د عالية المهدى تكتب : الاستدانة وبيع الأصول ليسا حلًّا.. وخروج الأموال الساخنة يأكل الأخضر واليابس

فى هذه الحلقة من حوارات الأسئلة السبعة، تتحدث الدكتورة عالية المهدى، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، العميد الأسبق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، عن أهمية الإدارة والتعليم الجيد فى تحقيق التقدم فى مصر، وتقول إنه لا بد من كسر حلقة بيع الأصول والاستدانة والتأزم ثم العودة إلى بيع الأصول، وكذا اتباع سياسات اقتصادية واجتماعية جديدة، مع جدية فتح المجال للقطاع الخاص، مشيرة إلى أن دولا بموارد أقل بكثير مثل سويسرا واليابان، حققت نهضة كبيرة، لكن الأهم وجود إرادة سياسية للتغيير.

 

وإلى نص الحوار..

السؤال الأول

هل تجاوزنا فعلًا صعوبات المرحلة، وإلى أى مدى تغطى التدفقات الحالية احتياجاتنا؟

ساهمت التدفقات التى دخلت مصر فى بداية ٢٠٢٤، سواء من بيع أرض رأس الحكمة، أو قرض صندوق النقد الدولى الجديد (٨ مليارات دولار على دفعات)، أو قرض البنك الدولى، أو غيره من تمويلات من مصادر أخرى- فى تهدئة التعطش الشديد للعملة الصعبة لسداد الالتزامات المالية الحالّية، وفى استقرار سوق الصرف الرسمية للعملة خاصة مع تحريرها.

ولكن مع ذلك، فإن هذه حلول قصيرة الأجل غير مستدامة، لأنها فى مجملها تعتمد إما على بيع أصول ذات قيمة مرتفعة بأسعار أقل مما تستحق تحت وطأة الحاجة، وهو أمر ضار بالأجيال القادمة؛ أو التوسع فى مزيد من القروض بما يعنيه من تبعات سلبية على الموازنة العامة للدولة وميزان المدفوعات؛ أو قبول دخول أموال ساخنة للاقتصاد لتستفيد من فارق سعر الفائدة فى مصر وتخرج سريعا كالطوفان تجرف معها الأخضر واليابس من العملات الأجنبية فى القطاع المصرفى، وتلك كلها دورة ضارة، وقد آن الأوان لكسرها وصياغة وتنفيذ توجهات مالية ونقدية واستثمارية مختلفة، لذلك فإن الحلول الوحيدة المناسبة لتلك المرحلة وأى مرحلة لا بد أن تتأسس على مصادر أكثر استدامة لعل أهمها على الإطلاق:

■ زيادة الصادرات من السلع الصناعية والزراعية والخدمات الإنتاجية مثل السياحة وتكنولوجيا المعلومات والتعليم والصحة، من خلال نظم حوافز متنوعة ومتغيرة بحسب القدرة على زيادة الصادرات.

■ زيادة تحويلات العاملين المصريين بالخارج، من خلال تقديم حزم من البرامج الادخارية أو الاستثمارية المناسبة لهم.

■ تطوير البرامج السياحية مع إضافة مناطق سياحية جديدة لنوعيات مختلفة من السياح بما يفتح آفاقا أرحب أمام القادم لمصر.

■ تقديم خدمات تموين وشحن وتأمين وصيانة للسفن المارة فى قناة السويس بما يزيد من إيراداتها السنوية.

■ تشجيع الاستثمار الوطنى والأجنبى المباشر فى قطاعات محددة مستهدفة من الحكومة، سواء فى المجال الصناعى أو الزراعى أو التكنولوجى، أو فى مجال الاقتصاد الأخضر، ومنحها مزايا مالية وغير مالية متنوعة.

على أن يتم تقييم الأداء فى كل مجال بصفة دورية نصف سنوية مع إقرار نظام محاسبة حازم.

 

السؤال الثانى

ماذا يعنى الإصلاح المؤسسى ورفع مستوى المساءلة واقعيا وما الأمل بتنفيذه؟

مما لا شك فيه أن الإصلاح المؤسسى أمر ضرورى، ويحب أن يصبح الأساس فيه كيفية تسهيل أمور الحياة على المواطن والمستثمر. ولذلك لا بد أن يتم السير فيه على عدة مسارات، لعل أهمها:

 

■ دمج وتخفيض عدد الوزارات فى مصر إلى ما لا يزيد على ٢٠ وزارة أسوة بكل الدول المتقدمة والنامية الناجحة الأخرى، مثلا «الزراعة والرى»؛ «الخارجية والتعاون والهجرة»؛ (تم دمج الهجرة فى الخارجية مؤخرا)، «الطيران المدنى والسياحة»؛ «الثقافة والآثار»؛ «التجارة (الداخلية والخارجية)»؛ «التضامن والتموين»؛ «الاستثمار والتعاون الدولى»؛ «الصناعة وقطاع الأعمال العام».. إلخ.

