دارت مناقشات علمية حول مسألة فقهية مستجدة، أثارها الواقع، وقذف بها إلى ساحة الديوان الفقهى، عقب المحاولة الفاشلة للانقلاب العسكرى التركى الأخير، حين رفضت جماهير الشعب دفن جثث القتلى, المنقلبين العسكريين على إرادة الشعب, فى المقابر العامة هناك، مما اقتضى تخصيص مقبرة لهم.
ورأى البعض أن هذا الصنيع مخالف لهدى النبى صلى الله عليه وسلم، حيث لم يخصص مقبرة للمنافقين، وترك دفنهم فى مقابر المسلمين.
كما أن سيدنا علي فى حربه مع الخوارج لم يفعل معهم ذلك.
كما أن وضعهم فى مقبرة خاصة فيه إيذاء لأهلهم كما روى أحمد بسنده عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا تسبوا الأموات، فتؤذوا الأحياء”. ووضعهم قي مقابر خاصة أشد أذي لأهلهم من سبهم.
ورأى البعض الآخر أن تخصيص مقبرة لهم، فيه عبرة وعظة لمن يراها، حتى يكونوا لمن بعدهم عبرة، ولمن خلفهم آية، وهذا زجر للأحياء الذين قد تراودهم أحلامهم بالسير على خطى أسلافهم، فى بلدٍ يتربص فيه الانقلابيون بمن جاء بهم الشعب، كما تتربص الذئاب الجائعة بفريستها.
وقبل مناقشة الموضوع أريد أن أذكّر بقاعدة، كما أريد أن أحدد نسبة المسألة إلى أبواب التشريع الإسلامي.
أما القاعدة العامة فهى الصلاة على العصاة والمنافقين من أهل القبلة، وهذا أمر مفروغ منه حتى لا يلتبس الأمر على البعض، كما قال أبو الحسن الأشعرى فى “الإبانة عن أصول الديانة”، والماتريدى فى كتاب “التوحيد”: إننا ندين بالصلاة على جميع من مات من أهل القبلة، بَرهم وفاجرهم، المرجوم، والزاني، والذي يقتل نفسه، والسكران وغيره.
ونحن لا نتحدث هنا عن الصلاة على الخائنين لأوطانهم، القتلة لشعوبهم من الانقلابيين من أهل القبلة، ولا على المنافقين الذين يظهرون الإسلام، إنما حديثنا عن تخصيص مقبرة لهم بعد جريمتهم البشعة، وفعلتهم المشينة، فى حق شعبهم، وخيانتهم للأمانة التى حُملوا إياها، ليكونوا عبرة لمن يعتبر، وتكون رسالة للاحقين من بعدهم .
وأما تحرير نسبة القضية: فهل كل من عُلمت خيانته للأمة، ممن عُلم إسلامه ظاهرا؛ لا بد وأن يُقبر فى مقابر المسلمين العامة؟ أم أن الأمر قابل للاجتهاد إذا اقتصت المصلحة غير ذلك؟
وفى ضوء ما سبق هل تنسب المسألة إلى قضايا التوقيف أو المسائل القطعية التى لا يجوز الاجتهاد فيها؟ أم أن للاجتهاد فيها نصيبا حسبما تقتضى المصلحة الشرعية؟ وإذا كانت المسألة قطعية فى نظر البعض؛ فما الدليل على القطعية؟
أما كون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخصص مقبرة للمنافقين، فلأن المنافقين يُعاملون معاملة المسلمين فى الظاهر، طبقا لقاعدة أهل السنة المتفق عليها، وهى أن الأحكام فى الدنيا تجرى على الظاهر والله يتولى السرائر.
ولكن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدل على أكثر من الإباحة لدى جمهور الأصوليين، وعدم فعله لا يدل على المنع، فإذا لم يفعل، ولم يخصص مقبرة للمنافقين فليس معنى ذلك أنه لا يجوز تخصيص مقبرة لمن عُلمت خيانتهم لأوطانهم فى جريمة كبرى مثل التى نحن بصددها إذا اقتضت المصلحة ذلك، وكذلك ليس معنى تخصيص مقبرة لهم فى ضوء الواقعة التى نتحدث عنها أنهم خرجوا من الملة، أو أنهم غير مسلمين.
أما الاستشهاد بحديث النهي عن سب الأموات حتى لا نؤذي الأحياء، فليس السب منهيًا عنه بإطلاق، وليس عدم إيذاء الأحياء بسب الأموات مرعيًا فى كل الأحوال, وإذا كان تخصيص مقبرة لهم فيه إيذاء لأهلهم وفق النص؛ فإن المصلحة تخصص النص لدى بعض الأصوليين منهم: مالك وابن القيم وغيرهم.
وقد بوب البخارى فى صحيحه بابا ترجم له بـ ” باب ما ينهى من سب الأموات”, وأورد حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا” .
وظاهر قوله: “لا تسبوا الأموات ” النهي عن سب الأموات على العموم، ولكن هذا العموم مخصص بحديث أَنس، كما أوضح ابن حجر فى فتح الباري، وبدر الدين العيني الحنفي فى عمدة القاري أن (لفظ الترجمة يشعر بانقسام السب إلى منهي وغير منهي، ولفظ الخبر مضمونه النهي عن السب مطلقا، والجواب أن عمومه مخصوص بحديث أنس حيث قال صلى الله عليه وسلم عند ثنائهم بالخير وبالشر “وجبت” و”أنتم شهداء الله في الأرض” ولم ينكر عليهم.
وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، كما رواه البخارى قال: مروا بجنازة، فأثنوا عليها خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “وجبت” ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا، فقال: “وجبت” فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: “هذا أثنيتم عليه خيرا، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض” .
