كانت ليلة الخامس عشر على السادس عشر من يوليو/تموز ليلة قلقة ومزعجة ومربكة إلى درجة كبيرة. وكان ترقب الأخبار من العامة والخاصة, والقريب والغريب, الظاهرة اللافتة للنظر. وكنا بعامة واحدا من اثنين: الأول غيور يخاف على التجربة التركية من أن تهوي بها رياح الانقلاب إلى مافيه تدمير تركية وشعبها، وذلك هو حال الغيورين بعامة.
والثاني مهتم بالشأن التركي، وهو خبير وعارف بالسياسة الدولية، ولا تبعد هواجسه عن هواجس صاحبه الأول الذي كان قلقا ومضطربا إلى درجة كبيرة.
وكلانا- الأول والثاني- كنا نبدو غير طبيعيين في مواجهة الحدث الجديد، الذي اختلفت الأخبار حول احتمالات فشله ونجاحه، وتلك هي أحوال الانقلابات في مراحلها الأولى، وأحوال المتلقين لأخبارها بعامة.
وعندما برز أردوغان على “السكايب”, ليعلن صموده في مواجهة الانقلاب، وليطلب من الشعب التركي الخروج إلى الشوارع والساحات لمواجهة الانقلابيين كان ذلك البروز بمثابة عودة الروح للأتراك الذين كانت قد ساورتهم هموم كثيرة، لمجرد سماعهم الخبر الأول، الذي يعلن نبأ المحاولة الانقلابية الفاشلة.
ولم تمض ساعات حتى انكسرت الموجة، وهدأت العاصفة واستوت السفينة على جودي النصر، وأصبح الشعب كله في فرحة لم يكن ينتظرها، لأنه لم يكن يتصور أن مجموعة ما ممن يحملون الجنسية التركية قد تفكر بتدمير تركية على هذه الطريقة.
وقيل ماقيل عن الانقلاب الفاشل، فهو يختزن في داخله مشاعر غاضبة جدا على التجربة التي تريد أن تقلع بتركية إلى مصاف الدول العظمى، وفضلا عن ذلك فهو يلبي حاجة المصالح الدولية التي تريد أن تدخل تركية في خانة الدول الإقليمية التي يراد لها أن تخضع للتجزئة والتقسيم- تماما كالذي يحدث في سورية والعراق اليوم- وذلك بإثارة النعرات العرقية والطائفية فيها، وتحويلها إلى الدولة الأكثر ضعفا، الأمر الذي قد يؤدي إلى بلقنتها، والذي قد لايلتقي عليه اثنان من المواطنين الشرفاء في تركية كلها.
وقيل ما قيل عن المصالح الدولية التي تختبئ خلفها سياسات دولية أقل مايقال عنها إنها تتصف بصفتين تعدان على درجة من الخطورة:
الصفة الأولى: المكيافيلية الحديثة: التي تأخذ بسياسة ( الغاية تبرر الوسيلة) في تعاملها مع الآخر، ولذلك فهي متقلبة، وغير صادقة، ولايمكن أن يؤمن جانبها.
والصفة الثانية: ماتختزنه بداخلها من مخططات عدوة لشعوب المنطقة بعامة, والمعروف أن المحطط الشرق أوسطي الجديد من فبركتها، وأن المشروع الصهيوني الذي يهدف إلى السيطرة على المنطقة الشرق أوسطية من صنعها، وأن كلا المخططين الصهيوني والشرق أوسطي يصدران عن تلك السياسة التي تريد بالمسلمين شرا، ولذلك عدت المصالح الدولية- كائنة ماكانت- عدوة وغير أمينة في علاقاتها، و عد من يتعامل معها- من الدول الإسلامية كمن يتعامل مع الأفعى ذات الرأسين فهو عرضة للخطر وبشكل دائم. وعدت تركية و هي الدولة الإسلامية الأهم و الأكبر في المنطقة الشرق أوسطية من أكثر الدول الإسلامية عرضة للخطر، وعدت المصالح الدولية معها مناورة ومخادعة، وغير أمينة، وتتربص بها ساعة من غفلة لتنقض عليها، ولتفعل معها فعلتها التي تعدها لها على نار هادئة!