 

■ ميكنة الخدمات الجماهيرية كلها وتسريع تقديم الخدمة، مع البعد عن التعامل المباشر بين الموظف العام والجمهور بما يقلل من الفساد والمعاملات غير المقبولة.

 

■ الحد من المركزية الشديدة فى اتخاذ كل القرارات وفى تحصيل كل الموارد الضريبية لحساب المركز، ومنح صلاحيات واسعة للمحافظين وللمستوى المحلى تسمح للمحافظات أن تتنافس فى جذب المستثمرين إليها وتحسين الخدمات المختلفة المقدمة للجمهور والارتقاء بها.

 

■ شفافية وبساطة فى تخصيص الأراضى للمشروعات الإنتاجية وتحويلها لحق انتفاع لمدة لا تجاوز ٥٠ سنة، وبأسعار منخفضة حتى لا تمثل تكلفة الأرض جزءا كبيرا من تكلفة الاستثمار.

 

■ توحيد وتبسيط إجراءات تأسيس وبدء النشاط، بصرف النظر عن حجمه، نوعه، طبيعة ملكيته، أو حجم رأسماله، وتحديد جهة واحدة للقيام بهذه المهمة والزمن المحدد لإنهائها.

 

■ المساءلة والمراقبة لعمل الجهات الإدارية الحكومية؛ من خلال عودة انتخاب مجالس شعبية محلية معبرة عن المواطنين تراقب أعمال المحافظات وتسائلها.

 

السؤال الثالث

كيف نضبط الحدود بشكل دائم بين دور الدولة فى النشاط الاقتصادى ودور القطاع الخاص؟

دور الدولة فى النشاط الاقتصادى يجب أن يقتصر على التنظيم والمتابعة وتسهيل عمل الأنشطة. وباستثناء الأنشطة العملاقة التى لا يستطيع القطاع الخاص القيام بها؛ مثل الإنتاج الحربى أو المفاعل النووى أو محطات الكهرباء الضخمة، فالدولة يجب ألا تدخل فى أى أنشطة اقتصادية يستطيع القطاع الخاص القيام بها حتى لا تزاحمه فيها، خاصة أن موازين القوى لا تكون متكافئة ما بين الدولة والقطاع الخاص، وبالتالى فإن وضع الحدود لا بد أن يتم من خلال إعلان واضح ومحدد من الحكومة.

كما أن «وثيقة ملكية الدولة» لا تقدم إعلانا محددا فى هذا الشأن، لأنها تبدو وكأنها تقدم حلا وهى فى نفس الوقت تتراجع عنه، تتقدم خطوة وتعود أخرى.. فهى لا تريد ترك مجالات واضحة للقطاع الخاص.

 

السؤال الرابع

عجز الموازنة واحد من أهم الاختلالات.. كيف نتعامل معه بسياسات جديدة؟

يعتبر عجز الموازنة العامة ترجمة لبعض المشكلات الاقتصادية الأساسية واستمراره لفترة طويلة يضع قيدا كبيرا على هيكل أولويات الإنفاق، ويقلل كثيرا من التمويل الموجه لعدد من القطاعات الخدمية الأساسية مثل التعليم والصحة حتى دون المستوى الذى حدده الدستور.

وللتعامل مع هذا الاختلال، يجب مواجهة عجز الموازنة من خلال ثلاثة مسارات أساسية:

■ التوسع فى الإيرادات من خلال توسعة المجتمع الضريبى دون زيادة فى أسعار الضريبة؛ ودخول كل إيرادات بيع أى أصل من أصول الدولة للموازنة العامة؛ حتى تستطيع سداد الالتزامات المالية من أقساط وفوائد ديون بانتظام، وتحافظ على مستوى الإنفاق على الخدمات الأساسية مناسبا لمتطلبات العصر، وبناء مواطن قوى البنية عالى التعليم.

■ الانضباط والرشادة فى هيكل الإنفاق الحكومى خاصة فى البنود التى يمكن ضغطها مثل الاستثمار الحكومى فى أوقات الأزمات.

■ الحد من الاقتراض الدولى والمحلى بأسلوب مخطط سنويا حتى يمكن خفض نسبة الإنفاق العام المخصص لسداد أقساط وفوائد الديون التى تبتلع أكثر من ٥٠٪ من الإنفاق العام و٨٠٪ من الإيرادات العامة. فالاستمرار بالاقتراض على نفس النحو المشاهد فى السنوات العشر السابقة سيكرر لنا أزمة ٢٠٢٢ و٢٠٢٣ مرة أخرى فى فترة قريبة ما لم يحدث تغيير هيكلى فى أسلوب إدارة الاقتصاد.

مع مراعاة أن تطبيق مبدأ وحدة الموازنة ضرورى، فضم موازنات الهيئات الاقتصادية (إيرادات ونفقات) يساعد على تحسين وزيادة الموارد فى جانب الإيرادات العامة لوجود عدد كبير من الهيئات المحققة لأرباح.

