يضع ” مالك بن نبي ” ، ما يسميها قاعدة لميلاد حضارة جديدة، أو بعث حضارة قديمة تحمل في طياتها عوامل السعادة للبشرية، إذ يقول ” يجب أن ينتهي التاريخ في نقطة ما كي يتجدد من نقطة جديدة “.
ويؤكد على هذا المعنى، إذ يجب أن تفلس البشرية من كل تجاربها الوضعية. وحتى الأديان السماوية المحرفة، يجب أن يعرف الإنسان بالتجربة أنها لن تقدم له ما يريد، ويقول مالك ” لعل هذا الذي نراه على ذلك المحور استدراج لشئ ربما تعبر عنه الآية الكريمة ” هو الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله ” (الصف). ربما هو القطب الذي يتجه إليه التاريخ .
إن كل العوامل والأحداث تصب في مصلحة الإسلام، وتتوجه لدفع المسلم ليقوم بمهمته في إنقاذ العالم من الفناء الذي صنعه لنفسه بيده، شرط أن يتحقق المسلم شروط الاستخلاف وحمل الأمانة.
ليس مطلوبا من المسلم أن يصنع حضارة مادية، وإن كان لا غنى عنها بحكم أن إعمار الأرض أمر رباني، لكنه سيظل وسيلة لا غاية، وستظل الغاية الكبرى، إنقاذ الإنسان من عبودية بعضه البعض، ومن عبودية ما خُلق له، وتبيين سبيل سعادة الدنيا والآخرة.
إن كل الأديان التي عرفها الإنسان فقدت مسوغات صلاحيتها لتقديم ما يحتاجه الإنسان، ولم يبقَ غيرُ الإسلام الذي تحمله أمةٌ ذهلت عنه، وكي يستعيد دوره من جديد يجب على المسلم أولا أن يقتنع، يقتنع بدوره في إسعاد البشرية، ودوره في إنقاذها.
يقول مالك بن نبي: ” فاقد الشئ لا يعطيه، فلا يمكن للمسلم إن لم يقتنع بأن له رسالة، أن يبلغ الآخرين هذه الرسالة، أو فحوى هذه الرسالة، أو مفعول تلك الرسالة، إذن يجب أن يقتنع هو أولا، وأنا أعني قناعته في الثلث الأخير من القرن العشرين، ولا أتكلم عن اقتناعه بدينه، فكلُ مسلم مقتنعٌ بدينه منذ أن نزلت الآية الأولى في غار حراء، ومن يحاول أن يأتي للمسلمين بوسائل لاقتناعهم بدينهم فإنما يضيع وقته، بل ويضيع وقت المسلمين، فالمهم في الأمر اليوم أن نلاحظ أن الشكوك التي تسربت إلى عقول الآخرين عن المجتمع الإسلامي إنما تتناول رسالة المسلم لا عقيدته ” .
إن واقع المسلم اليوم بما يعتريه من ضعفٍ وتخلفٍ وقابليةٍ للاستعمار والتبعية يعطي صورة زائفة عن حقيقة الإسلام وما يجب أن يكون عليه المسلم، إن صورة المسلم يجب أن يظهرها للعالم بحقيقتها التي أراده الله عليها وكلفه بها، من صدق، وحسن خلق، وعزة وإباء، وعلم وذكاء متجدد، ومعرفة بالتاريخ وعبره وعظاته، وعقيدته الحية التي تستقيم مع الذات الإنسانية حيث وحدة المصدر، الخلق والتنزيل, يجب أن يعلمها العالم كي يقبل أن يسمع منك.
يتساءل مالك: ” أين كرامة المسلم؟ أين عزة المسلم؟ أين علم المسلم؟ أين نزاهة المسلم؟ أين بطولة المسلم؟ أين استشهاد المسلم؟ أين شهادة المسلم ولو على نفسه ” المسلم فرط في كل هذا وضيعه فماذا تبقى له من الإسلام؟ ” (دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين).
