يشي فوز الرئيس الأمريكي ترامب بترجيح كفة الفريق «الانعزالي» الذي يدعو إلى التركيز على الداخل الأمريكي، ولكنه ليس حسماً باتاً في ظل الاستقطاب الحاد الذي أبرزته الانتخابات الأخيرة، لكن بدت في الأفق سيادة لافتة للسمة القومية والخطاب الشعبوي، بما ينبئ عن تراجع نسبي للخطاب الليبرالي ومفاهيم العولمة، وقد أبرز الجدال أثناء الانتخابات الأخيرة صورة الانقسام «الطبقي» بين المجتمع المدني والريف الأمريكي.
العودة للانعزال صورة من صور الاعتراف بالتراجع النسبي لقوة الولايات المتحدة في النظام الدولي جراء كلف التفرد الأمريكي، وقد تجلى الضعف النسبي في الحقول الأساسية لبنية القوة الشاملة، وهي الاقتصاد والبنية الثقافية، والقوة العسكرية، والحقول الثلاثة الأخيرة اعتراها مظاهر الاعتلال في رأي الكثيرين على رأسهم «بول كينيدي: صاحب كتاب «سقوط الإمبراطوريات»، بالرغم من أن بعض الخبراء على الضفة الأخرى يعترفون بالخلل الناجم، ولكنهم يجادلون أنه غير مؤثر بشكل حاسم على دور الولايات المتحدة الدولي كـ”جوزيف ناي” صاحب كتاب «مفارقة القوة الأمريكية». إلا أن معظم الإستراتيجيين الأمريكيين ناقشوا الخلل في مبنى القوة لدى أمريكا بأنماطها وتوزيعها وتوظيفها باعتبارها مركز منظومة القيم لديها، وأوصوا بجملة توصيات إستراتيجية ضرورية للحفاظ على الريادة الأمريكية في ظل تقديرهم أنه جرى خلل استراتيجي لافت في مقدرة هذه القوة من التأثير الفعال وأساليب توظيفها بشكل منتج، منهم «بول كينيدي» في كتابه «الاستعداد للقرن الحادي والعشرين»، و”سيوم براون” في كتابه «وهم التحكم»، وزبيجنيو بريجنسكي» في كتابه “الاختيار”، و”جوزيف ناي” في كتابه «القوة الناعمة».
وفيما يتصل بسياسة ترامب الخارجية، أو ما يمكن أن يطلق عليها بشكل أولي «عقيدة ترامب»، فربما يكون أبرز ملامحها هو: التركيز على الاستقرار في العالم، ولا يهمه نشر الديمقراطية وبناء الأمم والدول كالمحافظين الجدد، ولا يؤمن بالتدخل الأمريكي لأسباب إنسانية. ومن المتوقع أن يتبنى سياسة شديدة ضد «الإسلام الراديكالي» من خلال خطة طويلة الأمد، بالتعاون مع دول المنطقة. كما أنه يعادي الربيع العربي ويتهم إدارة أوباما أنها تساهلت مع الإخوان المسلمين في مصر, علماً بأنه يضم الإخوان المسلمين للإسلام الراديكالي.
وينظر ترامب لداعش على أنها العدو الأول بالمنطقة، وقد بدا من تصريحاته أنه سيقوم بمحاربتها وإزالتها وربما ستكون عماد سياسته في الأزمة السورية.
ويرى أن الدولة القومية هي الأساس ويحمل شعار «أمريكا أولا»، وغير مهتم بالعولمة وما يستتبعها من ضرورة التشابك الدولي، ولا يؤيد الشراكات الاقتصادية الدولية التي يعتبرها مقيدة ومكلفة للاقتصاد الأمريكي.
كما أنه لا يؤمن برؤية المحافظين الجدد ويرى أنها سياسة فاشلة، أدت إلى إضعاف الولايات المتحدة بسبب التدخل في العراق وأفغانستان خلال ولايتي بوش الابن.
