقوبات رادعة لمن تسول له نفسه نقد النظام ولو من بعيد، أو بالتلميح دون التصريح، ومسار تحييد الدين وتفريغ طاقته في السياسة الخليجية يعمل دون كلل أو ملل.
هذا كان واضحا – مثلا- بالنسبة للاجئين السوريين الذين اتجهوا بالهجرة إلى الغرب المسيحي ولم يسمح لهم بدخول دول النفط الخليجية، رغم رباط العقيدة الإسلامية، وهو نفس الأمر الذي شجع على إرسال أربع طائرات حربية سعودية لتركيا لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية المثير للجدل ولم يذكر الحاضر ولا الماضي إرسال طائرات لمحاربة العدو الصهيوني؛ البيّن العداوة.
ومن المعادلات السياسية التي تأخذ الآن زخما إعلاميا عاليا، إعلان السعودية «رؤية المملكة 2030»، والتي من المتوقع أن تحقق نقلة نوعية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وتكشف عن خطط المملكة لعصر ما بعد النفط.
وهذا في الواقع نوع من التخدير للشعوب، لأنه حديث عن المستقبل، وهو نفس الخطاب الإعلامي من ستينات القرن الماضي إبان الاستقلال من الاستعمار ورفع شعارات الحرية وأفق الرخاء المنتظر .. وغيرها من الشعارات التي ذهبت أدراج الرياح.
فهل القيادة السعودية كانت لا تعلم أن النفط ثروة غير متجددة، وأنه سيأتي اليوم حتما الذي تتخلى فيه عن هذه الثروة؟ فماذا صنعت غير تجميل المدن وترسيخ ثقافة الاستهلاك وتصدير السياح؟
ما هي المنتجات السعودية التي يرتكز عليها الاقتصاد غير إنتاج دولة لا تملك مقومات الضغط السياسي في المجتمع الدولي لأنها ببساطة تعتمد عليه غذائيا ودوائيا وتسليحيا .. بل وفي كل شيء.
وهل الأمير محمد بن سلمان قادر على أن يستمر في خطته الطموحة، بينما الملك القادم يمكن أن يلغي دوره نهائيا في عملية ترتيب جديدة ومعتادة كما فعل أسلافه؟.
وهل مشكلة السعودية في رؤيتها أم في أمور أخرى؟
وهل المواطن السعودي قادر على أن يشمر عن ساعده وينخرط في الثورة الصناعية والإنتاجية المقبلة، أم سيكون الاعتماد على العمالة الخارجية كما هو معتاد؟
هذه صعاب ومفاوز تكتنف الدور الطموح للمملكة، وهي حجر الأساس في أي نهضة.