السلام العظيم الذى لوح به الرئيس الأمريكى بمثابة نكبة ثانية للعرب.
(1)
صحيح أننا مازلنا نعيش فى ظل تداعيات النكبة الأولى التى وقعت عام ١٩٤٨، إلا أن أخبار التجهيز للنكبة الثانية تلقيناها فى الأسبوع الماضى أثناء زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو للولايات المتحدة واجتماعه مع الرئيس دونالد ترامب.
وهى الأخبار التى قرأنا عناوينها فى التقارير التى خرجت من واشنطن بخصوص القضية الفلسطينية, فى حين نشرت تفاصيلها وسائل الإعلام الإسرائيلية.
حاصل جمع العناوين مع التفاصيل يرسم صورةً معالمها كالتالى:
– طويت صفحة حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية، ولا مجال لفكرة الدولة الواحدة، والباب مفتوح أمام الفلسطينيين لكى يبحثوا عن بدائل أخرى لهم.
– الأولوية الآن للبحث عن حل إقليمى يتمثل فى تحالف إسرائيلى مع بعض الدول العربية «المعتدلة» يفتح الباب لاحقا لإمكانية «التفاهم» حول الملف الفلسطينى, وهو ما وصفته صحيفة هاآرتس (فى ١٦/٢) بمبادرة الانطلاق من الخارج للوصول إلى الداخل.
بمعنى البدء بالعالم العربى للوصول إلى الساحة الفلسطينية. الأمر الذى يقلب مفهوم المبادرة العربية التى دعت إلى انسحاب إسرائيل من الأراضى المحتلة فى عام ١٩٦٧، كشرط للتطبيع مع جميع الدول العربية.
– الحديث الآن عن استعداد ثلاث دول للتفاعل مع فكرة الحل الإقليمى, والدول الثلاث هى إسرائيل ومصر والأردن, والأمل معقود على الإدارة الأمريكية لكى يتولى الرئيس الجديد ترتيب إشراك السعودية والإمارات فى ذلك الترتيب.
– صحيفة وول ستريت جورنال ذكرت فى ١٧/٢ أن التحالف المقترح سيكون بمثابة «ناتو» عربى، أى تحالف عسكرى إقليمى لمواجهة إيران.
– الصحيفة ذاتها نشرت أن الإدارة الأمريكية عازمة على أخذ الموضوع على محمل الجد, وأن وزير الدفاع الأمريكى جيمس ماتيس سيناقش ما وصفته بخطط إقامة «الحلف الجديد» مع المسئولين فى الدول المعنية التى يزورها هذا الأسبوع فى جولة بدأها بأبوظبى.
(2)
هذا الكلام الصادم لا يفاجئنا تماما، إذ رغم أنه يعبر عن توافق أمريكى إسرائيلى إلا أنه لم يصدر أى تعليق عربى رسمى عليه، خصوصا أن ثمة قمة عربية يفترض أن تنعقد فى العاصمة الأردنية عمان فى أواخر شهر مارس المقبل. مع ذلك لدينا قرائن وإشارات تدل على أن هناك شيئا ما يتحرك فى العالم العربى يجعلنا لا نستبعد السيناريو الذى طالعناه فى واشنطن.
بالمناسبة فإن نتنياهو سُئل أثناء حوار له فى واشنطن مع تليفزيون قناة (إم إس إن بى سى) عن الدول العربية التى تقيم تحالفا مع إسرائيل، فابتسم وقال: من ليس كذلك؟
من القرائن التى أعنيها ما يلى:
– تقرير الرباعية العربية الذى ذاع أمره فى شهر سبتمبر من العام الماضى (٢٠١٦)
ــ ومن المصادفات ذات الدلالة فى هذا الصدد أن الدول الأربع المشاركة فى تلك اللجنة هى ذاتها المرشحة للدخول فى التحالف المراد إقامته بالمشاركة مع إسرائيل.
ذلك أن التقرير دعا إلى وحدة الصف الفلسطينى، ومعالجة الانقسام الحاصل داخل حركة فتح (لإعادة القيادى المفصول محمد دحلان إلى الحركة)، وقد ورد فى التقرير ما نصه:
«فى حال عدم قيام الفلسطينيين بما عليهم واستمروا فى الانقسام على أنفسهم، ستضطر بعض الدول العربية لدراسة بدائلها الخاصة فى التعاطى مع ملف الصراع العربى الإسرائيلى»
ــ وهذا النص إذا تأكدت صحته، فإن الجملة الأخيرة منه يمكن أن تمهد لتنفيذ الحل الإقليمى الذى تحدث عنه ترامب ونتنياهو، باعتباره من «البدائل الخاصة» المرشحة أمام بعض الدول العربية للتفاعل مع الملف الفلسطينى.