وقال العيني فى عمدة القاري:إنما يثني بالشر إما في حق الفاسق أو المنافق أو الكافر.. ولا أعلم شرا ممن انقلبوا على إرادة شعب، وأراقوا الدماء المعصومة.
وقال ابن بطال فى شرحه لصحيح البخارى: حديث أنس هذا يجري مجرى الغيبة فى الأحياء، فإن كان الرجل أغلب أحواله الخير، وقد تكون منه الفلتة، فالاغتياب له محرم، وإن كان فاسقًا معلنًا فلا غيبة فيه. فكذلك الميت إذا كان أغلب أحواله الخير لم يجز ذكر ما فيه من شر ولا سبه به، وإن كان أغلب أحواله الشر فيباح ذكره منه، وليس ذلك مما نهى عنه من سب الأموات، ويؤيد ذلك ما أجمع عليه أهل العلم من ذكر الكذابين وتجريح المجرَّحين.
والذين اعترضوا على تخصيص مقبرة لهؤلاء القتلة الانقلابيين، حفاظا على مشاعر ذويهم من الأذى، أغفلوا مشاعر الملايين التى رفضت أن يدفنوا فى المقابر العامة بعد جريمتهم، كما أغفلوا مشاعر المئات من عائلات الشهداء والجرحى الذين قتلوا وأصيبوا ظلما، ولم تجف دماؤهم بعد .
وأعدل ما يقال فى المسألة إنها مما تختلف الأنظار فيها، ولا إنكار فى المختلف فيه كما هو معلوم لدى الأصوليين.
كما أن الذين تُقام عليهم العقوبات فى الإسلام مثل المحاربين والبغاة والقتلة والسارقين والزناة لا شك أن أهلهم يتأذون بذلك، ولكن تتوارى المصلحة الخاصة أمام المصلحة العامة للمجتمع والدولة، فتتوارى المصلحة الصغرى فى حالتنا وهى مراعاة مشاعر أهلهم وذويهم أمام المصلحة الكبرى، وهى استقرار حالة المجتمع والدولة، واستئصال شأفة الانقلابات، التى قضت على آمال الشعب التركى وكرامته، وأسالت دماءه، وملأت مقابره بجماجم الأبرياء الذين جاء بهم الشعب ليمثلوه .
كما يعد تخصيص مقبرة لهم وسيلة، والوسائل لها حكم المقاصد كما يقول الأصوليون؛ لأن فيها إرسال رسالة تهديد ووعيد لزجر الأحياء الذين يفكرون بالسير على طريقة سلفهم، فى بلد عرف عنه الانقلابات العسكرية، التي جلبت على أهله الويلات، وذلك حفاظا على حريات الناس وأمنهم، وصونا للنفس التى حرم الله أن تقتل إلا بالحق، وهى إحدى الكليات الخمس التى جاءت كل الشرائع السماوية بالحفاظ عليها وصيانتها، والتى عادة ما تنتهك حرمتها مع كل انقلاب.
وهذه هى نفس العلة التى من أجلها جاء التشريع القرآنى بتوجيه أولى الأمر بالإعلان فى إقامة عقوبة البكر الزاني بأن يشهدها طائفة من المؤمنين: “وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين” (النور 2) قال القشيرى فى تفسيره ” لطائف الإشارات ” فى الحكمة من شهود الطائفة للعذاب: ليكون عليهم أشدّ، وليكون تخويفا لمتعاطي ذلك الفعل.
فجلد البكر الزاني عقوبة له على فعله، والإعلان بالعقوبة وشهود طائفة من المؤمنين لها فيه رسالة زجر للأحياء يتناقلونها بين الناس حتى لا يفكروا فى الاعتداء على حرمات الغير؛ فيلقوا نفس المصير.
ولعل هذا يوضح مفاهيم فى إدارة الدولة، غير تلك التى تربى عليها من شُغلوا بإدارة الدعوة.
وإذا جاز تخصيص مقبرة للشهداء الذين قضوا فى مقارعة الغزاة والأعداء دفاعا عن الأوطان فى بلاد المسلمين – تكريما – بلا نكير من العلماء، فإن تخصيص مقبرة للخائنين لأوطانهم وشعوبهم لإتيانهم جرائم ظاهرة, للعبرة والعظة وردع المتآمرين فى كل زمان ومكان أولى بعدم الإنكار .
ولا زالت مقبرة شهداء “أُحُد” شاهدةً على جواز مسألة التخصيص حتى وإن كان الأمر الواقع اقتضى دفنهم حيث استشهدوا وقت استشهادهم، إلا أن التخصيص لازمهم فيما بعد بلا نكير، وإن سمح أولو الأمر بدفن بعض أولى العلم والفضل معهم – تكريما – ممن أسدوا للإسلام والمسلمين معروفا وماتوا على ذلك.
وفى ضوء ما سبق فإن الصواب الذى بدا لي أن القضية اجتهادية، وتدخل فى باب السياسة الشرعية، وليس ثم نص ( قطعي أو ظني) صحيح, صريح الدلالة, يفصل فى المسألة، ويبقى مدار الاجتهاد فيها هو تحقيق المصلحة ودرء المفسدة، أو تحقيق مصلحة أكبر مع احتمال مضرة أصغر مقارنة بالمصلحة المتحققة وهى ردع الأحياء .
والذى نخلص إليه هو جواز الأمر من الناحية الفقهية والأصولية، ويبقى تقدير تطبيقه وتنفيذه على أرض الواقع موكولا لأهل كل مكان وزمان، بحسب ما يتراءى لهم من تحقيق المصلحة ودرء المفسدة ، أو تحقيق مصلحة كبيرة ولكنها متلبسة بمفسدة قليلة لا تنفك عنها ، وكذلك بما يجره ذلك من نفع أو يدفعه من ضر.