لم يكن مصادفة أن يخرج من رحم الصحراء ذلك الجيل الفريد الذي محا عن وجه الأرض جاهليتها, فاستحالت حضارةً أساسها التوحيد, وعنوانها الرقي, وقانونها العدل والمساواة الإنسانية, ودستورها مستمد من السماء, ليطهر الأرض ويرتفع بها في سمو لم تشهده البشرية من قبل, وسبيلها في كل ذلك حرية ممنوحة من السماء وليست هبة من الأرض.
لم يكن مصادفة أن يتآخي بلال الحبشي مع أبي بكر العربي, مع صهيب الرومي, مع سلمان الفارسي, ليس في اتحاد إنساني مجرد تحكمه قوانين مدروسة، وإنما في وحدة روحية عقيدية أخوية كادت تتوارث فيما بينها لولا نهي الله عن ذلك, في تآخٍ لم يشهده التاريخ الإنساني كله إلا في المجتمع المدني الذي حكمه النبي صلى الله عليه وسلم بقانون سماوي منزه عن النقص أو الهوى، لنفوس تلقت ذلك الدستور بقلوب خالية من كل ما هو دونه؛ تلقته لتطبقه على ذاتها فجعلت الدنيا في أيديها لا في قلوبها، تنطلق في الحياة لتبنيها رغبة فيما عند الله لا رغبة فيها، تساوى لديها التبر مع التراب فملكت وما ذلت، وتساوى عندها الموت في سبيل الله مع الحياة في سبيله, ففُتحت لها الدنيا, وولدت رجالا ينطلقون في الأرض غير مبالين بمغنم دنيوي بقدر اهتمامهم بكسب القلوب, رغبة في إنقاذها من هلاك الشرك وهلاك غضب الله، إيمانا منها بأنه لئن يهدي الله بها رجلا خير من الدنيا وما فيها أو خير من حمر النعم.
لم يكن مصادفة أن تقف أم عمارة؛ ” نسيبة بنت كعب ” في غزوة أحد, مدافعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلاحها وابنيها، حتى ينظر عليه الصلاة والسلام يمنة فيجدها ويسرة فيجدها، تدافع عنه حتى تُقطع ذراعُها، فتأمر ولديها بالدفاع عن نبيهم حتى ينادي فيهم النبي صلى الله عليه وسلم دونكما أمكما، وينظر إليها ويقول ” من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة ” فتقول: بل أطيق وأطيق وأطيق يا رسول الله.
وليس مصادفة أن يرحل صهيب الرومي عن مكة تاركا تجارته وماله وبيته لمشركي مكة في سبيل أن يَدَعَوه يهاجر لرسول الله بالمدينة المنورة حتى أنهم يساومونه علي عباءته التي يرتديها فيخلعها ويربح البيع أبو يحيي.
ليس مصادفة أن يأتي جندي بسيط في جيش المسلمين حاملا ذهب وجواهر كسرى على فرسه, كل زاده بضع كسرات خبز وقربة ماء، لا يفكر في الهرب بما يحمله من كنوز، ولم يفكر أن يمد يده وهو بلا رقيب إلا من الله فيختلس منها ما لن يلاحظه أحد ولن يحاسبه عليه أحد، ولا يفكر أن يعدها أو ينظر إليها، فقط حمل الكنز الإمبراطوري من بلاد الفرس إلي عاصمة الخلافة ليسلمه إلى عمر بن الخطاب ما يحمل من أمانة دون أن يتعرض لما يحمل، ودون أن يتعرض له في هذا الطريق الطويل أحدٌ لما يحمل، ليكون الهم كله تسليم الأمانة والتخلص منها. جندي بسيط ليس معه سوى كسرات خبز تضمن له الحياة كي يبلّغ أمانة يحملها.
ليس مصادفة أن يبحث الأغنياء عن فقراء يخرجون لهم الزكاة فلا يجدون, من فيض الخير, لم يوجد فقير في بلاد المسلمين؛ لا مسلم ولا غير مسلم. تُسدد ديون الخلق من خزينة مال المسلمين، يُزوج الشباب، تُسد المغارم عن غير المسلمين، تسقط الجزية عمن لا يستطيعون الدفع، وتنثر الغلال علي رؤوس الجبال فلا يقال جاعت الطيور في بلاد المسلمين. لم يكن هذا الغيض من فيض مصادفةً في صدر تلك الأمة وإنما كان لتلك المعجزة التي تلقتها الأمة من السماء، إنه القرآن، وفعل القرآن في نفوس متلقيه، الفعل الذي أجبر الكفار على السجود حين سمعوا قول الله تعالي: ” أفمن هذا الحديث تعجبون، وتضحكون ولا تبكون، وأنتم سامدون، فاسجدوا لله واعبدوا “النجم 59/62 ، تأثرا بآيات الله واستجابة لأمره حتى ظن من رآهم أنهم أسلموا، وما أسلمت قلوبهم، وإنما أسلمت جوارحها التي خلقها الله لكلام الله فاستجابت رغما عنهم, فسجدت لمجرد سماع أمر الله بالسجود، وتلك شهادة رأس الكفر؛ الوليد بن المغيرة حين يُسمعه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كلامَ الله فإذ به يقول: ” إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو وما يعلي عليه”، مما دفع سامعيه أن يظنوا به إسلامه، ومما دفع قريشا أن تمنع وفود الحجاج أن يستمعوا له ويفرضون دونه طوقا حتى لا يسمع الناسُ كلامه فيتأثرون به، وهم أهل اللغة وأهل الكلام
فكانت تتنزل الآية فلا يحفظون غيرها حتى يتمون العمل بها.
عظموا كلام الله، عظموا أحكامه، عظموا شعائر ، عرفوه حقا ففعل بهم القرآن ما تنزل من أجله، فهموا أن القرآن دستور للعمل البناء والهداية والحرية والحضارة والسعادة الإنسانية كاملة والاطمئنان الإنساني والرضا الإنساني، تحول الأمر بالقتال كالأمر بجمع ثمار المدينة، يستوي المغرم مع المغنم، بل ويهنئ بعضهم البعض بالشهادة ويتنافسون عليها، وخرجت من صنعهم أعظم حضارة عرفتها البشرية، حضارة وازنت بين احتياجات الإنسان الروحية والمادية، حضارة قرآنية مصنوعة لخدمة الإنسان لا أن يكون هو في خدمتها، حضارة العزة والقيادة والرحمة والصمود والثبات والقوة والفهم والاستسلام لله وحده.
إنه القرآن والقلوب التي تلقته.