حارت العقول وذهلت, واستوفت نفوس الأحرار أسباب الاستيئاس, واستنزفت بيوت الأحرار خلف السجون, واكتوت قلوب الأمهات الثكالى ألمًا على فراق أبنائهن؛ الشباب الحر الذي خرج طالبا الكرامة والحرية وليمكن لدينه ولم يعد.
اسودّ المشهد أكثر مما تخيل الجميع, وظهر أن الفساد فوق طاقة البشر على إصلاحه, وتجاوز حدود قدراتهم، وانغمست الشعوب في مذلتها راضيةً مختارة صامتة بلا أدنى رغبة واضحة في الانتفاضة أو الموت من أجل حريتها، وأصبح الأحرار على الساحة وحدهم، وعلى الطريق وحدهم، وفي المواجهة وحدهم، يضحون بأنفسهم وأموالهم وحدهم.
الصورة قاتمة .. لماذا؟
الصورة قاتمة .. لأننا نراها في دائرتنا الصغيرة؛ لأننا نراها في حدود وقتنا الراهن دون أن نمد أنظارنا وقلوبنا للماضي البعيد والقريب, وكذلك المستقبل القريب والبعيد.
الصورة قاتمة .. لأننا لا نرى إلا عهر السيسي وبشار وأمثالهما من حكام العار, والحقيقة أنهم مجموعة عملاء سوف يذهبون في طيات التاريخ دون أن تُذكر أسماؤهم أو حتى أفعالهم.
الصورة قاتمة .. لأننا لم ندرك بعد حجم تلك الأمة ومدى ما تحمله من كنوز ينتظرها العالم كله كي يستطيع الاستمرار، وقبل أن يؤدي بحضارته المادية الهشة لدمار البشرية جميعها.
الصورة قاتمة .. لأننا ننسى أنه في الماضي القريب كان هناك رجال، خير رجال بعد الأنبياء محاصرين داخل المدينة خلف الخندق بجيوش الجزيرة العربية مجتمعة لتقضي على تلك الفئة المؤمنة، ولا يستطيع أحدهم أن يذهب للخلاء وحده، فيكبر فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبشرهم بفتح فارس والروم والقسطنطينية؛ المدينة المحصنة, ورومية التي لم تفتح لليوم
نعم .. النصر أمر مفروغ منه، والإسلام لم يأتِ إلا ليحكم العالم، ويهدي العالم، ويسعد العالم.
مقولة ربعي بن عامر
” لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العبادَ من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ” .
هل اطلع أحد علي قولٍ هو أعظم من هذا، ومهمة أوضح من تلك الكلمات المسطرة في التاريخ في صفحات النصر والتمكين والعدل والرحمة؟ .
هل هناك رسالة أعلى من تلك وأعز على الله من تلك الرسالة؟ ، إنها ببساطة: إسعاد البشرية، تحريرها، ضمان بقائها، العدالة في أسمى صورها، الرحمة المفتقدة في ظل حكم البشر والقوانين الوضعية، إنها رسالة ربانية لا يحددها إلا إله، ولا ينفذها إلا إنسان رباني.
تلك مقولة ” ربعي بن عامر” ، جندي من جنود المسلمين في جيش سعد بن أبي وقاص، كان سيدا في قومه، ثم جنديا في جيش المسلمين، ذهب ليفاوض رستم قائد جيش الفرس بناءًا علي طلب منه لتجنب الدخول في حرب مع جيش المسلمين، ووجدها سعد بن أبي وقاص فرصة لعرض الإسلام وما يريده المسلمون من حربهم، ذهب ربعي بن عامر للقاء رستم داخل خيمته الثمينة يحمل رمحه وسيفه وجعبة سهامه، جلس قبالته على الأرض ولم يهتز لتلك الوسائد المرصعة بالذهب والفرش الثمينة التي غرس فيها رمحه المتكئ عليه، لم يهتز لدنيا ولم تغره بزينتها عند أصحابها، ذلك الفقير في ثيابه ومظهره أتى ليعرض على الأغنياء المرفهين، السعادة في دعوة غريبة وموقف غريب، تلك الأمة البدوية الصحراوية؛ أتى هؤلاء العرب لينقذوا أمة الحضارة والبناء من براثن العبودية لسعة الحرية، ومن ضيق الجور والظلم لسعة الآخرة والعدل. لخص ربعي بن عامر مهمة المسلم في الحياة، ومهمة الأمة المسلمة.
تحرك ربعي بذلك التحدي الإلهي للحضارة التي أوشكت على الإفلاس، بل أفلست بالفعل في قلبه الآية الكريمة في سورة الصف: “هو الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله ” .
إن الجيش المسلم لم يأتِ لحرب، وإنما أتى ليسمع الناس الإسلام، وينهي قضية الظلم والاستعباد للخلق ليوجهه لله الواحد الأحد ، يعرض الإسلام في صورته الحقيقية، وبعد ذلك من شاء فليسلم ومن شاء فليبقَ علي دينه, يسالم المسلمين ويسالمونه، وهنا لست أدافع عن الفتوحات الإسلامية فهي لا تحتاج لدفاع، وإنما لأستخلص منها مهمة المسلم في هذه الدنيا واحتياج العالم إليه ولدعوته.