– كتابات لآحاد الأكاديميين المصريين المرتبطين بالأجهزة الأمنية ذات الصلة بالموضوع، خصوصا تلك التى نشرتها جريدة «الشروق» لنفرٍ منهم دعوا إلى الانتقال فى التعامل مع إسرائيل من التطبيع إلى التحالف، كما تحدثت تلك الكتابات عن أهمية «خروج مصر للعالم بخطاب سياسى جديد فى ضوء مراجعات سياسية شاملة». وألمحت إلى أن مصر قادرة على أن تطرح «مبادرة منفردة» لإحياء عملية السلام فى الشرق الأوسط (٣/٩/٢٠١٦)،
وفى طور لاحق (فى ١٦/١/٢٠١٧) نشرت «الشروق» مقالة حبذت خيار «قيام مصر بتنمية علاقاتها مع الولايات المتحدة من منطلق استراتيجى بالتنسيق مع إسرائيل من جانب, والأردن من جانب آخر، فى إطار مخطط أمريكى لبناء شراكة على أسس جديدة تضم مصر والأردن وإسرائيل».
وهذا النص الأخير يكاد يتطابق مع معلومات التقرير الذى نشرته عن فكرة التحالف المنتظر صحيفةُ «وول ستريت»، بعد شهر تقريبا من نشره بجريدة «الشروق».
(3)
السلام العظيم أو الرائع الذى تحدث عنه الرئيس الأمريكى، والذى اعتبره نتنياهو فرصة تاريخية, لم يُبْقِ على شىء من عناصر القضية وخياراتها التى طرحت طوال العقود الماضية.
ذلك أنه أسقط حل الدولتين، كما لم يدع مجالا للحديث عن حدود عام ١٩٦٧، أو اتفاقية أوسلو، أو القرارات الدولية المتعلقة بالاستيطان أو التى تحدثت عن حقوق الشعب الفلسطينى. ببساطة لأن الفلسطينيين هم المعتدون والظلمة الذين انتقدهم الرئيس ترامب ودعاهم إلى الكف عن كراهية الإسرائيليين (حيث لم يجد مبررا لذلك!).
وحسب تصريح السيد ياسر عبدربه؛ عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، فإن نتنياهو أقنع ترامب بضرورة بقاء السيطرة الأمنية الإسرائيلية على المساحة الممتدة من البحر المتوسط حتى الأردن، بحيث لا يبقى للفلسطينيين سوى إقامة كيان خاص بهم على المناطق الواقعة تحت إدارة السلطة الفلسطينية حاليا، المسماة مناطق «أ» و«ب»، التى تساوى أقل من نصف مساحة الضفة الغربية.
بمعنى أن يتحول الوجود الفلسطينى بمثابة محمية تحت الوصاية الأمنية الإسرائيلية.
وعلى حد تعبيره فإن ذلك يعد أخطر حل يقدم للقضية منذ وعد بلفور عام (١٩١٧), بل إنه يصبح استكمالا لما لم ينجزه ذلك الوعد فى مناسبة مرور مائة عام على صدوره.
فى هذا المعنى نشرت صحيفة «يسرائيل اليوم» تعليقا كتبه يوعز بسموت قال فيه إن تصريحات ترامب حوّلت سنوات أوباما الثمانى وعهد كلينتون بالحلول التى تبنياها ــ فكرة الدولتين مثلا ــ إلى تاريخ قديم، كما حولت أوسلو ومبادرات السلام لعلماء الآثار».
فى ظل الحل الكارثى والسلام الذى يُمحى فيه كل ما كان مطروحا من خيارات ومبادرات فى السابق تنكشف الخدعة الإسرائيلية الكبرى، التى لا تقبل بأكثر من مجرد كانتونات فلسطينية تقوم فيها السلطة فى رام الله, وحماس فى غزة بدور البلديات التى تقدم الخدمات الرئيسية للجمهور.
كما يتاح لها أن تمارس النشاطات الجماهيرية التى لم يكن مسموحا القيام بها تحت الاحتلال المباشر.
