عندما ذهب وفد المفاوضات السوري من الرياض إلى جنيف “3”، لم يكن أحد من السوريين يصدق أن تقدما ما سيحدث في تلك المفاوضات.
وعندما عاد وفد المفاوضات من جنيف 3 إلى الرياض، لم يكن أحد ما من السوريين يستغرب ذلك.
وعندما بدأت التصريحات تصدر عن هذه الجهة أو تلك بعد تعليق المفاوضات بقرار الوسيط الأممي، لم يكن أحد من السوريين يشغل نفسه بمتابعة تلك التصريحات.
وسبب عزوف السوريين عن متابعة قضيتهم في أروقة المحافل الدولية، يعود لقناعة ضمنية في داخل كل منهم، أن لا نتيجة من ذلك. فثمة طبخة قديمة حديثة تعد للسوريين على نار هادئة، وطباخها الموهوب هو الداعي إليها من قبل, و( حاميها حراميها) كما يقولون.
وكلنا يعلم كيف أن السفير الأمريكي في دمشق, وهو الحرامي الأكبر, كيف خدع الجماهير السورية بزعمه الاصطفاف معها، وبدعمه إياها، وكيف صدقت تلك الجماهير ما قاله، وكيف نثرت عليه الورود والرياحين, بل حملته على أكتافها، يوم ذهب إلى حماة، وقد كان يدعي نصرة الثورة السورية وهو ليس أقل من تنين أسود يريد ركوب موجتها، والالتفاف عليها، وإيصالها إلى طريق اللاعودة مع نظامها التي خرجت عليه, وذلك ليتسنى له تنفيذ مخططه الذي يعمل من أجله, وهذا الذي حدث فعلا.
وكانت الطبخة التي أعدها تهدف إلى تدمير البنية التحتية في سورية، وتخريب كل مافيها، وتدمير بنائها، وإغراقها بالإرهاب والإرهاب المضاد، وتحويلها إلى بلد تصعب الحياة فيه, وفتح المنافذ الخارجية أمام شعبها، ليشرد في الأرض، وليبغي وطنا بديلا, فكان له ما أراد وبدقة وكأنه كان يحلّ مسألة رياضية معروفة النتائج والمقدمات.
وقد ساعد على إنضاج هذه الطبخة سذاجة العاملين في الحقل السياسي السوري، الذين كان عليهم أولا أن يسلطوا الأضواء على سياساته، وأن يحولوا دونه ودون تحقيقها بالوسائل المتاحة وما أكثرها في أيامها الأولى.
وقد كان الذي يجب أن يتوافر بداهة عند أولئك، أن يعرفوا أنفسهم أولا، وأن يعرفوا الناس ثانيا، وألا يتقدموا إلى الأمام مغمضي العيون، وألا يصموا آذانهم حتى عن الكلمة المخلصة من شركاء لهم في الوطنية والمسؤولية.
لكن كما يقال: ( فاقد الشيء لا يعطيه) وقد يكون من الخطير والخطير جدا، أن يتتلمذ الإنسان على ثقافة عدوه، وأن يعلق بمفرداتها، وأن يعد نفسه حارسا أمنيا لها، وتلك هي ثالثة الأثافي. فمن وجهة نظر منطقية، الشرق شرق والغرب غرب وبينهما أُوار حرب مستعرة، منذ ما قبل الاستعمار وإلى اليوم وهي حرب صليبية طويلة المدى حسب تصريح بوش الابن بعد ضرب أبراج التجارة العالمية في نيويورك.
وهي جزء من مخطط عام أعدته دوائر مختصة في أكثر من دولة عدوّة، ورعاه وعمل على تنفيذه لوبي صهيوني، هو أخطر ما في الحياة على العرب والمسلمين.
والجزء المختص منه بسورية هو الذي أوصلها إلى ما وصلت إليه اليوم، أما أجزاؤه الأخرى فتشمل دول المنطقة كلها، ومنها: باكستان وتركية ومصر والسعودية والعراق، وإيران، وإن كانت إيران لخصوصيتها المذهبية تأتي متأخرة، وقد اختيرت لتفجير العالم الإسلامي من الداخل، وهذا هو الذي حصل أو يحصل الآن.
إذا مسألة جنيف “1” و جنيف “2” و جنيف “3”، وكل ماسيتبع ذلك من مؤتمرات في جنيف وغيرها ليست سوى من باب ( ذر الرماد في العيون) ولشغل السوريين أو سواهم ممن هم داخلون في خانة مخططاتهم، بمسائل لا تقدم ولا تؤخر في حل المسألة الأم.