وقد يكون الانقلاب الفاشل في تركية مؤخرا طليعة تلك السياسة الدولية التي أرادت أن تجر تركية من يدها ورجلها إلى مخططها الشرق أوسطي، وأن تفعل معها فعلتها، تماما كما فعلته مع دول الربيع العربي ابتداءً من تونس، وانتهاء بسورية، ولايزال الحبل على الغارب بالنسبة لتك الدول التي لم تحصد من ثوراتها على أنظمتها الفاسدة غير الخيبة بالرغم من حجم التضحيات التي بذلت، والطاقات التي هدرت, ولنا في سورية ومصر المثل الأكبر في هذه المسألة؛ ففي الوقت الذي وقعت فيه مصر في أسر السياسات الصهونية والأمريكية فإن الذي وقعت فيه سورية كان أكبر وأشد خطرا وقد أصبح أمر حذفها من الخريطة واردا، سيما أن تحولها إلى كانتونات عرقية ودينية هو الذي يوضع اليوم موضع التنفيذ ولم يعد مجرد كلام للاستهلاك الإعلامي.
والذي نريد أن نقوله ونحن نتموضع اليوم في قلب الحدث، والكلام موجه للأخوة الأتراك وهو من باب النصيحة يتمثل بثلاث مسائل:
المسألة الأولى: الحذر من المخططات العدوّة: المعدّة مسبقا والتي تقع تركية في دائرتها. فالمخطط الشرق أوسطي الجديد حقيقة واقعة، وقد شاركت في صنعه جهات مختصة صليبية وصهيونية وكونها صليبية وصهوينية يتطلب من الأتراك بخاصة، قراءة تاريخهم قراءة رجل الدولة الذي يعرف كيف يتصرف مع الأحداث المستجدة على ضوء المدون من التاريخ، والذي هو بمثابة الحقائق المجردة.
المسألة الثانية: الحذر من السياسات العدوّة: المعدّة مسبقا أو المستجدة. فهي كائنة ماكانت نتاج ذلك المخطط الذي يريد بالمسلمين شرا، وفي المقدمة تركية الحديثة. فكائنا ماكان من أوباما أو بوتين، أو من الاتحاد الأوربي فهو لايخرج عن ذلك المخطط ولاننسى أن الدول الإسلامية ومنذ مطلع العصر الحديث واقعة في أسر تلك السياسات التي حظرت على العالم الإسلامي الانبعاث من جديد، أو الإمساك بعصا القوة، أو التخلص من الفساد ومن تبعية القرار السياسي،أو الاستقلالية في الرأي، وهذا الذي يعرفه الخاصة والعامة.
المسألة الثالثة ( وهي الأخطر): التخلص من نشاز الرؤى الذي يعد من مخلفات العصر الوسيط أو من الرؤى الهابطة والمنحرفة التي تعد رديفا للسياسات الأجنبية التي تعمل على تدمير تركية و لقضاء على تجربتها الرائدة. فالرؤى المنحرفة هي التي قادت بشار الأسد لاستدعاء الروس من أجل تدمير سورية العربية، والقضاء على شعبها وهي التي قادته أيضا لإصدار أوامره بإلقاء البراميل المتفجرة على السكان الآمنين قصد قتلهم أو ترحيلهم، وهي التي جعلته يستقدم الميليشيات الطائفية من أجل قتل الشعب السوري وتدميره ولتكون البديل المستوطن في سورية مابعد الثورة لاسمح الله.
وماجرى في سورية يراد له أن يتكرر نموذجا وأسلوبا في تركية ومصر والسعودية وحتى في بكستان وإيران! وهو جزء من مخطط مدروس ومعد مسبقا، لنشاز الرؤى اليد الطولى فيه.
وعودا على بدء, وجوابا على سؤال: هل فشل الانقلاب حقيقة, أم نجح في جر تركية إلى حافة الصراعات المسلحة، التي يراد لها أن تقضي على التجربة الديمقراطية في تركية؟ والجواب: أن المسألة نسبية جدا، وأنه على تركية أن تتحلى بقدر كبير من الحيطة والحذر، فالمحافظة على النصر أكثر صعوبة من إحرازه، سيما إذا أخذ في الاعتبار المخططات العدوة، ومايرتبط بها من سياسات، وعملاء وأتباع، قد يكونون أشد إلباً على الوطن والمواطن، وهذا مايجب توخيه والحذر منه، سيما في هذا الوقت العصيب الذي قد يحدث فيه مالم يكن في الحسبان, والله غالب على أمره.
…………………………
رئيس وحدة الدراسات السورية – مركز أمية للبحوث والدراسات الاستراتيجية