لقيته أوّلَ مرة في مؤتمر الندوة العالمية للشباب الإسلامي الذي عقد في الرياض بين يدي شهر ذي الحجة من سنة (1973م)، حيث كنت أحد أعضائه عن الإخوان المسلمين في الأردن، وقد ضم العديد من دعاة الإسلام من مختلف أنحاء العالم, ومن أبرزهم مما زلت أذكر : الدكتور الترابي نفسه وراشد الغنوشي ومحمد قطب وأنور إبراهيم والمهدي بن عبّود وعبد الكريم مطيع وعبد الحميد بن شيكو وحمد صليفيح .
وأذكر آنذاك – وكنت قد قططت من عمري إلى ذلك الحين ثلاثين حولاً – أنني كنت وما زلت لا أرتاح لكلمة القومية أو القوميين، لأنها وأصحابها كانوا في اعتقادي، وهو عندي اعتقاد راسخ، سبب بلاء هذه الأمة وجر الويلات والنكبات عليها. أجل، أذكر أننا في إحدى جولاتنا على هامش المؤتمر في أنحاء تلك البلاد، جلسنا يوماً في البرية، نفراً من أعضاء المؤتمر منهم الأخ صليفيح، في ظل شجرة لنأخذ قسطاً من الراحة. وبينما نحن كذلك راح الدكتور الترابي يتحدث عن أهمية التواصل مع القوميين في بلادنا وربط الجسور معهم، أسلوباً من أساليب تقريب وجهات النظر بيننا وبينهم .
والحقيقة أنني إزاء ما سمعت من الدكتور الترابي في هذا الشأن، وأنا الذي تملأ عليَّ الفكرة الإسلامية النقية أقطار نفسي، إضافة إلى أننا في الحركة الإسلامية ما زلنا نشعر بمرارة الألم الذي أصابنا بإعدام سيد قطب الذي تولت كِبْره الحكومات القومية، وما جلبته هذه الحكومات على الأمة من كوارث وبحق الإسلاميين خاصة، إذ بينما تدعي هي القومية العربية، يعادي أتباعُها الإسلامَ مصدر عز العرب الأول أشد المعاداة، نعم، الحقيقة أنني لم أرتح لكلام الدكتور الترابي هذا، وقد كنت أودّ أو آمل أن أسمع منه كلاماً مما يقوي إيمان المرء، ويعمق التزامه. وقد أفضيت حينها بما في نفسي للدكتور صليفيح (من السعودية) لما كنت أشعر به من كبير تصافٍ بيني وبينه .
ويبدو أن هذا النحو من التفكير بدأ يأخذ طريقه عند الدكتور الترابي بعد منتصف الستينيات من القرن الغابر، ولا سيما بعد رجوعه من فرنسا بدرجة الدكتوراه حيث طفق يسعى كما يظهر، للتخلص من الالتزام بالخط الإسلامي الصرف الذي كان عليه الإخوان المسلمون، ليوسّع الدائرة فيجمع في أتباعه حشداً من الجماهير يختلط فيهم الملتزم بغير الملتزم، إذ من المعروف أنه انتسب إلى تنظيم الإخوان المسلمين أواسط الخمسينيات الماضية وهو طالب في جامعة الخرطوم، ورأس تنظيمهم السوداني التابع آنذاك لتنظيم الإخوان في القاهرة. وبقي كذلك إلى منتصف الستينيات، إذ تذكر أدبيات الإخوان أنه كان ضمن أعضاء المكتب التنفيذي العام لتنظيمهم الدولي، في وقت كان فيه تنظيم القاهرة محظوراً، وقياداته في السجون .
وفي هذا السياق أُثِر عنه التصريح بأنه ليس من الإخوان المسلمين، ولم يكن له بهم يوماً علاقة. ولعل إنشاءه جبهة الميثاق الإسلامية سنة (1964م) التي تطورت إلى الجبهة الإسلامية القومية عام (1985م) تعبير عن هذا التوجه الجديد عنده، والذي مر فيه بظروف سياسية صعبة أدت إلى سجنه زمان حكومة النميري، ومن ثم خروجه من السجن والتصالح معه، وإعلان تطبيق الشريعة الإسلامية بالقوة، وإن لم يصمد ذلك إلا قليلاً ، ليقوم هو بثورة على حكومة المهدي مع عسكر عمر حسن البشير ثم اختلافه معه وتشكيل حزب المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي عام (1991م) الذي كان أمينه .
ويبدو كذلك أن نضال الترابي الفكري وسجنه عدة مرات، وإشهاره الاتفاق مع النميري وإعلان فرض الشريعة الإسلامية على الشعب السوداني، ومن ثم قيامه مع بعض الضباط في الجيش بالانقلاب العسكري سنة (1989م) ، وتحلله من التنظيم الإخواني الذي صوره ومعه آخرون عائقاً عن التغلغل في أوساط الجماهير وكسب شعبيتها، ومن ثم استلام دفة الحكم، وذلك في عقد الثمانينيات الماضية . كل ذلك جعل منه شخصية ذات (كاريزما) لافته في أوساط العاملين للإسلام. هذا إلى مطالبته بالحكم وسعيه الحثيث إليه بأية وسيلة، مما دفع الكثيرين ممن ينتمون للحركة الإسلامية أو يتعاطفون معها للمطالبة بالترابي قائداً عالمياً لها، ومنها تنظيم الإخوان، حتى قال بعضهم عندنا في الأردن يوماً: (حسن الترابي صنو حسن البنا فبايعوه).
ولم تكن هذه النغمة السارية آتية من فراغ، فإن الترابي نفسه كان يطالب بانتقال مركز حركة الدعوة الإخوانية من القاهرة إلى عاصمة عربية أخرى، بل طالب يوماً بأن يكون رئيس هذه الحركة، فيتسلم مقود إرشادها، ولا سيما بعد موت مرشدها العام الأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله . والحقيقة أن هذه القفزات غير المحسوبة جيداً في العمل للإسلام عند الترابي لم تكن بعيدة عن الاعتداد الشخصي عند الرجل، إضافة إلى رغبته الجامحة في الزعامة والتصدر، إلى تسرعٍ في قطف ثمار العمل الإسلامي، والتخلي عن التنظيميّ منه، وخاصة إذا انطلق من مصر، التي كان كما يبدو يحمل تُجاهها عصبية إقليمية. ولعل كلاماً بهذا المعنى قد نقل عنه .
ورب قائل يقول: وما الداعي إلى هذا الكلام، والرجل كما جاء في عنوان المقال: أفضى إلى ما قدّم، وقد جاء في الأحاديث المشهورة: (اذكروا محاسن موتاكم) فلماذا هذا النبش في الرفات؟ فأقول: ابتداءً، إن ما يؤثر من حديث في هذا المعنى غير صحيح. ثم لو كان صحيحاً لما كتب تاريخ ولما كان هناك نقد وتصحيح أو جرح وتعديل في الحياة البشرية ومنها الإسلامية. ومن بعدُ فإن الرجل مر بأطوار غريبة، وصدر عنه آراء واجتهادات فيها من الشطح، بل من الانحراف ما فيها. ولعل في كلمة زميله وزميلنا الأستاذ راشد الغنوشي رئيس حزب النهضة في تونس في لقاء له على الحزيرة قبل يومين، ما يدعو إلى المقال في حياة هذه الشخصية الجدلية وتراثها، إذ قال: إن إرثه بين أيدي الناظرين، فليقولوا فيه ما شاؤوا، وأقول: بالحق تعزيزاً أو تخطئه فكل إنسان يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا النبي عليه الصلاة والسلام.