ديمة طارق طهبوب

د. ديمة طارق طهبوب تكتب: الفارابي أم ميكافيلي؟ التفكير خارج الصندوق

أصبح اتقان المهارات الإبداعية والكتابية والخطابية والجسدية والإلكترونية وكل ما يشكل مقومات ما يُعرف بالشخصية الكاريزمية متطلبا أساسيا وربما سابقا الدرجات الأكاديمية في كثير من مجالات العمل والارتقاء الوظيفي؛ فأصبح أرباب العمل يتطلعون إلى السيرة العملية والخبرة التي يمتكلها الراغبون في الوظائف أكثر مما يهتمون بتخصصاتهم الجامعية؛ في إشارة واضحة إلى أن هناك فرقا واضحا بين ما يتعلمه الإنسان وما يحبه ويتقنه، وأن الأمرين قد يكونان على طرفي نقيض، وخاصة في دولنا العربية التي قد يُجبر الفرد على دراسة ما تريده العائلة لا ما يريده الشخص، فإما طبيبا أو مهندسا أو على الدنيا السلام!

وتشير الدراسات الحديثة في مجال التدريب والتنمية البشرية أن كثيرا من الأشخاص يحددون قدراتهم بأنفسهم عندما يفكرون تفكيرا نمطيا يُعرف بالتفكير داخل الصندوق (in the box) المحصور بين أضلاع الدين والمجتمع الذي يمنع الفرد من الوصول إلى الحالة الإبداعية التي تحتاج لكسر القيود أيا كانت، والتمرد على المعروف.

وقد وضعت إحدى الشركات الاقتصادية المعروفة في أوروبا مجموعة من الأسئلة لقياس مستوى التفكير الإبداعي لدى المتقدمين لوظائفها، وكان السؤال الأول يمثل معضلة أخلاقية لقياس مدى التزام الفرد بالأعراف والتقاليد التي لا تُطعم خبزا في عالم الاقتصاد الذي يجب أن يعرف أصحابه من أين تُؤكل الكتف، وكيف تطعن منافسك ولو كان أقرب الناس إليك وأنت تبتسم في وجهه.

وكان السؤال كالتالي: بينما أنت تقود سيارتك في ليلة ماطرة باردة حالكة مررت بموقف باص ورأيت عنده أشخاصا ثلاثة: عجوزًا مريضة على وشك أن تفارق الحياة، وصديقك الذي أنقذ حياتك، والمرأة التي طالما حلُمت أن تكون شريكة حياتك، وسيارتك لا تتسع إلا لشخص واحد بجانبك فمن تُقلّ؟

ومن بين مائتي متقدم تنوعت الإجابة بين من آثر من ناحية إنسانية أخلاقية أن يأخذ المرأة العجوز، ومن آثر الصداقة ورد الجميل، ومن كان أنانيا وآثر مصلحته في الحب وضرب بالاعتبارات السابقة عرض الحائط، ولكن الناجح الوحيد الذي أخذ الوظيفة كان من حافظ على الاعتبارات جميعا دون التفريط بأي منها وكان جوابه: أعطي السيارة لصديقي ليوصل العجوز إلى المستشفى، وأبقى أتعرف على شريكة حياتي في انتظار قدوم الباص.

وكانت الهدف من هذا السؤال قياس قدرة الفرد على التفكير بحلول أخرى دون الاضطرار إلى المفاصلة بين الأبيض والأسود.

أما السؤال الثاني فركز على قدرة الشخص على المجاملة، وضبط الأعصاب، والتخلي عن الضوابط الاجتماعية؛ وهو: ماذا تفعل لو هرب المدير مع أختك؟ وفاز المرشح الذي أجاب: لن أجد لها رفيقا أفضل منه!

أما السؤال الثالث فركز على النظرة الايجابية وقدرة الفرد على النظر إلى الجزء الممتلئ من الكأس وكان السؤال للمرشحات من الإناث (بغض النظر عن كونهن متزوجات أم لا): ماذا تفعلين إذا استيقظت صباحا واكتشفت أنك حامل؟ وبينما عانت العزباوات في إجابة السؤال لم تجد المتزوجات أي مشكلة بل أجبن بابتسامة: نفرح ونخرج للاحتفال مع أزواجنا، وعندما سئلن إذا كان السؤال صعبا أو حساسا، كان الجواب أنهن لم يفترضن سوء النية لدى السائل، واشتمل الامتحان على أسئلة أخرى تتعلق بسرعة البديهة، وإعادة استخدام المتوفر للحصول على نتائج جديدة والهروب بأقل الخسائر من المواقف الصعبة وغيرها.

والأسئلة الأهم هنا: هل أصبح الإبداع يعني بالضرورة التنكر لكل ما هو ديني وأخلاقي وبشري واجتماعي؟ أليس الهدف المعلن من الإبداع خدمة البشرية وصناعة الحضارة؟ ألم تعرف البشرية من علماء وقادة العرب الأتقياء الأنقياء الذين انطلقوا من قاعدة «اقرأ»، و”القلم وما يسطرون”، ومن أن السمع والبصر والفؤاد مسؤولية، ومن أن طالب العلم أفضل من العابد المعتكف، ومن أن الروح والمال والعرض مقدسات وحرمات؟ هل يعزز التفكير الإبداعي في المدرسة الغربية أنماطا من الفردية والشخصانية والنفعية؟ وهل يتلاءم هذا مع الإسلام الذي يؤكد وحدة الجسد وجمعية المنفعة وعموم الخير على كل المسلمين ومن دخل في ذمتهم كما جاء في الحديث «الخلق عيال الله أحبهم الى الله أنفعهم لعياله»؟

ألم يكن ألفرد نوبل مبدعا في اختراع الديناميت الذي قتل وما زال يقتل الملايين؟ هتلر من وجهة نظر الكثيرين كان مبدعا في نظرية التفوق الآري والفكر النازي، السفاح البريطاني جاك ريبر كان فنانا في تقطيع أوصال ضحاياه، شكسبير أبو الأدب الانجليزي كتب أجمل السونتات الشعرية واتضح أن المحبوب والمُخاطب فيها رجل!

فمن يحدد معنى وماهية الإبداع؟ من يوجه البوصلة: الميكيافليون أم الفارابيون؟ ماذا تعزز نظريات العلوم والحداثة: قيم الرأسمالية أم المدينة الفاضلة؟

الإبداع مطلوب ومتعدد الجوانب من أول الرأس إلى أخمص القدمين وما بين سماوات سبع وأرضين سبع، ولكن من أي المدارس ننطلق وإلى أين ينتهي الطريق؟

شاهد أيضاً

محمد عبد الشكور يكتب : على خطى علمانية فرنسا.. حظر النقاب في المدارس المصرية!

وكأنّ وزير التربية والتعليم المصري اكتشف فجأة أن السبب في انهيار نظام التعليم هو ارتداء …