كثير من الأصدقاء والمحبين يقولون: وماهي فائدة الكلام؟ إنه كلام فقط, وإذا كان الأمر غير مجدٍ, ولن يتغير شئ فالسكوت أفضل, كما أن خسارة الكلام فادحة بالمقارنة بالسكوت. أليس من الحكمة السكوت؟ وماذا يضير المجرم أو الظالم من الكلمة وما عساها أن تفعل الكلمة أمام السلاح والدبابات؟
ولكن غاب عن الأحبة أن للكلمة سرا وسحرا. لاحظ قوله صلى الله عليه وسلم « إن من البيان لسحرًا » رواه الإمام البخاري في ”صحيحه” من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والكلمة سر من أسرار الحياة فالقرآن بدأ بكلمة وهي كلمة “إقرأ”, وأذكر أن الدكتور زكي نجيب محمود – مع تحفظنا على وجهة نظره الفلسفية في أمور كثيرة, وهو من كان على نهجه حسن حنفي ومراد وهبه وغيرهما- لكن وكما قال صلى الله عليه وسلم: الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها. من هنا نستشهد بما ذكر في مقاله في الأهرام في مطلع التسعينات أن القرآن بدأ بكلمة واحدة وهي كلمة إقر,أ وفي كلمة إقرأ, وهي فعل أمر, سر عجيب لأنك لو رجعت بكلمة إقرأ إلى ماضيها حتى تعلم مصدرها وأصلها وفلسفتها لوجدت الفعل “قرأ” ثلاثة حروف, ولو حاولت تبديل أماكن الحروف صنعت لك ثلاث كلمات بثلاثة أفعال: أرق وقرأ وأقر, فإذا جاء حرف الألف أولاً ثم الراء ثم القاف كانت الكلمة الأولى أرق وهى حالة تصيب الإنسان إذا شغلته فكرة أو أصابه هم.
وإذا كانت القاف أولا ثم الراء كانت قرأ فإذا المهموم وضع همه في القراءة والمعرفة وخرج من حالة الهم والأرق وتحصل على أسرع مفتاح لمعضلته ووصل أسرع من غيره إلى الفكرة التي كان يبحث عنها, وزال الهم الذي كان سبباً في الأرق, وهدأت سريرته لأنه علم أين هو وماذا عليه أن يفعل.
وإذا كانت الألف أولاً ثم القاف فالراء, كانت الكلمة أقر أي أنه بعد أن كان في حالة من الأرق بسبب الهم والبحث عن فكرة وجد هذه الفكرة في القراءة والمعرفة فوصل إلى قرار.
فكر عميق جدير بالاحترام, اتفقت معه أو اختلفت. رحم الله الدكتور زكي نجيب محمود.
وسبحان الله لاحظت أن من يبحث عن شئ يؤرقه ويشغله بالقراءة أفضل كثيرا من الذي يبحث عنه ويده فوق خده, فالأول في حالة من التسلية والآخر قد تصيبه عشوائية الأفكار بالأمراض والجلطات دون أن يصل إلى شئ.. سر عجيب في الكلمة وقراءتها.
فلاتستهن أخي بالكلمة, فمن كان يظن أن الكون سيتغير بعد حالة الجمود والهم والأرق التي أصابته قبل أن ينزل القرآن بكلمة إقرأ؟ قد تقول إن الكلمة وحدها لاتكفي مع الظلم والظالمين ولكم لابد معها من عمل. أي نعم ولكنك قلت “معها” أي لابد من الكلمة أولاً التي تنير بها الطريق.
لا تستهن بالكلمة.. فمن الكلم ما تفتح به قلوبا غلفاً وتتفتح له أذان صم؛ فعيسى نبي الله كلمة, والزواج كلمة, والطلاق كلمة, والعتق كلمة, والحق كلمة, والباطل كلمة, والنور كلمة, والظلام كلمة, والإيمان كلمة, والكفر كلمة .
والكلمة تجرح وتداوي, الكلمة ترفع المعنويات ومنها ما يحبط.