كان ذلك تعليق الصحفية الإسرائىلية اليسارية؛ عميرة هاس فى مقال لها نشرته صحيفة «هاآرتس»، مضيفة أن ذلك لم يمنع الرئيس الأمريكى من أن يوفد رئيس المخابرات الأمريكية (سى آى إيه) للاجتماع مع محمود عباس لإبلاغه رسالة تطمئنه إلى استمرار وجود «السلطة الفلسطينية»، لأن ذلك مهم بالنسبة للولايات المتحدة التى تعرف أن صيانة الكانتونات تضمن نوعا من الاستقرار النسبى.
فضلا عن أنهم يريدون وجود السلطة للإبقاء على تقسيم الضفة الغربية إلى مناطق «أ» و«ب»، كى يتسنى لإسرائيل أن تضم مناطق «ج» التى تشمل أقل عدد من السكان الفلسطينيين وأكبر مساحة من الأرض (يوجد فيها الآن ٢٠٠ ألف مستوطن مقابل ١٠٠ ألف فلسطينى).
(4)
ما سبق ليس قدرًا بطبيعة الحال، لكنها مجرد «سيناريوهات» للمستقبل تبنتها الإدارة الأمريكية الجديدة بالتوافق مع الإسرائيليين. وليس ذلك جديدا تماما لأن انحياز الولايات المتحدة لإسرائيل لا يفاجئنا, وكل ما حدث أنه بدا فجا وفاحشا, الأمر الذى يجعله تطورا فى الدرجة، من وجهة نظرنا.
لكن الأمر يختلف حين يقال إن هناك تفاهما مع بعض الدول العربية «المعتدلة» بخصوصه، إذ إنه يصدمنا ويفجعنا لأنه يغدو تغيرا فى النوع وليس فى الدرجة. ذلك أنه ينقلنا من مشهد «القضية المركزية»، إلى مستنقع اللاقضية.
ومن ثم يفرض علينا نكبة ثانية تستهدف الإجهاز على القضية.
كنت أحد الذين أثاروا الموضوع، حين تساءلت فى مقالى المنشور فى ٧ فبراير عن أبعاد صفقة ترامب مع العالم العربى, وضمّنت المقال تساؤلات وشكوكا حول الثمن الذى سيدفعه العرب إلى الرئيس الأمريكى، إذا ما قرر أن يتفاعل مع طلباتهم خصوصا ما تعلق منها بمواجهة التمدد الإيرانى أو اعتبار الإخوان جماعة إرهابية.
وقبل ذلك (فى ٢٤ يناير) عبرت عن القلق من احتمال أن تصبح فلسطين ضحية أمريكا الجديدة (كان ذلك عنوان المقال).
إلا أن لقاء ترامب ونتنياهو أعفانا من التساؤل والشك، بعدما أصبح اللعب على المكشوف، ولم يعد هناك غموض فى حقيقة «السلام العظيم» الذى نحن مقبلون عليه.
إزاء ذلك لم يعد لدينا ما نسأله عن جوهر ما يخطط له الإسرائيليون والأمريكيون، وإنما لدينا عديد من الأسئلة حول رد الفعل الفلسطينى والعربى.
ولست أشك فى أن الموضوع سوف يثار فى مؤتمر القمة العربية الذى سيعقد فى الأردن قبل نهاية شهر مارس المقبل، وليس ذلك كل شىء، لأننا إذا سمعنا صوت الأنظمة العربية، فإن صوت الشعوب العربية لابد أن يسمع أيضا.
وإذا كان الصوت الأول مفهوما وستكون مشكلته فى «الإخراج» وكيفية تمرير النقلة المطلوبة من جانب البعض، فإن حدود وتجليات الصوت الثانى مفتوحة الآفاق على كل الاحتمالات.
لا أكاد أجد حوارا مسموعا حول الموضوع بشقيه فى وسائل الإعلام العربى على الأقل، لكن بعض الكتابات الإسرائيلية انتقدت جهل الرئيس الأمريكى وعقم فريقه، وحذرت من عواقب عدم درايتهم بتعقيدات الموضوع وخرائط المنطقة.
وهناك كتابات أخرى توقعت أن يشهد العالم العربى انفجارات متتالية بسبب ذلك «السلام العظيم».
وهو أمر مخجل ومهين حقا أن نحاول قراءة مستقبلنا فى كف خصومنا، إلا أن ذلك يظل أحد تجليات الوضع البائس الذى صرنا إليه، الأمر الذى يدفعنا إلى اليأس مما نراه والمراهنة على ما لا نراه.
لدى سؤال عبثى أخير هو:
إذا قدر للناتو العربى الجديد أن يتشكل بتحالف إسرائيل مع بعض الدول العربية، وحدثت انتفاضة فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، ففى أى جانب ستقف الدول العربية الشريكة فى التحالف؟!