خطورة الواقع التركى في ظل هيمنة المؤسسة العسكرية
مدار الاجتهاد في مسألة التعديلات الدستورية, هو تحقيق المصلحة ودرء المفسدة في ظل المخاطر التى تتهدد الدولة، ولا يخفي على ذى عينين خطورة ما أقدم عليه المتربصون بالتجربة الديمقراطية التركية الوليدة في الداخل والخارج، والذين أرادوا الانقلاب على الحزب الحاكم ورئيسه، وهو يمارس الديمقراطية، والصلاحيات في يده محدودة، ويده مغلولة، ولولا ألطاف الله لكانت تركيا اليوم إحدى جمهوريات الموز، ولكان كل قيادات الدولة المنتخبين من الشعب معلقين على أعواد المشانق، وكذا الآلاف من المؤيدين لهم مثلما حدث في انقلاب عام 60 على الرئيس عدنان مندريس، ومثلما يحدث مع كل انقلاب عسكرى دموي على إرادة الشعوب.
ولو حدث ذلك – لا قدر الله – لكان للكثيرين الغيورين على التجربة الديمقراطية الناشئة في تركيا، والذين يأخذون على الحزب الحاكم اليوم رغبته في الانتقال إلى النظام الرئاسى خوفا من التفرد بالسلطة، لكان لهم أن يعيبوا عليه عدم توقعه لهذا الانقلاب، ولاتهموه بالغفلة والسذاجة كما اتهموا رئيس مصر وحزبه من قبل، ولبدت عليهم أمارات السخط في هيئة سؤال متكرر: لماذا لم يأخذوا حذرهم؟ وحين يأخذون حذرهم، بمثل هذه التعديلات الدستورية والتى لن تقر إلا بإرادة الشعب التركي، نعود فنقول: هذا خروج عن النظام البرلماني، وكأن النظام البرلمانى صنم مقدس يُعبد من دون الله .
الوسائل لها حكم المقاصد
لا يغيب عن بال أحد وهو ينظر هذه القضية, رفضا أو قبولا، استحسانا أو استهجانا، أن يضع الواقع نصب عينيه، فليس النظام البرلمانى هو الأولى بإطلاق وليس النظام الرئاسي هو المقدم بإطلاق، بل قد يكون النظام البرلمانى مناسبا في بلاد تتعدد فيها الأعراق والأديان والأحزاب، وتتجاذبها الاختلافات، وتتوزعها المصالح والأهواء، وقد يكون النظام الرئاسى مناسبا في بلاد استقرت فيها الديمقراطيات، واستحدثت وسائل لتقليم أظافر الحكام، ونظمت فيها القوانين والأوضاع بحيث تكون كلمة الشعوب هي القول الفصل والحكم العدل في أى خلاف أو خروج عن القوانين.
وقد يكون النظام الرئاسي – أيضا – مناسبا في مرحلة ما بهدف إقرار الحريات وتعظيم إرادة الشعوب المغلوبة، وتصحيح الأوضاع الخاطئة السابقة، وفك القيد ورفع التكبيل المقيد ليد الحاكم المنتخب شعبيا من اتخاذ إجراءات وقرارات تصحيحية تعيد الأمور لنصابها الطبيعي، وتفكيك الألغام التي زرعتها أيدى الحكام السابقين أعداء الشعوب من خلال مواد دستورية مفخخة تحول – باستمرارها – دون أي إصلاح أو تقدم أو إنجاز أو جر منفعة ودفع مضرة.
ولذلك قعّد علماؤنا قاعدة عظيمة في هذا الصدد وهى أن الوسائل لها حكم المقاصد، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل، والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل، كما قال العز بن عبد السلام، وقعدوا كذلك قواعد منها أن “الأمور بمقاصدها”، وأنه ” ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب” ، ” وما لا يتم الجائز إلا به فهو جائز”.