ويدعو ترامب إلى إعادة توازن الالتزامات المالية مع الحلفاء، وتبني إستراتيجية جديدة معهم للتصدي للتحديات المشتركة، وتحدث عن بناء علاقة جديدة مع “الناتو”.
وهو لا يحبذ التصعيد مع روسيا، بل يؤمن بأهمية احتوائها والتعاون معها، وربما يكون اقترابه من موسكو لأجل إبعادها عن بكين، جرياً على سياسة نيكسون.
وعلى الأغلب أنه سيتشدد مع الصين، إلا أنه قد يساومها بملف تايوان ومسائل أخرى؛ مقابل تعديل الميزان التجاري الراجح لصالح الصين حاليا.
وتتبدى شكوك عالية الوتيرة من أكثر من جهة داخل وخارج الولايات المتحدة تجاه سياساته المقبلة، ولا شك أن هناك عوامل مؤثرة على مدى قدرته على تطبيق سياسته الخارجية على أرض الواقع، لعل من أبرزها: ضغوط الحلفاء وخاصة الاتحاد الأوروبي الذي انزعج كثيراً من توجهات «ترامب». وكذلك ضغوط حزبه الذي لا يتوافق بالضرورة مع بعض توجهاته، لأنه في الأصل جاء رغما عن حزبه.
فضلاً عن فريقه المتنوع الذي اختاره بعناية من (الشعبويين+ المحافظين التقليديين+ رجال الأعمال)؛ وبما سيلعبه من دور كمفصل توازن إلى حد ما في صناعة السياسة الخارجية، غير أن عدم خبرة الرئيس وصعوبة شخصيته سيكون لها أثر واضح على هذه السياسة.
ومع أن الرئيس الأمريكي يتمتع بسلطات واسعة، إلا أن طبيعة النظام السياسي الأمريكي القائمة على مبدأ «المراقبة والتوازن» بين السلطات الثلاث، ولكون القرار الأمريكي يتولد نتيجة حصاد نقاش طويل في أروقة هذه المؤسسات؛ فإن ذلك سيحد من قدرة «ترامب» على تنفيذ كامل سياساته بالشكل الذي يريده, لكنه سيضع بصمته بشكل ما على السياسة الخارجية في نهاية الأمر. ومن الصعب التنبؤ بنتيجة الصراع بين الرئيس الجديد ومؤسسات الدولة الراسخة.
تأثيرات سياسته الخارجية وفرص نجاحها
تعاني إدارة ترامب حتى اللحظة من فوضى غير مسبوقة، تمثلت بارتجالية قراراته، وبث توجهاته السياسية عبر التويتر، وتأخره في تعيين موظفي إدارته، وتضارب التصريحات بين مساعديه, المربكة لفهم سياسته الخارجية, فضلاً عن غياب الثقة بينه وبين مجتمع المخابرات، لدرجة أن هؤلاء يخفون عنه بعض المعلومات السرية لعدم ثقتهم به.
ومن المرجح أن ترامب سيواجه صعوبة بالغة في تنفيذ سياساته على أكثر من صعيد، داخلياً وخارجياً، ويتوقع الكثير من المراقبين أنه سيفشل في ذلك، لضحالة خبرته السياسية وعدم تناغمه مع «المؤسسة» الأمريكية. بل يُفْرط البعض بتوقعاته بأن ترامب لن يكمل ولايته عبر العزل الاستباقي من قبل الكونجرس، أو ربما من خلال تحريك ملفات مضرة به كعلاقاته الجنسية قبل الرئاسة، أو اتصالاته مع الروس.
ولكن في حال نجاح ترامب في إكمال ولايته، وتجديدها لولاية ثانية فإنه سيغير وجه أمريكا، وستتراجع مكانتها الدولية لمرحلة أسوأ بكثير مما كان عليه الحال بعد ولايتي بوش الابن.