 

السؤال الخامس

كيف نصل إلى تحديد هوية واضحة لتوجهاتنا الاقتصادية فى ظل التأرجح بين أكثر من توجه؟

عالمنا الذى نعيش فيه، يلعب القطاع الخاص بمعظم دوله، دورا رائدا فى النشاط الاقتصادى والاستثمار والتشغيل. ويكمن الاختلاف بين الدول وبعضها فى آليات إدارة النشاط الاقتصادى من مؤسسات لحماية المستهلك، وتنظيم المنافسة على أسس عادلة ومتكافئة، وإرساء قواعد الشفافية والإفصاح والحفاظ على المصلحة القومية من أى تعديات اقتصادية ضارة محققة أو محتملة على الاقتصاد الوطنى.

وهى أمور نلاحظها حتى فى الدول الكبرى التى تحمى صناعتها من أى خطر اقتصادى ولو محتمل، كما حدث فى عام ٢٠١٨ حين فرض ترامب ضريبة إضافية ٢٥٪ على واردات الحديد و١٠٪ على واردات الألومنيوم التى تهدد الصناعة الأمريكية، وهو ما اضطر معه الاتحاد الأوروبى إلى اتخاذ إجراءات مماثلة وفعلها ترامب كذلك مع الصين وردت عليه؛ ورأينا أيضا كيف رفضت الحكومة الأمريكية أن تدير شركة موانى دبى أحد الموانى الكبرى فيها لأنها رأت فى ذلك ضررا بأمنها القومى.

مصر يجب ألا تختلف عن باقى دول العالم الناجحة، حيث يكون التنظيم والرقابة والعدالة للحكومة، أما الإنتاج والاستثمار والتشغيل والتصدير فهى مهمة القطاع الخاص باستثناء المشروعات الكبرى أو الضخمة خاصة فى مجال البنية الأساسية فتترك إما للحكومة أو تصبح مشاركة ما بين العام والخاص.

 

السؤال السادس

كيف نعالج عجز الاقتصاد عن المنافسة، وتحقيق درجة مقبولة من العدالة الاجتماعية؟

عجز الاقتصاد عن تلبية الاحتياجات المحلية والمنافسة الدولية هو أمر راجع لسوء الإدارة العامة لكل الملفات الاقتصادية الحيوية.

هناك دول لا تملك أى موارد طبيعية تذكر، ومع ذلك من أقوى دول العالم اقتصاديا. لنا فى اليابان وسويسرا ودول أخرى كثيرة أسوة. فهى، رغم ضعف مواردها الطبيعية، تعتبر من أغنى الدول وأعلى مستويات المعيشة فى العالم.

كيف تأتى لها ذلك؟؛ لأنها اهتمت بالقطاعات الأساسية؛ فى مقدمتها التعليم والصحة والبحث العلمى والتطوير التكنولوجى لبناء البشر المسلح بصحة جيدة والمؤهل تعليميا وتكنولوجيًّا، وفى نفس الوقت خططت لاستهداف وتنمية بعض القطاعات الإنتاجية التى تحقق أهدافها القومية ويضطلع بالقيام بها القطاع الخاص.

وعلينا أن نتعلم من خبرات من سبقونا، فإذا راجعنا أولوياتنا وترتيبها وعملنا على تعديل المسار الاقتصادى بجدية، نستطيع أن نصبح أكثر تنافسية وقدرة على تلبية احتياجات المواطنين المتطورة والمتزايدة. لكن باستمرار الاستثمار فى البنية التحتية فقط وإهمال القطاعات القابلة للتبادل التجارى لن نتمكن من تحقيق التنافسية المحلية والدولية، والعدالة فى توزيع الفرص أمام أفراد الشعب وزيادة الإنتاج والتشغيل والاستثمار والتصدير.

 

السؤال السابع

ما أسرع الإجراءات المقترحة لاستعادة ثقة المجتمع بأطيافه والشركاء الخارجيين فى السياسات الاقتصادية؟

كل ما سبق لا بد من السعى لتحقيقه بصورة متوازية فى نفس الوقت ودون أى تأخير. فقرارات تعديل المسار يمكن أن تأتى متزامنة مع بعضها وليست متوالية، وإعادة ترتيب الأولويات لكى يكون فاعلا يحب أن يأخذ فى اعتباره متطلبات الجيلين القصير والطويل.

فى النهاية كل ما سبق من الممكن إنجازه، والنهوض بالبلاد نهضة سريعة لتخرج من عثرتها؛ ولكن أهم شىء هو توافر الإرادة السياسية الجادة للتغيير؛ فهى مفتاح القضية.

شاهد أيضاً

مصطفى عبد السلام يكتب : عن خطة إسرائيل تدمير الاقتصاد الفلسطيني..فهل تنجح؟

تعمل حكومة إسرائيل على عدة محاور للقضاء على القضية الفلسطينية وإزالة اسم فلسطين من الوجود، …