د. عزالدين الكومي يكتب : سوريا: انتقام مهزوم أم تنفيذ لخطة قديمة؟

منذ عهد الأسد البائد، وسوريا تتعرض لاعتداءات صهيونية متكررة، بزعم قطع أذرع إيران في المنطقة. أما اليوم، فقد غدت هذه الاعتداءات أكثر وقاحة، تأتي تحت لافتة “حماية الأقليات”، بينما الهدف الحقيقي أبعد وأعمق.
اللافت أن وتيرة الغارات الصهيونية تصاعدت مؤخرًا، منذ هروب بشار الأسد إلى روسيا، فضلًا عن حالة السعار التي أصابت الكيان الصهيوني بعد عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر 2023. وكأن الكيان يسعى للتعويض عمّا خسره في الجنوب الفلسطيني باستعراض عسكري شمالًا، في محاولة لإثبات أنه لا يزال يملك قدرة على الردع.
لم يُخفِ الكيان الصهيوني انزعاجه من التطورات في سوريا بعد انهيار النظام، فراح يستبيح الأرض السورية تحت ذريعة حماية الدروز، بينما يمارس في الحقيقة سياسة ممنهجة لإضعاف سوريا واستنزافها. فهو يرى فيها خطرًا حقيقيًا، خاصة إذا استعادت عافيتها وقدراتها الاستراتيجية.
وما يمارسه الكيان الصهيوني اليوم من عربدة في الأجواء السورية لا يمكن فهمه بمعزل عن هزيمته المدوية في السابع من أكتوبر، حينما تهاوت أسطورته العسكرية، وتكشّف أن “جيشه الذي لا يُقهر” ليس إلا نمرًا من ورق. لذلك يمكن وصف هذه الغارات بأنها محاولة للهروب إلى الأمام، و”رقصة ذبيح” يسعى من خلالها الاحتلال إلى استعراض ما تبقى من هيبته، بعدما زلزلت المقاومة الفلسطينية أسسه من الداخل.
العدو اليوم لا يجرؤ على فتح جبهة برية مع لبنان، ولا يستطيع احتواء غزة، ولا يثق بعمقه الأمني في الضفة الغربية، فيتجه إلى السماء السورية لضرب “أهداف آمنة” لا تردّ غالبًا، تحقق له انتعاشًا استخباراتيًا مؤقتًا، وتُسكّن اضطرابه الداخلي.
وإذا أضفنا إلى ما سبق أن الاستراتيجية الصهيونية تجاه سوريا ليست طارئة ولا ناتجة عن لحظة سياسية عابرة، بل تعود جذورها إلى خمسينيات القرن الماضي، حين صاغ قادة الاحتلال تصورًا يرى في استقرار سوريا تهديدًا بنيويًا للمشروع الصهيوني. فكما قال موشيه ديان: “سوريا هي مفتاح الشرق الأوسط”. ولهذا، فإن ضرب سوريا ليس مجرد رد فعل، بل تنفيذ فعلي لمشروع تفكيكي، يهدف إلى تحويلها إلى دولة مشلولة، مستنزفة، منزوعـة السيادة.
هذا ما يفسّر تركيز جيش الاحتلال على استهداف محيط دمشق، ومناطق الجنوب، والمواقع الحيوية قرب المعابر، في محاولة لتجويف بنية الدولة، ومنع تموضع أي محور مقاومة على حدود فلسطين المحتلة.
وأين تركيا من كل هذا؟
في ظل هذا المشهد المعقد، يبرز سؤال بالغ الأهمية: أين تركيا من كل ما يحدث؟
تركيا التي طالما رفعت شعارات الدفاع عن الشعب السوري، وتحدثت مرارًا عن حرصها على وحدة الأراضي السورية، تبدو اليوم غائبة عن مسرح الأحداث. فهل باتت أولويات أنقرة تنحصر في مواجهة التهديدات الكردية وتأمين حدودها، دون أن تُترجم إلى موقف واضح تجاه الخروقات الصهيونية المتكررة للسيادة السورية؟
هذا الصمت التركي يثير الكثير من علامات الاستفهام حول تحالفات أنقرة الإقليمية، لا سيما في ظل ارتباطها بتفاهمات مع كل من موسكو وواشنطن، وهو ما قلّص حركتها وخياراتها في الملف السوري. ويبدو أن الكيان الصهيوني قد استشعر هذا الفراغ فبادر بشن ضربات استباقية، لمنع أي تموضع تركي محتمل في العمق السوري.
وفي الوقت الذي يتمسك فيه الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، بعقوبات جائرة مفروضة على الشعب السوري، نجد المجتمع الدولي غائبًا تمامًا عن إدانة ما يقوم به الكيان الصهيوني من اعتداءات متكررة، حوّلت سوريا إلى ساحة مفتوحة أمام هجمات الطيران، في ظل غياب ردع حقيقي، وعجز عربي رسمي عن إصدار حتى بيانات شجب جادة.
الاعتداءات الصهيونية المتكررة على سوريا، وإن بدت اليوم ممارسات روتينية في منطق القوة الغاشمة، فإنها في حقيقتها تعكس أزمة وجود يعيشها الكيان الصهيوني، مقابل أزمة هوية يعيشها النظام الدولي الذي يقف صامتًا أمام هذا العدوان الممنهج.
وإلا فكيف يتذرع الكيان بحماية الأقلية الدرزية في سوريا، بينما يُهلك الحرث والنسل في غزة والضفة؟ أليس في هذا ما يكشف زيف الادعاءات الصهيونية ومقدار نفاقها الأخلاقي والسياسي؟
لكن، رغم كل ذلك، فإن التاريخ يعلمنا أن الشعوب لا تُهزم بالغارات، وأن الخرائط تُرسم على الأرض، لا في السماء.

شاهد أيضاً

المحلل العسكري محمود جمال: تقدير موقف: ديناميات التصعيد بين إيران والعدو الصهيوني

1. الوضع الراهن: إيران صعّدت عملياتها العسكرية بصورة استراتيجية محسوبة، دون أن تدخل بعد في …