خلاصة القول؛ وضعه اللهُ عز وجل في سورة من ثلاث آيات، سورة يقول عنها الإمام الشافعي: لو أن الناس تدبروا هذه السورة لكفتهم. وفي قول آخر له أيضاً يقول: لو أن الله سبحانه وتعالى لم ينزل من القرآن إلا هذه السورة لكفت الأمة؛ لأنها تبين منهج الحياة؛ في بدايتها يقسم الله عز وجل بالعصر، الذي هو الزمن، فالعصر هو وقت العصر المقصود حرفيا بالمعنى المعروف للناس ، أو العصر بمعنى الزمن الذي يعيش فيه المسلمون وغيرهم سواء كانوا في حالة ضعف أو حالة قوة، المهم أنه الزمن الذي يعمل فيه الإنسان، فالإنسان ما هو إلا أيام تمضي وأرض يعمل فيها بالخير أو بالشر، فالزمن هو المساحة الفارغة التي يملأها الإنسان بعمله, ولقيمته يقسم به الله عز وجل، يقسم على أن كل الناس في خسر، كلُ الناس خاسرة، كل الناس في ضياع، إلا …. وإلا استثناء، والاستثناء يكون للقليل، وفي هذا يقول سبحانه ” وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ” ، فكل الناس في خسران يعيشون فيه ويحيط بهم، بل هم فيه غرقى، فحرف الجر ” في ” يدل على أنهم بداخل الخسران، كل الناس في هذا الخسران غرقى به إلا تلك الفئة القليلة المستثناة، ” الذين آمنوا ” ثم ماذا؟ آمنوا واستراح كل منهم في بيته؟، آمن وفعل ما يحلو له؟ ، آمن ووضع إيمانه في جانب وحياته الدنيا في جانب آخر؟ ، آمن واهتم بذاته ونسي ما حوله ومن حوله؟، لا ، إن صفات الناجين لم تكتمل بالإيمان وحده.
” إلا الذين آمنوا، وعملوا الصالحات “، جميل جدا، الإيمان والعمل الصالح، المهمة حتى الآن بسيطة ومتاحة ولا تُعجز الناس، الإيمان والعمل الصالح، يعلن التوحيد، ثم يتحرك بين الناس بالصدق والقول الحسن وعمل الخير في أهله وغير أهله.
إنسان يشهد له الناس بحسن الخلق، ثم هو عبد لله، مسجدي، صوام قوام، ثم هو يحسن علاقته بكل من حوله، يساعد الفقير والمحتاج، لا يرد سائلا ، يخلص في عمل ينفع الناس، لا يمد يده ولا عينه على ما لا يخصه.
تلك كلها صفات جيدة لمسلمٍ مؤمن لا يختلف عليها أحد، ” آمنوا وعملوا الصالحات” ، لكن هل يضمن بذلك بلوغ رضا ربه، وانتهت مهمته في الحياة الدنيا عند هذا الحد؟
تستكمل السورة الكريمة صفات تلك الفرقة المستثناة القليلة العدد من بين كل الخلق الخاسرين بشهادة مولاهم ” وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر”.
وتلك هي صفات الأمة التي اختارها الله لمهمة إسعاد البشرية، إن تنازلت عن صفة أو شرط فقد خرجت من نطاق الفوز ودخلت لدائرة الخسران إن لم يتغمدها الله برحمته وتعيد صياغة نفسها بما يتناسب وتلك المهمة الجليلة.
الإيمان وحده لم يَضِع من الأمة، والعمل الصالح لم تخلُ منه فترة زمنية مرت بها، والفرق الوحيد والشرط المتمم لشروط الفوز، هو التواصي بالحق، والتواصي بالصبر، هو الحركة بين الناس بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبليغ دعوة الله للناس، كل الناس، وتلك الصفة هي سبب جلب المتاعب على الدعاة الحقيقيين، وهي الفيصل بينهم وبين غيرهم، فالمؤمن في نفسه لا يغضب الطغاة، والمؤمن العامل بالصالحات لا يغضب الطغاة، إن ما يغضبهم هو ذلك ” التواصي بالحق “. وكتاب الله عز وجل ليس فيه كلمة زائدة، فالتواصي بالصبر بعد التواصي بالحق، يمهد للمؤمن ما قد ينتظره من عنت وتعب واضطهاد وتنكيل من الآخر بسبب ذلك ” التواصي” فلزم بعد التواصي بالحق، أن يتواصى المؤمنون بالصبر على تبعة ما يقدموه للناس، فتلك الدعوة ليست سهلة، وهذا الطريق ليس مفروشا لأصحابه بالورود، ولا ينتظر المؤمنُ في نهايته تكريما من بشر، ولو فعل لدخل في عداد المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار، لذلك فالعمل بالحق والعمل بالصبر متلازمان، لأن أهل الحق يحتاجون إلى الصبر عليه من محورين، أولا: الصبر على العمل به، ثانيا: الصبر على تحمل مشقات طريقه وردود أفعال الناس.
وهنا تأكيد لخيرية الأمة وسبب خيريتها ” كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون علي المنكر ” ، فالخيرية للأمة، والفوز للإنسان سببه الإيمان والعمل الصالح والدعوة لذلك الإيمان وتبليغ الرسالة للناس.
إنها باختصار رسالة الأمة ومهمتها ومنهجها، أنها القوة والعزة والكرامة والتمكين وهيمنة الدين الرباني على ” الدين كله”.