ضمان حماية .. لماذا خالف السيسي تعهداته لصندوق النقد ووسع بيزنس العسكر؟

وضع صندوق النقد الدولي في 10 يناير/ كانون الثاني 2023 شرطا أساسيا لحصول مصر على قرضه الأخير الذي بلغت قيمته 3 مليار دولار، وهو تقليص سيطرة الجيش على المشاريع الاقتصادية.

لكن في 23 يناير 2023، صدر أول قرار جمهوري بعد الحصول على القرض بتخصيص قرابة أربعة آلاف كيلومتر من أراضي مصر بعمق 2 كيلومتر على جانبي 31 طريقا رئيسا للجيش، بحسب موقع “الاستقلال”.

وبعده بيومين استولي الجيش أيضا، عبر وزارة الإنتاج الحربي ومعه تحالف شركات موالية للجيش والإمارات، على حديقتي الحيوانات والأورمان الشهيرتين بالقاهرة، بقرار جمهوري أيضا بدعوى “تطويرها”، وفق ما صدر بالجريدة الرسمية في 25 يناير 2023.

ويرى مراقبون أن استمرار رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي، في تعميق سيطرة جنرالات الجيش على الأعمال التجارية، مرتبط بمعادلة تتعلق بتوفير الجنرالات الحماية له للبقاء في الحكم، مقابل سيطرتهم هم على الاقتصاد.

فيما يرجع فريق آخر هذا النهج لعدم ثقة السيسي في أن تحل خطة صندوق النقد، أزمة الاقتصاد المتفاقمة، خاصة مع توقف دول الخليج عن ضخ المساعدات المعروفة شعبيا باسم “الأرز”، ومن ثم حاجته لإرضاء الجيش لضمان حمايته له ضد غضب الشعب المتصاعد، وعدم خلعه.

لكن، كيف سيتعامل الصندوق مع خرق السيسي شروط الاتفاق؟ وكيف سيسدد السيسي الاحتياجات التمويلية الخارجية، التي قدرت وكالة “فيتش” بنحو 19 مليار دولار في 2023، و22.5 مليار دولار في 2024؟

وهل هجوم الأبواق السعودية المقربة من ولي العهد محمد بن سلمان مثل تركي الحمد وغيره، على إدارة السيسي للاقتصاد المصري مؤشر لرفضهم تقديم مساعدات جديدة؟

لماذا تخصيص أراضي؟

عقب هزيمة عام 1967 وتعالي شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، تم تخصيص أغلب موارد مصر للجيش تحت عنوان “المجهود الحربي، إذ أصبحت أغلب أراضي البلاد بيد الجيش، رغم نص الدستور أنها “ملك للشعب”.

وعزز هذه السيطرة، قرارات أصدرها الرئيسان السابقان أنور السادات وحسني مبارك بتخصيص نسبة كبيرة من الأراضي للجيش، أبرزها قرار السادات عام 1977، الذي منح حق امتياز إدارة جميع الأراضي غير الزراعية وغير المستثمرة للجيش.

وذكرت تقديرات أن هذا القرار أعطي الجيش بذلك مساحات أراضي تصل إلى 87 بالمئة من مساحة مصر، بحسب “المعهد المصري للدراسات” في 6 يناير 2018.

ومنذ انقلاب 2013 وتوسع بيزنس الجيش بصورة فاحشة، أصدر السيسي عدة قرارات بتخصيص مساحات ضخمة من أراضي مصر للجيش، في إطار سيطرة العسكر على الاقتصاد المصري بعد إقصاء المنافسين.

ويُعتقد أن الأراضي الأخيرة التي خصصها السيسي للجيش، على جانبي الطرق ستخصص لبيزنس الجنرالات وإنشاء محطات وقود ومطاعم.

وذلك على غرار ما جرى تنفيذه على نطاق واسع في كل طرق المحافظات المصرية عبر سلسلة “شل أوت” التابعة للجنرالات والتي احتلت الأرصفة وجوانب الطرق.

وقبل الخطوة الأخيرة، أصدر السيسي قرارات عدة تُخصص أراضي للجيش، أبرزها في عام 2016، بتخصيص الأراضي الصحراوية بعمق 2 كيلو متر على جانبي 21 طريقا لصالح وزارة الدفاع.

ونص ذلك القرار على أن تعد تلك الأراضي “مناطق إستراتيجية ذات أهمية عسكرية لا يجوز تملكها”، وفق صحيفة “الشروق” في 9 يونيو/ حزيران 2016.

فيما ذكر موقع “ميدل إيست آي” البريطاني في 26 مارس/ آذار 2016 أن عسكر مصر يستحوذون على ما بين 80 – 90 بالمئة من أراضي مصر، عبر عدة شركات تابعة للجيش المصري.