ومن ثم ينبغي النظر إلى الواقع والهدف من تغييره وفق رؤية مقاصدية تنشد تحقيق العدل والحرية والمصلحة العامة وإزاحة المفاسد من الطريق، وإزالة العوائق من طريق الحياة السياسية، ووفق القاعدة الكبيرة التى تقول لا بد في أحكامنا من مراعاة مقاصد الحق ومصالح الخلق.
فقد يكون الخروج على النظام البرلماني الذي يعد أنسب أنظمة الحكم المعاصرة والذى استحسنه كثير من الساسة والمحللين – وإن كانت له عيوبه – قد يكون الخروج عنه هو المحقق للمصلحة في بلد ما، وزمن ما، وقد يكون الالتزام به هو نقيض المصلحة في الحالة التركية الراهنة. وكما هو مقرر لدى الأصولين أن الفتوى تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والنيات والعوائد والأشخاص، وقرروا أيضا أنه لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان.
ولهذا اعتبر مركز صناعة الفكر للدراسات والأبحاث في دراسة جديدة له نشرت بتاريخ 12مارس 2017 أن الهدف من حزمة التعديلات الدستورية الأخيرة في تركيا ليس تغيير النظام البرلماني إلى رئاسي فحسب؛ بل إنها معركة مفصلية قد تسدل الستار على حقبة زمنية طويلة من تاريخ الصراع مع المؤسسة العسكرية؛ وذلك بإلغاء محكمة الاستئناف العسكرية والمحاكم العسكرية الإدارية العليا، وتحويل جميع القضايا العسكرية إلى محاكم مدنية استئنافية.
وما أراه أن التحول الحالي من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي في الحالة التركية حال تمت الموافقة على التعديلات الدستورية إنما هو في حقيقة الأمر تحول نحو انتصار إرادة الشعب على إرادة المؤسسة العسكرية، والخروج عن هيمنة المؤسسة العسكرية إلى إقرار دولة الحريات، وإقامة دولة القانون.
الواقع التركي والنظام البرلماني
كما لا يغيب عن عقل الباحث في هذه القضية تجربة الأتراك مع الحكومات الائتلافية في ظل النظام البرلماني القائم حاليا، وهى تجربة مريرة حافلة بالصراع السياسي والإخفاقات الاقتصادية، ومن هنا جاء شعار: “وداعاً للحكومات الائتلافية” ضمن حملة مؤيدي التعديلات الدستورية، لأن الحكومة التي سيشكلها الرئيس ستكون أطول عمراً؛ لأنه لا يحق للبرلمان أو الأحزاب إسقاطها أو اختيار أعضائها، كما تذهب إلى ذلك بعض التحليلات.
فضلا عن الواقع المزري لأحزاب المعارضة وعلى رأسها الحزب الجمهوري؛ أبرز الأحزاب المعارضة، الذى وُصف بأنه يعارض من أجل المعارضة، وأصبحت معارضته من باب المناكفات السياسية التى تعرقل المسار الإصلاحي، ولا ترقى لطموح الشعب، ولا تقف على همومه وآلامه وآماله.
كما لا يخفي على الشعب التركي حساسية الوضع في محيط تركيا، وإدراكه للمخاطر التى تتهدد تركيا خاصة الاقتصادية، وسعي بعض القوى الدولية لتحجيم دورها، لا سيما بعد تراجع الليرة التركية أمام الدولار الأمريكي في الآونة الأخيرة، فضلاً عن ضلوع الولايات المتحدة في محاولة الانقلاب الفاشلة, كما جاء في إحدى الدراسات البحثية.
وهذا بطبيعة الحال ينبغى أن يدفع الأتراك إلى البحث عن سلطة قوية، قادرة على التعامل مع أخطار بهذا الحجم، والوقوف في وجه التحديات الأمنية والاقتصادية، بصرف النظر عن المثالية الديمقراطية، كما يرى بعض المحللين .