الكلمة جعلها الله سببا لدخول الجنة أو سببا لدخول النار, قال تعالى في سورة إبراهيم ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:24-27]
وفي بعض الأحاديث الشريفة: (الكلمة الطيبة صدقة), [أخرجه مسلم وابن خزيمة في صحيحه عن أبي هريرة]
و(إن الرجل ليتكلم بالكلمة – من رضوان الله تعالى-, يرقى بها إلى أعلى عليين, وإن الرجل ليتكلم بالكلمة – من سخط الله تعالى-, يهوي بها إلى أسفل سافلين)
ويقول العالم الدكتور محمد راتب النابلسي إنه [ورد في الأثر]: البطولة أن تعد كلامك من عملك, فالكلمة الطيبة صدقة, والكلمة الخبيثة يهوي بها الإنسان إلى أسفل سافلين.
بطولة الإنسان أن يعد كلامه من عمله: أحياناً الإنسان يدخل إلى بيت صغير جداً, يتكلم كلاماً فيه ازدراء لهذا البيت, وتكون الزوجة على وفاق مع زوجها, وهناك مودة, ووئام, ومحبة, لكن هذا التعليق على هذا البيت الصغير أزعج الزوجة, فلما جاء زوجها, تجهمت في وجهه, وانقلب البيت من بيت فيه سعادة إلى بيت فيه خصام, كلمة تكلمها.
ومجالس الذكر أعلى المجالس قدرًا عند الله، وأجلها مكانة عنده.
الكلمة الطيبة صدقة, ترقى بها إلى أعلى عليين, والكلمة الخبيثة إساءة كبيرة جداً, يهوي بها إلى أسفل سافلين: “إن الرجل ليتكلم بالكلمة – من سخط الله تعالى-, يهوي بها إلى أسفل سافلين”
ويصور الشاعر هاني سرور سر الكلمة:
قبرتي .. لا يعلو شيء فوق الكلمة
كانت منذ كان الإنسان
كانت أول..كانت أعظم ثورة
كانت تعلو منذ البدء على الأسوار
تسخر من كل الحراس
تخرج مثل شعاع الفجر وهو نوام
أو ” كمحمد”..
ليلة شاءوا يا قبرتي قتله
ثم أفاقوا .. حاروا “أين الكلمة”؟
خرجت تمشي بين الناس الدعوة
وكسقراط..
شرب السم ولكن عاشت منه الكلمة
“اعرف نفسك”
وكأخنانون
قد أكلته النار ولكن..
عاشت رغم النار الكلمة..
أبدا لم يحرقها الكهنة
ومشت بين الناس “سلام يأتون!”
وبعد .. هل للكلمة ان تشنق؟
هل للكلمة ان تسرق؟
الكلمة تصرخ..تصرخ..وتمرق!
ماتت واحدة ..وتكاثرت أخرى..
كلمات..خلف كلمات..هل للكلمة ان تشنق؟
هل للكلمة ان تسرق؟!
ماتت كلمة.. عاشت كلمة…
للكلمة سر عجيب, لأنه بحضور الكلمة وأصحابها يرتفع الوعي لدى الشعوب وترتفع معه دولها, وبغياب الكلمة وغياب أصحابها تغيب الشعوب بغياب وعيها, بتغيب أوطانها في سرداب التاريخ. أسالك وبالله عليك لو لم تكن الكلمة قوية, لو لم تكن الكلمة مرعبة ومخيفة للمجرمين والظالمين والطغاة ومؤيديهم, فلماذا كان يحاول صناديد قريش الحؤول بينها وبين الناس بالتصفيق تارة, والتحليق تارة, والتشويش؟ ألم تقرأ قوله تعالى في سورة الانعام “وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ” (26). ولو كانت الكلمة ضعيفة كما تظن لما صنعوا بين صاحبها وبين الناس حاجزا وهو محبوس في قفصه ودعني أقول لك إن الكلمة لو كانت بإخلاص وصدق فمن الممكن أن تنزل بك منازل الشهداء بل منازل سيد الشهداء كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله. رواه الحاكم – وصححه – والخطيب، وصححه الألباني.