ناقوس الخطر

وصدرت ثلاثة تقارير دولية في توقيت متقارب تتحدث عن بيزنس الجيش المصري الضخم وكيف سيتعامل معه السيسي، أجمعت على أنه سيتجاهل ما التزمت به مصر مع الصندوق بشأن شركات الجيش.

التقرير الأول: أصدره مركز “مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط” في 24 يناير 2023، للباحث “يزيد صايغ” وفيه يؤكد أن السيسي “لا يستطيع تجاهل الدور الاقتصادي للجيش إلى الأبد، لكنه لن يسمح بنشوء هوة بينه وبين المؤسسة العسكرية”

وتوقع أن يلقي السيسي بالأزمة في ملعب رئيس وزرائه مصطفى مدبولي الذي لا يملك من أمره شيئا، ولعل أنباء التغيير الوزاري التي تتسرب كل عدة أسابيع تمهيد لذلك.

والتقرير الثاني أصدره موقع “إنتلجنس أفريكا” الاستخباراتي الفرنسي في 25 يناير، ويشير إلى أن قادة الجيش غاضبون من السيسي وأنه يواجه تذمُّراً بين الجنرالات بسبب قلقهم من اتفاقه مع صندوق النقد.

وأوضح التقرير أن الجنرالات قلقون من أن يحاول السيسي إبعاد شركات الجيش جزئيا عن الاقتصاد بعدما ذاقوا المكاسب الضخمة من تدخلهم في الاقتصاد وهيمنتهم عليه.

وأكد أيضا أن السيسي قد يضحي برئيس وزرائه لرغبته في أن يشاركه أحد اللوم على تداعيات السياسات الاقتصادية التي اشتدت وطأة تأثيرها، وقد يكون التخلص من مدبولي وسيلته إلى ذلك.

أما التقرير الثالث الذي صدر عن مجلة “إيكونوميست” الدولية، في 26 يناير، فيدور حول حقيقة أنه “لإنقاذ الاقتصاد المصري على السيسي أن يُخرج الجيش منه”

ويؤكد التقرير أنه لا حل للأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تضرب مصر حاليا، والتي أحد أسبابها هو “القبضة الخانقة على الاقتصاد التي يمارسها أصحاب البدلات العسكرية”، سوى خروج الجيش من الاقتصاد وتقليص البيزنس الخاص به كي يتعافى الاقتصاد تدريجيا بالقطاع الخاص.

الصندوق يهمه السداد

وتشير تصرفات السيسي إلي أنه لا ينصاع لمطالب صندوق النقد التي وقع عليها للحصول على القرض الأخير، وأنه سيتحايل على شرط إبعاد الجيش عن الاقتصاد كما حدث في حالات الاقتراض السابقة.

ولا تتضمن سياسة الصندوق أي عقوبات على الدول التي تخالف تعهداتها معه، لأن ما يهم الصندوق هو سداد القروض، بل تشير تجاربه مع عدة بلدان بما فيها مصر أنه يشجعها على مزيد من الاقتراض لتوريطها.

ويقول الباحث “يزيد صايغ”، أنه لو تسامح الصندوق مع تلاعب السيسي، بشأن بيزنس الجيش، فليس أكيدا أن شركاء مصر الأجانب (الخليج) الآخرين سيكونون متسامحين مثل الصندوق”.

وأضاف في تقرير مركز “مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط”، أن “الجيش قد لا يضطر إلى إجهاد نفسه من أجل الاحتفاظ بمصالحه الاقتصادية وسيراوغ أصلاً في تنفيذ تعهّداته كافة تجاه صندوق النقد”.

وأوضح صايغ أن غرض السيسي المباشر كان ضمان الاتفاق مع صندوق النقد الدولي آملًا، على وجه الخصوص، أن يفتح ذلك الباب أمام حصول مصر على مبلغ 14 مليار دولار كقيمة قروض وائتمانات إضافية من مصادر دولية أخرى.

لكن خطابات السيسي وقراراته الرسمية على مدى السنوات الأخيرة تكشف عن غرض مختلف جذريًا، ألا وهو رَسمَلَة الشركات والأصول المملوكة للدولة (كالبنية التحتية) من خلال حقنها بالأموال الخاصة، مع استمرار حيازة الدولة لها (أي تلك الشركات والأصول).

وبدلاً من بيع الحصص أو تسليم السيطرة إلى حاملي الأسهم من القطاع الخاص، يعرض السيسي على المستثمرين “عائدًا مستقرًّا يشبه السندات في الهيئات القائمة والعاملة”

وتضمن التقرير الذي أصدره صندوق النقد الدولي ونشر في 10 يناير 2023 حول اتفاقه مع مصر، تعهد نظام السيسي في خطاب النوايا بـ8 التزامات، بعضها لم ينفذ.

