كالشيطان أو أنجس منه, دخل آرثر جيمس بلفور ووعده المدنس ذاكرة الفلسطينيين والأمة جمعاء مفتاحًا لشر مستطير ما زلنا نتجرع ويلاته؛ وطنا محتلا, ودما مسفوحا, ومقدسات مستباحة, وفرقة مفروضة علينا, وسرطانا مستشرٍ فينا!
استطعنا أن نناصبه العداء وظللنا نلعن ذكراه، ربحنا معارك ضده وضد تجلياته وتطوراته, وخسرنا أخرى ولكنه ظل عدوا واضحا، ظاهرا ومختلفا لا تلتبس علينا عداوته وأذاه ومؤامرته.
فهم ذلك من ورثوا العقلية البلفورية ولكنهم كانوا أكثر ذكاء في إحلال وكلاء عنهم بوجوهٍ تبدو عربية؛ تلبس قناع العروبة على جلد الذئاب, فيختلط الأمر على من يقاومون؛ هل يستلون سيوفهم أم يغمدونها؟ هل من أمامك صديق أو عدو؟ ثم في غمرة التساؤل والتحسر والدهشة تجد القصة تتكرر ليكون إخوة يوسف أول من يُلقونه في الجب, وليطعن “بروتوس” صديقه “قيصر” بمجرد أن يدير ظهره بل يزيد بغمس يده في دمه متفاخرا!
تعب بلفور وأحفاده من حربنا إذ لم تعد تجدي أساليبهم، حتى مع تفوقهم العسكري، فاستمالوا شراذم من بيننا بثمن بخس بكراسي مرذولة!
إلا أن “بلافرة” العرب تفوقوا على معلمهم, وبزوا كبيرهم, وتوسعوا على ميراث جدهم, فنرى وريثهم يتجرأ على عطيةٍ نبويةٍ لصحابي جليل, سكن فلسطين حتى قبل إسلامه هو تميم الداري الذي أقطعه الرسول صلى الله عليه وسلم أراضي الوقف في مدينة الخليل له ولذريته من بعده لا ينافسهم عليه أحد, فجاء في حجة الوقف (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله إلى تميم بن أوس الداري، إن له قرية حبرون وبيت عينون؛ قريتهما كلهما, سهلهما وجبلهما, وماءهما وحرثهما, وأنباطهما وبقرهما, ولعقبه من بعده لا يحاقه فيهما أحد, ولا يلجمه عليهم أحد بظلم، فمن ظلمهم أو أخذ منهم شيئاً فإن عليه لعنة الله).
بالإرث والعطية النبوية وبالحق الفلسطيني وبعدالة القانون وسلطته ضرب “بلفور فلسطين” عرض الحائط متجاوزا الدين والتاريخ والتشريع والشعب ليهب جزءا من أراضي الوقف هبة من لا يملك لمن لا يستحق ممثلة في إرسالية الكنيسة الروسية في المسكوبية في الوقت الذي لم تستطع حكومة الانتداب ولا حتى حكومة الاحتلال فعل ذلك, فقد رفعت المسكوبية قضيتين لاستملاك جزء من أرض الوقف في عهد الانتداب والاحتلال ولم تمنحها المحكمتان ذلك لعدم إمكانية الاعتداء على أراضي الوقف أو التصرف فيها في غير منفعة المسلمين, فجاء بلفور الفلسطيني ليقوم بما لم يقم به الأعداء!
وفي الوقت الذي يتعدى فيه بلفور الفلسطيني على سلطة وسيادة القانون وقرارات المحاكم العليا، بإيقاف الاستيلاء على أراضي الوقف من قبل السلطة لمصلحة الكنيسة، نجد على الطرف المقابل حملات قوانين بالجملة يشرعنها الكيان الصهيوني ضدنا وضد شعبنا في فلسطين المحتلة عام ٤٨ والقدس والضفة تدفع بمزيد من العنصرية والتمسك بيهودية الدولة، حيث أقر الكنيست بعد الانتخابات الأخيرة ٨٢ قانونا داعما الاحتلال والاستيطان من مايو/أيار ٢٠١٥ الى أغسطس/آب ٢٠١٦ , هذا غير ٥٧ قانونا مدرجا على جدول الأعمال!
يمتهن “بلافرتنا” الجدد؛ الفلسطينييون, انتهاك القانون بينما يحرص “الهرتزليون” الأحفاد (نسبة إلى ثيودور هرتزل) على شرعنة وجودهم واستئصال أعدائهم!
لقد استشرف الشيخ محمد رشيد رضا وجود مثل هؤلاء الخونة من أبناء جلدتنا, فهذه طبيعة القضايا العظيمة تجد لها من يطعنها في الظهر من أبنائها قبل أعدائها, فقال فيهم منذ أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي: «إن من يبيع شيئا من أرض فلسطين وما حولها لليهود والإنجليز فهو كمن يبيعهم المسجد الأقصى وكمن يبيع الوطن كله لأن ما يشترونه وسيلة إلى جعل الحجاز على خطر, فرقبة الأرض في هذه البلاد هي كرقبة الإانسان من جسده, وهي بهذا تعد شرعا من المنافع الإسلامية العامة لا من الأاملاك الشخصية, وتمليك الحربي لدار الإسلام باطل وخيانة لله ولرسوله ولأمانة الإسلام».
كتب الصحفي الانجليزي هارولد بجبي عن بلفور في مذكراته «كان بلفور شخصية أنانية! كان مستعدا أن يفعل أي شيء للبقاء في السلطة، ولكنه لم يُبق له أثرا طيبا يخلده في قلوب أبناء وطنه! إنه كصحراء خاوية ليس فيها أي معالم ولا آثار ولا حتى شاهد قبر يمكن لصديق أن يبكي أمامه!»
هل يذكركم هذا بوصف البلفور الفلسطيني وهل يستقرأ مصيره؟!
كان بلفورا واحدا عدوا أجنبيا, واليوم صاروا بلافرة كثيرين من أبناء جلدتنا.. وهم أعداء أيضا إذ باعونا كما باعنا!
كتب الشاعر خالد أبو العمرين:
كل المخازي باسمهم باسم الوطن
كل الذي حاكوه خلف ظهورنا اليوم يخرج للعلن
من باع شبرا من بلادي بعته وبلا ثمن