لم تكن القضية الفلسطينية طوال مراحل تطورها شأناً فلسطينياً بحتاً، ولن تكون في المستقبل. والحديث هنا ليس عن الاهتمام بها ولكن عن أسباب نشوئها وسبل حلها، وتأثرها سابقاً ولاحقاً بالمتغيرات الدولية والإقليمية بما فيها العربية. ربما يعود ذلك، في جانب منه، لنشأة القضية كمشروع غربي وجد مصلحته في التخلص من “المشكلة اليهودية” في أوروبا وفي العالم عبر إبعاد اليهود وإنشاء كيان سياسي لهم يمكن أن يكون “دولة عازلة” في قلب المنطقة العربية يمنع توحدها ويظل عامل توتر فيها، وقد يكون لضعف الفلسطينيين وحدهم في مواجهة المشروع الاستيطاني الإحلالي، وقد يكون لأسباب أخرى كثيرة.
لكن، في نهاية المطاف، فالقضية الفلسطينية قضية إقليمية ودولية، وتتأثر بشكل مباشر بالمتغيرات المهمة على هذين الصعيدين، وهنا تأتي أهمية رصد بعض التوقعات للبيئتين الدولية والإقليمية على المدى البعيد، لاستشراف أثر كل ذلك عليها.
في المقام الأول، لا ينبغي إغفال “الانسحاب من الشرق الأوسط” كاستراتيجية أمريكية واضحة للتفرغ أكثر لمواجهة التمدد الصيني فضلاً عن المواجهة مع روسيا في أوروبا. صحيح أن هذا الانسحاب لا يعني الغياب تماماً عن المنطقة، لكنه سيعني بالضرورة تراجع مستوى الاهتمام والاشتباك, وبالتالي تراجع القدرة على الضغط على دولة الاحتلال. ولأن هذه الاستراتيجية ليست من وليدة أفكار الرئيس الحالي فإنها مستمرة في حال نجح أحد الديمقراطيين في الانتخابات القادمة، بينما سيكون الوضع أسوأ فيما يتعلق بالعلاقة مع دولة الاحتلال في حال نجح أحد الجمهوريين.
من ناحية أخرى، لا يمكن التعويل كثيراً على “عودة” روسيا للمنطقة، فالحرب الباردة ولت إلى غير رجعة، وما نشهده اليوم لا يعدو كونه اللمسات الأخيرة على نهايتها بطريقة أو بأخرى، وغالباً بتوزيع النفوذ. إن التواجد الروسي في المنطقة مبني على عدة ركائز لا تخدم دوراً لها في القضية الفلسطينية يوازن الدور الأمريكي، وأهمها التوافق السياسي مع واشنطن، والمساومة في الملفات ما بين سوريا وأوكرانيا، والوجود بالحد الأدنى لتحقيق أفضل النتائج.
أما الاتحاد الأوروبي ففي أضعف حالته، وتكاد أزمة اللاجئين التي فرضت نفسها عليه خلال العامين الماضيين تودي بعدد من زعماء القارة الأوروبية، فضلاً عن وحدة الاتحاد نفسه؛ في الجنوب (اليونان) وشمال الغرب (بريطانيا). أما الصين فما زالت تخطو خطواتها الأولى على طريق المنافسة العالمية، وتبدو مكتفية حتى الآن بالاقتصاد.
ملخص ذلك هو نظام عالمي يتهاوى – أو ربما قد تهاوى فعلاً – دون أن يُستبدل به نظام آخر أكثر استقراراً، بينما لا تبدو الأمور على المستوى الإقليمي أحسن حالاً. فقد أنهكت الثورة المضادة العالمَ العربي وأغرقته في أزمات يصعب توقع نهايات سريعة لها، وغيَّبت عن ساحة الفعل العديدَ من الدول المؤثرة في القضية الفلسطينية، فضلاً عن وضعها مصر تحت حكم السيسي كعنصر ضغط على القضية وأبنائها، وخصوصاً مقاومتها. وهو ما يعني أن الفترة الانتقالية التي امتازت بحالة متفهَّمة من الانشغال بالأوضاع الداخلية لكل قطر عربي على حدة على حساب الاهتمام بالقضايا الكبيرة الجامعة, مرشحةٌ للاستمرار حتى إشعار آخر، قد يتأخر كثيراً. كما لم تبلور المنطقة حتى الآن توازنات أو أحلافاً مستقرة يمكن التعويل عليها في قراءة المشهد العربي – الإقليمي ثم البناء عليها.
على مستوى الدول الإقليمية، ما زالت العلاقات شبه مجمدة بين إيران وحركة حماس – كبرى حركات المقاومة – بينما لم تبْنِ طهران علاقة متميزة مع خصمها السياسي (السلطة أو حركة فتح) في ظل تواصل فاتر حتى مع الجهاد الإسلامي. ولئن عول البعض على محاولات إعادة العلاقة إلى سابق عهدها، ورغم البطء الشديد الذي يعتري هذه المحاولات، فإن إيران اليوم لم تعد إيران الأمس، أولاً لأنها أصبحت جزءًا من المجتمع الدولي ولم تعد “دولة مارقة” لا تلقي بالاً للضغوط الدولية، وثانيًا لأن ما حصل بينها وبين حماس تحديدًا لا يمكن نسيانه وتجاوزه – من الطرفين -بسهولة، وثالثًا لأنها باتت أقل حرصا على “ورقة” القضية الفلسطينية التي لم تعد تكفي للتغطية على سياساتها في المنطقة، وهو ما يعني أن سقف دعمها – إن عاد – لن يقترب من سابق عهده.