ورؤيتنا هذه – وهي نابعة من رؤية تاريخية – تضع الحصان أمام العربة، وليس العكس كما كان حاصلا.
فعلى الذين ينتمون لهذه الأمة، ويختزنون في داخلهم ثقافتها وفكرها، أن ينقوا صفوفهم أولا من المثقفين المغتربين الذين لا يجيدون القراءة بدون نظارة أجنبية, وأن يبعدوا عن صفوفهم ثانيا ركاب الموجات، والمتسلقين والطالبين للزعامة والراكضين وراء مصالحهم الشخصية، والعاملين لحسابات أجنبية صرف.
كما عليهم ثالثا أن يفتحوا الباب أمام من يشاطرونهم الرأي والموقف من إخوانهم، ليكونوا معهم وليعضدوا مسيرتهم، وليحملوا معهم بعضا من مهامهم التي لا قدرة لهم على حملها، والتي تتطلب العصبة أولي القوة من الرجال المخلصين.
أمام السوريين اليوم الفرصة السانحة لمراجعة حساباتهم وإعادة ترتيب أوراقهم, وهذا يعني:
1- أن يكون لهم موقف مع أنفسهم، وأن يراجعوا دفاترهم القديمة والحديثة، وأن يفيدوا من التجربة وقد مرّت، وألا يقبعوا في خانة اليأس أو يستسلموا له.
2- أن يكون لهم موقف مع أصدقائهم، ممن يتباكون عليهم أو يبكون من أجلهم، وأن يحسنوا غربلتهم، ويميزوا بين صحهم وباطلهم، فالمؤمن لايلدغ من جحر مرتين، و ما أكثر الجحور التي لدغ منها السوريون منذ 2011 وحتى اليوم.
3- أن يعرفوا عدوّهم، وأن يحددوا أبعاد معركتهم معه وألا يقصروا نظرهم على المرئي والمسموع حسب، وأن يعدوا العدة اللازمة لمعاركهم القادمة معه, وأن يعلموا حقيقة وكما قال جورج بوش الابن: إنها حرب طويلة المدى, ومعنى ذلك أنها ستكون سجالا وسينجم عنها أرباح وخسائر، وأن النتيجة والمآل بيد الله سبحانه.
4- والأخطر والأهم، أن يعتمدوا على قواهم الذاتية وأن يعرفوا كيف ينمون تلك القدرات، وكيف يستثمرونها وكيف يواجهون المستجدات، وكيف يتعاملون معها بعيدا عن روح الإحباط التي تساور المرء بين الحين والآخر.
ومن هنا، ومن على هذه الطاولة المتواضعة، ومن هذه الحجرة التي قد لا تتسع لغير صاحبها نرسل الصيحة بملء الفم ونقول:
إن الجريمة كبيرة ومستمرة، وأعداء سورية – وهم كثيرون – لا يبالون أن يموت السوريون أو أن تخّرب أوطانهم. المعركة اليوم تتطلب منا نحن السوريين أن نرتقي إلى مستوى المسؤولية، وأن نعضد المجاهدين ونشد أزرهم وأن نكون معهم, والحذر الحذر من أن يساورنا اليأس أو يجد إلى نفوسنا سبيلا، فالحادث جلل والمسألة أكبر, وقد دخلت في خانة (نكون أولا نكون)، ولا نجاة ولا منجاة من ذلك إلا بالصدق والصبر، وبالمواقف المشرفة التي سيقفها الأبناء من هذه الأمة وبالجهود الجليلة والعظيمة، التي ستبذل من أجل نصرتهم والوقوف إلى جانبهم؛ وهي نصرة باتت اليوم من باب فرض العين الذي يجب على كل مواطن رجلا كان أو امرأة، ضعيفا أو قويا، فالكل له دوره في هذه المعركة المقدسة، والكل عليه واجبه الذي يناط به, وسيعلم الذين خذلوا إخوانهم أو تخلوا عنهم ولم يستجيبوا لدعوة الداعي إذا ما دعاهم, أيةَ نتيجةٍ سيحصدون بعد تخليهم عن واجبهم المقدس في بلدهم الحبيب، وقد تداعى إليه أعداؤه من جهاته الأربع.
” و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب سينقلبون”.
……………….
مركز أمية للبحوث والدراسات الاستراتيجية