نعم، إن العالم اليوم في أشد الحاجة ليقظة المسلم ومعرفته بما يحمله من مشروع هداية وسعادة للعالم إن هو فقه.
إنه من العجيب أن ترى أكثر الدول رفاهية هي أكثر أهلها انتحارا. إن الإنسان كلما شعر بالجوع لجأ لإشباع احتياجاته الجسدية, وإذا وصل لحالة الشبع النهائي شعر بظمأ روحه ثم هو لا يجد ما يشبعها فينهي حياته بيده.
إن المجتمع الغربي وصل بحضارته المادية لدرجة من التشبع التي وضعته في حالة خصام مع روحه واحتياجاتها التي لا يجد لها مصدرا، ومن هنا يبدأ دور المسلم، ولكن للأسف، مكانة المسلم بالنسبة لغيره لا تؤهله لأن يكون مصدر هذا الإشباع الروحي.
لقد قلت في موضع آخر إن المسلم لن يستطيع أن يزاحم الغربي في مستواه المادي ولا في حضارته وعلمه، لكنه يحمل بين يديه منهاجا ربانيا يُصلح به شأن تلك الحضارة المادية لتستقيم مع روح الإنسان وطبيعته في احتياجه لإله يعبده، إله يعود إليه في شدته وضعفه, ووحده المسلم هو الذي يملك تلك العقيدة الربانية التي لم يطرأ عليها طارئ من تبديل أو تزييف، لكن أين المسلم اليوم بما يحمله من دين منقذ للبشرية؟
رأي مالك بن نبي
إن كلا الجانبين؛ الشرقي الذي يمثل الإسلام, والغربي الذي يمثل الحضارة المادية, يمر بأزمة حضارية كما يصفها ” مالك بن نبي ” في “رسالة المسلم في الثلث الخير من القرن العشرين”, فيقول ” الأزمة التي تنتاب الحضارة أو الإنسان المتحضر اليوم تفقده حتى إنسانيته، فيصبح إما وحشا مفترسا ضاريا ينقض على كل ما يستطيع تحطيمه، أو يصبح تائها في المتاهات التي تفتحها عليه المخدرات”. ويقول ” إن حضارة القرن العشرين أفقدت أو أتلفت قداسة الوجود في النفوس والضمائر، ولقد أتلفت القداسة لأنها عدتها شيئا تافها لا حاجة لنا به، ولقد انجرت إلى إتلافها بسبب منشأ ثقافتها التي يطلق عليها اليوم “العلمية ” والتي أخضعت كل شئ وكل فكرة لمقاييس الكم منذ عهد ديكارت، لقد نجحت أوروبا بإخضاع كل شئ لمقاييس الكم, ولكن نجاحها يفسر بالتالي الأزمة التي تمر بها حضارتها، التي فقدت كل مسوغاتها لأنها أفقدت الوجود قداسته، كان الوجود عندنا مقدسا في كل تفاصيله؛ في حياة الحشرات كان مقدسا، في حياة الإنسان كان أكثر قداسة، حتى الأشياء التي تلقى في الشوارع كانت لها تفاصيل توحي بقداستها، كان المار في الشارع إذا وقعت عينه على فتات خبز، انحنى والتقطه، ويقبله ويضعه في مكان طاهر، لأنه كان يشعر بقداسة هذا الفتات من الخبز، أما الأوروبي فلا يهمه هذا ولا يلتفت إليه لأن هذا الفتات من الخبز، لا قيمة له في نظره الكمي، إذ لا ثمن له، لذا يلقى مع الأشياء الأخرى في سلة المهملات، وتركت أوروبا في سلة مهملاتها كل قداسة الأشياء، وكل القيم المقدسة، وفي آخر المطاف دار عليها صولجان علمها وطغيانها العقلي، كثعبان التوى على صدرها فضيق عليها الأنفاس. أوروبا اليوم لا تتنفس التنفس الطليق، بل تتنفس تحت ضغط عالم الأشياء المتراكمة، إذ بقدر ما تراكمت الأشياء، وبقدر ما تراكمت الإمكانيات الحضارية اضمحلت القاعدة الأخلاقية الروحية المعنوية التي تتحمل في كل مجتمع عبء الأثقال الاجتماعية والأثقال المادية، إذ لا بد من قاعدة روحية متينة حتى تتحمل هذه الأعباء التي ترزح تحتها أوروبا والحضارة أو الحضارة الغربية اليوم وهي في خضم الأشياء التي تنتجها التكنولوجيا “
إن كلا الجانبين يعاني وجود أزمة حضارية، لكن أزمة المسلم أخف وطأة من أزمة الأوروبي، فأزمته تؤثر على أقل تقدير على كرامته وبقائه كإنسان، ولم تدخل به في عالم الآلة أو الحيوانية .
ولكي يستطيع المسلم أن يعطي ويصلح ما أفسدته الحضارة الغربية فيجب عليه أولا أن يؤهل نفسه ليكون اليد العليا ، أو كما قال مالك بن نبي أن الماء لا يسري من أسفل إلي أعلي ، العالم يحتاج إلي ماء الإيمان ليرتوي ، فأصبح لزاما وواجبا علي المسلم أن يكون الأعلى كي يستطيع تقديم ما لديه للعالم .