أبرزها كان خفض الجنيه (نزل رسميا لقرابة 30 جنيها عقب خطاب الصندوق) ورفع أسعار الوقود (لم ينفذ بعد)، وإبطاء ما يُسمي “المشروعات القومية”، مثل العاصمة الإدارية (لم ينفذ).

وأهم هذه الالتزامات، تقليص دور شركات الجيش في الاقتصاد، ومعالجة مشاكل هيكلية متجذرة مثل انعدام الشفافية بشأن دور الجيش في الاقتصاد، عبر إلزام الشركات المملوكة للجيش بنشر تقارير سنوية حول النفقات الضريبية، وهي أمور تبدو كأحلام يصعب تنفيذها.

ولو نُفذ اتفاق الصندوق سيكون هذا من إيجابيات الاتفاق، لأنه يعني ضمنا تفكيك اقتصاد الجيش ووقف تمويل مشاريع خيالية وإنهاء الإسناد المباشر للمشاريع للجيش، والمراجعة الشهرية، حسبما يؤكد رجل الأعمال محمود وهبه عبر تويتر.

شفافية غائبة

لكن منظمتي “هيومن رايتس ووتش” و”الديمقراطية الآن للعالم العربي”، تنبأتا بعدم التزام السيسي بمسألة تقليص بيزنس الجيش، وفق بيان لهما في 31 يناير.

وأكدتا أنه رغم أن اتفاق الصندوق يتضمن بعض الخطوات لزيادة شفافية الأصول المملوكة للدولة وتشمل الشركات المملوكة للجيش، مثل تقديم حسابات مالية نصف سنوية إلى وزارة المالية، إلا أن ثمة شكوكا في تنفيذها.

أشارتا إلى أن الحكومة المصرية “تقاعست في ظل البرامج السابقة عن تقليص دور الجيش في الاقتصاد أو جعله أكثر شفافية وخضوعا للمساءلة”

كما حذرتا من أن اتفاق القرض الجديد الذي أبرمه صندوق النقد مع مصر، يتبنى نهجا اقتصاديا من شأنه أن يؤدي لانعدام الشفافية في التعاملات التجارية للجيش، ويتضمن مخاطر فساد بشأن بيع أصول وممتلكات الدولة.

وتحدثت المنظمتان عن “ضرورة معالجة سوء الإدارة المتأصل النابع من أن الحكومة تعطي الأولوية لسيطرتها السياسية، بما في ذلك الدور المتنامي وغير الخاضع للمساءلة الذي يلعبه الجيش في الاقتصاد”

وأشارتا إلى حجب الحكومة المصرية تماما عن الرأي العام المعاملات المالية لشبكات الشركات العائدة للأجهزة العسكرية، والتي تُنتج سلعا مدنية في الغالب.

وهو “ما يجعلها عرضة للفساد وتقويض الرقابة المدنية على تمويل الجيش المصري، المسؤول بدوره عن انتهاكات خطيرة كما استخدمت الحكومة إجراءات قمعية لحماية القوة الاقتصادية للجيش”، تؤكد المنظمتان.

وعمقت مؤشرات وجود إحجام خليجي عن دعم نظام السيسي من جراحه بعدما تصور أنها ستهب مثل كل مرة لإنقاذه، وبعدما وعده صندوق النقد بذلك.

انتقادات رموز خليجية لنظام السيسي، أظهرت رفض بعض دول الخليج دعوات صندوق النقد الأخيرة التي أطلقها في 10 يناير لمساعدة مصر، ومطالبته من وصفهم بـ “حلفاء مصر الخليجيين” بدعم مصر.

غياب قادة السعودية والكويت عن “مؤتمر المانحين” الذي عقد في أبو ظبي، يوم 18 يناير، ودعا له رئيس الإمارات محمد بن زايد، أوضح رفضهم تقديم منح ومساعدات مالية عاجلة جديدة.

ولم تكتف السعودية والكويت بالغياب، لكن ابن سلمان أطلق أبواقه الإلكترونية في حملة نقد لاذعة لم تطل السيسي وحده، بل والجيش المصري أيضا، التي اتهمته بالاستحواذ على الاقتصاد المصري.

شاهد أيضاً

رئيس الأركان الإسرائيلي يحذر نتنياهو من حدوث أزمة في الجيش لاستهدافه القضاء

أفادت وسائل إعلام إسرائيلية، الخميس، بأن رئيس الأركان هيرتسي هليفي ناقش مع رئيس الوزراء بنيامين …