الحرب الدائرة في اليمن اليوم، والتي أعلنها من طرف واحد؛ طرفا الإنقلاب؛ الحوثيون وحليفهم المخلوع علي عبدالله صالح، ليست حربا ارتجالية، وتوسعها في معظم الجغرافية اليمنية، ليس اعتباطا، بل هي حرب ممنهجة ومدروسة، ذات ارتباط وثيق بالصراع بين مشروعين متناقضين، الأول: يسعى حثيثا للحفاظ على سلطة المركز، بدوائره الثلاث؛ الفرد والقبيلة والمنطقة، والثاني: مشروع أغلبية الشعب اليمني، في قيام دولة يمنية مؤسسية حديثة، تصدرت السلطةُ الشرعية، للتعبير عنه، وتحمل مسؤولية تحقيقه على أرض الواقع، لكنها وقفت من المشروعين موقف الممسك بالعصا من المنتصف، وجرت وراء أنصاف الحلول والسياسات الترقيعية التي فات أوانها، ليبقى اليمن محشورا بين ماضٍ رفض أن يغادره، وحاضرٍ عجز حتى اللحظة عن إثبات وجوده.
زعيم الحركة الحوثية عبدالملك الحوثي قال بأنه سيحارب إلى يوم القيامة، والمخلوع علي عبدالله صالح قال ذات مرة: إن الحرب لم تبدأ بعد، وفي آخر خطاب له قال إنه سيحارب أحد عشر عاما، ولنا أن ننظر بعمق، للدلالات السياسية والدينية والفكرية والنفسية لمضمون خطابات الرجلين، التي تكشف بجلاء دون مراوغة أو مخاتلة رؤيتهما للحرب والسلام، فالحرب بالنسبة لنا دمار وخراب، وهلاك للحرث والنسل، وموت قبيح يطاردنا في كل مكان، بينما هي في نظرهما، مشروع حياة، تحيا مصالحهم بوجودها، وبغيابها تموت، وهي أيضا وسيلتهم المثلى والوحيدة، للعبور بهم لسدة السلطة، إن لم يكن كبح جماح مناوئيهم من الوصول إليها، وبينما السلام يعني لنا صون الدماء والأموال والأعراض وحماية الحقوق والحريات، فهو بالنسبة إليهم التسليم لهم بالحكم، ولو سفكوا دماء اليمنيين، ونهبوا ثرواتهم، وتمرير مخططاتهم بسلام، والاحتفاظ بقوتهم يستخدمونها حمايةً لأجندتهم، ويدرؤون بها خطر الشعب عليهم، متى ما شعروا بذلك.
الحديث عن حوار أو اتفاق سياسي، لايفضي للقضاء على أسباب الحرب، ومعالجة آثارها، ولا يؤدي لسلام قابل للتنفيذ، يحقق تطلعات الشعب اليمني، يبقى محض هراء، وأي تفاهمات يكن فيها لعاهاتنا الوطنية والسياسية والاجتماعية، حضور قاتل لطموحاتنا وآمالنا، يعني فيما يعنيه، أننا مجتمعٌ أسير ماضٍ سحيق، لا يستطيع التحرك باتجاه المستقبل ولو ببطء؛ لأنه لايملك مشروعه، ولا أدوات الوصول إليه ، كما أنه لا يمكن أن نحقق سلاما، في ظل دولة غائبة، حلت محلها عصبوية مناطقية مسلحة، تستجيب للداعي القبلي، وتخوض حربا تعتبرها مهنة مشروعة، وأداة إنتاج مفضلة، تغنيها عن عناء البحث عن موطئ قدم لها في ميادين الإنتاج العلمي والفكري والاقتصادي.
القارئون للحرب في اليمن قراءة ناقصة، هم الداعون لحلول سياسية للحرب، دون إفراغها من مضمونها الاجتماعي والسياسي والعسكري، هي بمثابة أنصاف حلول، تساوي بين الضحية والجلاد، بين الشرعية والانقلاب، بين غالبية تناضل من أجل بناء دولة، وأقلية اختطفتها، لن تؤدي سوى لسلام فارغ من أي معنى، سيعيد إنتاج حرب أخرى باسم السلام. فالمبادرة الخليجية كنموذج لهذه الحلول، والتي تغنى بها الكثيرون، كونها قطعت الطريق أمام دخول اليمن في حرب أهلية، ما نجم عنها هو الاحتفاظ بشروط هذه الحرب، وتأجيل اندلاعها ، لتنفجر حربا أكثر ضراوة، وأوسع دمارا ، فيما لو اشتعلت آنذاك.
إن محاولات إنهاء الحرب في اليمن، بلا تقييم موضوعي لها، أو معالجة دقيقة وواقعية للأسباب التي شنت من أجلها، ودون أن يفتح السلام أبواب الازدهار، الذي يمنحه أهمية مستدامة، سيؤدي بنا إلى الدوران في حلقة مفرغة، والدخول في معارك، تعيد إنتاج خطاب المهاترات والمكايدات، تسكت فيها البندقية، وتحضر الحرب فيها، بصورة أخرى وبمسمى مختلف، ابتداءً بحرب الاقتصاد, بتفشي الفساد، والحفاظ عليه؛ بمبرر التقاسم والشراكة، إلى اتساع نطاق الفقر، إلى تآكل الطبقة الوسطى، إلى تكوين مراكز النفوذ، التي تلغي المجال السياسي، وتفرض سلطة القوة، لنجد أنفسنا أننا كنا أمام خطاب سلام دعائي، منع حاملي البندقية من توجيهها لصدورنا، لكنه منحهم استمرار مصادرة حقوقنا، وإعاقتنا من العيش بحرية وكرامة.
أضحى الدور الذي تلعبه السعودية، في فرض وبناء السلام في اليمن، أساسيا ومن الأهمية بمكان، ليس لاعتبارات حماية أمنها القومي فحسب، بل لاعتبارات أخلاقية أيضا، وانطلاقا من ذلك، وكي يكتب للسعودية النجاح في هذا الدور، لابد من توفر عدد من الشروط الأساسية، ليس من المهم أن تكون متعلقة باعتراف قوى انقلاب 21 سبتمبر 2014 م بالشرعية من عدمه، وإنما ترتبط بمدى النجاح في بناء مؤسسات دولة يمنية شرعية وقوية، تقوم بوظائفها الاقتصادية والسياسية والأمنية، على أكمل وجه، وقادرة على ضبط التفاعلات، واحتواء المطالب، والإيفاء بحاجات المجتمع اليمني، وليس مجرد التعبير عنها. وإذا كانت السعودية تريد يمنا خاليا من النفوذ الإيراني، فاليمنيون يريدون إلى جانب ذلك، يمنا خاليا من الفقر والبطالة، ومن مليشيات وعصابات الفساد والنهب، وبغير ذلك فإن القادم لامحالة قاتم.