أما تركيا؛ الموازن الإقليمي لإيران والتي كان يفترض أن تكون الداعم الأكبر لحركات المقاومة، فتعاني من حالة التراجع في الثورات العربية التي راهنت عليها, ومن إخفاقاتها في عدة ملفات أهمها السوري، وتبدو غارقة في دوامة التصعيد العسكري في مواجهة حزب العمال الكردستاني، وتتعرض لضغوط غربية هائلة، مما رفع أصوات المنادين (حتى من داخل الحزب الحاكم) بضرورة القيام بتغييرات جذرية في سياستها الخارجية. فإذا ما أضفنا إلى كل ذلك الرؤية السياسية التي تتبناها تركيا الرسمية – أي حل الدولتين – إضافة إلى الاتفاق الأخير مع الاتحاد الأوروبي الذي يشترط من ضمن بنوده “التعاون” التركي مع مؤسسات الاتحاد القضائية والاستخباراتية فيما يتعلق بمكافحة الجريمة والتهريب وتمويل “المنظمات الإرهابية”، نستطيع أن نتصور إلى أي مدى تبدو يد أنقرة مكبلة إزاء القضية الفلسطينية على المدى الاستراتيجي.
في الطرف الآخر مما أسماه البعض “المحور الجديد” للمقاومة الفلسطينية ثمة, قطر بإمكاناتها المعروفة والمحدودة، سيما بعد التوافق مع السعودية والتراجع لمصلحتها في الملفين المصري والسوري. وهناك السعودية التي بشرت العالم العربي بعهد جديد لم يحمل حتى الآن جديداً فيما يخص القضية الفلسطينية.
المحصلة النهائية، أن الفلسطينيين أمام مشهد دولي قريب من الفوضى و/أو المواجهة في محاولة لتقاسم النفوذ في المنطقة والعالم، وأمام مشهد عربي -إقليمي غاية في الهشاشة والانقسام والغرق في النزاعات الداخلية والإقليمية، بما يعني تراجع الاهتمام وتعمق الضعف والعزلة الفلسطينيين. وهذه هي البيئة المثالية بالنسبة لدولة الاحتلال للاستمرار في مشروع تهويد القدس والضفة الغربية بشكل حثيث، ولا شيء قد يمنعها عن القيام بمغامرة عسكرية ضد قطاع غزة أو التوحش أكثر في مواجهة شباب الانتفاضة في الضفة، سيما وجزء مهم من الحالة السياسية الفلسطينية ما زال يقدم خصوماته الداخلية على عداوته مع الاحتلال. فما الحل؟
يصعب الحديث عن حلول جاهزة أو سهلة، ولا يمكن أن تفي مساحة المقال بما يحتاجه تحليل المشهد من سياقات، فضلاً عن أن المشهد الحالي وما يرشح عنه من احتمالات مستقبلية لا يعدان بالكثير على مستوى الممكن بالنسبة للطرف الفلسطيني.
ورغم ذلك، فلا بد من ثلاث إشارات سريعة:
الأولى، أهمية اللحمة الداخلية وسط كل هذه التشظيات, والتوافق على الحد الأدنى الممكن، أو على الأقل تجنب المواجهات الداخلية، ففي ظل هذا الوضع الإقليمي والدولي لا يحتاج أي طرف لأن يزيد من خصومه، بل يكمن كلُ الذكاء والتخطيط الاستراتيجي في تقليل الخصوم وتأجيل المواجهات قدر الإمكان، ولو تطلب ذلك بعض التنازلات المؤلمة.
الثانية، الحذر الشديد في اتخاذ المواقف وإطلاق التصريحات في ظل حالة الاستقطاب غير المسبوقة في المنطقة، بحيث لا يُحسب الفلسطينيون – ولا فصائلهم – مع أحد الأطراف ولا ضده، فيبقى التواصل مع الجميع – على نسب متفاوتة – ويستمر الحذر من الجميع، وفق مبدأ استقلالية الموقف والقرار وكسب كل الأطراف لصالح القضية.
الثالثة، لن تلوح في الأفق بوادر انفراجة ما إلا بتغير المشهد العربي -الإقليمي، إما بتوافقات تاريخية بين مختلف الأطراف تعيد المنطقة إلى نصابها وكل طرف إلى حدوده الطبيعية وهو احتمال بعيد وفق المعطيات الحالية، أو بموجة جديدة من الثورة في العالم العربي وخصوصاً في مصر تعيد قلب الطاولة وخلط الأوراق وهي خطوة ما زالت لم تستوف ظروفها الموضوعية التي تعمل بطريقة جمع النقاط على المدى البعيد.