رضا حمودة يكتب :كيف رد الإمام النووي على دعوة التبرع لصندوق تحيا مصر؟!

عند ذكر الحديث عن مطالبة المصريين بالتبرع للوطن عبر مبادرات وحملاتٍ, الغرض منها تفريغ جيوب المصريين من الأموال لسد العجز في الموازنة العامة الخاوية، حتى وصلنا إلى فكرة مشروع ” الفكة ” الاستراتيجي بدعوى المساهمة في المشروعات القومية، عندها, ينبري شيوخ السلطان في تسويغ تلك الدعوات شرعاً، وتيريرها فقهياً، فيما تُرتكب كل الموبقات باسم الدين إرضاءً للحاكم, إما خوفاً أو طمعاً أو كلاهما معاً، ذلك أن ثمة توافقًا تاما وتواطؤا مريبًا بين الحاكم وشيوخه الخانعين المنبطحين, على مصالح العباد حتى لو خربت البلاد، فيصير الحلال حراماً والحرام حلالاً، والتبرير الظاهري الخادع لتلك الاجراءات، هو حماية البلاد من مصير الفوضى، وإتقاء مغبة الفتن ما ظهر منها وما بطن، فضلاً عن طاعة ولي الأمر الذي هو من طاعة الله ورسوله.

عندما ينهب رجال الحاكم المالَ العام، تجد من يسارع بتبرير ذلك النهب من شيوخ السلطان بأنه حالة فردية سيقف لها الرئيس بالمرصاد، وعندما يطلب من الشعب التبرع، أو يفرض عليهم الضرائب ويقهرهم بالجباية، نجد من يُحلل تلك الاجراءات العظيمة على أنها واجب وطني وشرعي، وتعد علامة من علامات الوطنية، وإحدى فضائل الإيمان(وكله بالكتاب والسنة)، ومن يرفض اجراءات الرئيس، مشكوك في دينه ووطنيته!

أما في زمن سلاطين العلماء الشوامخ أمثال العز بن عبد السلام ومحيي الدين النووي وغيرهما، فشتان ما بين الثرى والثريا، فقد أجمع المؤرخون على تأييد أحداث مشرفة في تاريخنا المجيد للإمام النووي في زمن السلطان المملوكي, صاحب التاريخ العسكري والاصلاحي والتنموي المبهر ” الظاهر بيبرس “, عندما تصدي له وهو في ذروة قوته وانتصاراته عندما استحل أموال الناس من التجار والشعب فأطلق يد رجاله وأعوانه من العسكر يغصبون ويسلبون ما تتلقفه أيديهم دون مراعاة لوجه العدالة، واشتد في جمع الضرائب والمكوس بحجة أن الدولة تتهددها الأعداء من كل جانب، وتتهيأ للحروب التي تتطلب السلاح والعتاد.

ذلك أن الضرائب في الإسلام حق إذا حُددت بقدر، وقُيدت بزمن، أما إذا كانت عملاً مستمراً لا تحديد معه في قدر أو زمن فهي نهب صريح، فالسلطان يقيم المشروعات ويعطي الهبات ويعيش أتباعه في بذخ مفرط، ولابد من فرض الضرائب دائماً، فاستفتى بعض العلماء في ذلك بحجة أنه ذاهب إلى نصرة الإسلام منتهزاً في ذلك خروجه لتأديب بعض العصاة، ومحاربة من أغاروا على أطراف الدولة من الأعداء، فأجابوه, إلا العالم التقي الشاب “النووي”.

فما كان من السلطان “بيبرس” إلا أن عقد اجتماعاً عاجلاً لأصحاب الرأي والوجاهة من الأمراء والقضاة ليناقش “النووي” في امتناعه، ليُظهره في صورة مثبط العزائم والمُخذّل عن قتال الأعداء، ومجالدة الكفار كما يقول الشيخ الراحل د.محمد رجب البيومي، وانعقد الجمع الحاشد وصاح السلطان بالشيخ: لماذا لا تُجيز أن تُجمع الأموال من المسلمين، لننفقها في الجهاد كما أجاز ذلك زملاؤك الأئمة والقضاة؟!

فدهش السلطان حين سمع ” النووي” يقول في عزةٍ وإباء: كلنا نعرف أن لديك ألف مملوك، كل مملوك له حياصة (سير طويل يُشد به حزام الدابة) من ذهب، وعندك مائتا جارية، لكل جارية نصيب من الحُلِيّ، فإذا أنفقت ذلك كله وبقيت مماليكك بالبنود(وشاح) الصوف بدلاً من الحوائص، وبقيت الجواري بثيابهن دون الحُلِيّ، فهنا- فقط- أجيز لك أخذ المال من الناس.

فصرخ السلطان الظاهر في انفعال: اخرج من بلدي، إذ لا يجوز أن تساكنني في دمشق. فقال النووي: وما أدراك أني سأقبل المقام لديك، لابد من الرحيل ثم انسحب من المجلس فسار وراءه نفر من العلماء، ووجم السلطان حين نظر قوماً يسيرون مع الشيخ، فتذكر العز بن عبد السلام، وآثر الانقياد.

نستخلص من الرواية السابقة درساً يبين لنا كيف يكون العالم العامل الفقيه, الورع بحق, المستقل عن الهوى وعن الحاكم، وكيف تدرج الإمام ” النووي” بفطنة العالم في إجازة فرض الضرائب والجباية والمكوس على الناس بعد البدء أولاً بأموال ولي الأمر ورجاله والأمراء، ثم النظر في ما في أيدي الناس، إذ إنه ليس من المقبول أو المعقول قهر العباد بالضرائب ودغدغة مشاعرهم بضرورة التبرع للوطن تحت مسمى (تحيا مصر) مثلاً، حتى لو كان بحجة الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن حدود الدولة، في الوقت الذي يرفل فيه الحاكم ورجاله ووزراؤه وجنرالاته وقضاته وأذرعه الاعلامية في النعيم والرخاء من قوت وأموال الشعب الذي يرهقون كاهله بمزيد من الأعباء، بينما يُترك اللصوص والمحتكرون طلقاء، ويعيش الحاكم على التسول من الخارج والتبرع من الداخل.

شاهد أيضاً

محمد نعيم يكتب : العد العكسي لانفجار اجتماعي.. وربما سياسي

في مصر، يبدأ أي مسار جدي نحو احتمالية إجراء انتخابات رئاسية نزيهة وتنافسية بأن يُعلن …