فهمي هويدي يكتب: عن المخاصمة لا المصالحة

أدعو إلى تأجيل الحديث عن المصالحة في مصر، والانشغال بملف المخاصمة الذي بات أكثر إلحاحا.

(1)

“ممكن نتصالح مع الإخواني إذا لم تلوث يده بالدماء، فهو مواطن في النهاية ما دام لم ينسب إليه أي فعل إجرامي.. لماذا إذن لا نتصالح معه ليدخل ضمن نسيج الشعب المصري؟”

هذه الكلمات الثلاثون وردت في سياق حوار أجرته جريدة «اليوم السابع» مع المستشار مجدي العجاتي وزير الدولة للشؤون القانونية. ورغم أن الحوار كان موضوعه العدالة الانتقالية، وتطرق إلى أمور أخرى عديدة، إلا أن أغلب الذين قرأوه وكل الذين علقوا عليه لم تستوقفهم فيه سوى تلك العبارة.

ذلك أنه ما إن نُشر وظهر على موقع الجريدة حتى تعالت أصوات البعض رافضة ومنددة ومشككة في دوافع إطلاق الكلام، ومتسائلة عما إذا كان بمثابة جس نبض أو فرقعة مقصودة للاختبار، أم أنه تمهيد لصفقة قادمة في الطريق.

وزايدت على الجميع كتائب الإبادة، فمن قائل إنهم لم يعودوا جديرين بالبقاء على أرض مصر، وداعٍ إلى قطع لسان كل من حاول فتح الموضوع.

ولم يقصر وزير الأوقاف في المزايدة فأفتى بأن الكشف عن تلك العناصر الخبيثة «واجب شرعي».. إلخ.

رغم أنه ليس معروفا ما إذا كان ما صدر عن الوزير العجاتي كان رسالة مقصودة أم زلة لسان، أم أنه كان مجرد إجابة على سؤال بريء وجهه إليه الصحفي، إلا أن الذي لا خلاف عليه أن ما قاله وزير الشؤون القانونية أحدث زوبعة لا تزال أصداؤها تتفاعل في وسائل الإعلام، رغم مضي أسبوعين أو أكثر على نشر كلامه.

كان اقتناعي ولا يزال أن موضوع المصالحة ليس مطروحا للبحث في الساحة المصرية الآن، فيما هو ظاهر على الأقل.

ورغم أن الدعوة إلى المصالحة الوطنية طرحت في خارطة الطريق التي أعلنتها قيادة القوات المسلحة في الثالث من يوليو عام 2013 إلا أن الأمر ظل مؤجلا طول الوقت. وبات واضحا أن شروط المصالحة غير متوفرة، وأولها الإرادة السياسية. لذلك فلعلي لا أبالغ إذا قلت إن ما يُثار هذه الأيام بخصوص الموضوع يظل من قبيل الثرثرة السياسية التي تثير الجدل واللغط، فتضيع الوقت وتستهلك الجهد بغير طائل.

لذلك تمنيت أن نؤجل مناقشة الموضوع لظرف آخر تكون قد نضجت فيه فكرة المصالحة التي بغيرها لن يتوقف الاحتقان ولن يعرف الوطن الاستقرار. وقد سبق أن دعوت إليها وتمنيتها، ورجوت أن تشمل مختلف فئات المجتمع وقواه السياسية وليس جماعة بذاتها. وكان رأيي في ذلك أن توسيع دائرة المصالحة لتشمل مختلف فئات المجتمع ومنظماته المدنية أمر محل إجماع، أما حصرها في محيط الإخوان دون غيرهم فقد يكون موضوعا خلافيا لا ينعقد حوله الإجماع المنشود.

(2)

إذا كان تأجيل الحديث عن المصالحة نظرا لعدم توافر شروطها مبررا، فإن فتح ملف المخاصمة يبدو ملحا ولا يحتمل التأجيل، والمخاصمة التي أعنيها تتمثل في موقف النظام وأجهزته إزاء المعارضين، الذي لا يُطالب فيه النظام بأي تنازل، فضلا عن أنه لا يتطلب إجراء أي حوار مع المعارضين؛ إخوانا كانوا أم غير إخوان. وغاية ما يُطالب به النظام أن يدعو أجهزته إلى احترام إنسانية المعارضين، من خلال الالتزام بمبادئ العدل واحترام القانون. وذلك يحتاج إلى قرار سياسي، لأن اللدد في الخصومة أو التنكيل بالمعارضين ليس هواية يمارسها البعض ولكنه أيضا سياسة مقررة, إذا لم تكن تنفذ بتعليمات فالقدر المتيقن أنه يمكن حظرها بتعليمات.

وإذا جاز لنا أن نتصارح أكثر فإننا لا نستطيع أن ننكر أن المخاصمة في بلادنا تفتح الباب واسعا لاستباحة الآخر بما يؤدي إلى تجريده من حقوقه وإنسانيته؛ من حقه في الكرامة إلى حقه في الحياة.

والآخر المستباح في هذه الحالة ليس المعارضين فقط، لكنهم أيضا النشطاء المستقلون وكل من لا يشمله الرضا.

صحيح أن ثمة إنكارا تاما لذلك من جانب وزارة الداخلية، إلا أن وثائق المنظمات الحقوقية المستقلة في مصر, وكذلك المنظمات الدولية المحايدة، توثق تلك الاستباحة بما لا حصر له من الشهادات والوقائع.

الذي لا يقل عن ذلك أهمية أن مواقع التواصل الاجتماعي في مصر تحفل بما لا حصر له من البيانات والمعلومات التي تؤكد تلك الاستباحة بتجلياتها المختلفة، من وقائع التعذيب والحبس الانفرادي، والحرمان من الغذاء والدواء، وحملات التنديد بالاختفاء القسري فضلا عن استغاثات المرتهنين للتحقيق لآجال مفتوحة، دون أن يسألوا أو يعرفوا حقيقة المنسوب إليهم أو تلوح لهم بادرة أمل في المستقبل.

التنكيل حاصل أيضا بالنشطاء والمعارضين خارج السجون، حتى كان مثيرا للدهشة أن تمارس الضغوط وتُثار الشبهات حول المنظمات التي ترفض التعذيب وتدافع عن الديمقراطية؛ فقد أحيل إلى التحقيق المحامي الحقوقي نجاد البرعي واثنان من القضاء لأنهما أعدا مشروعا لمكافحة التعذيب، وصدر قرار بإغلاق مركز النديم لعلاج ضحايا التعذيب، وتم التحفظ على أموال أحمد سميح فراج مدير مركز “أندلس” لدراسات التسامح ومناهضة العنف، وسجن الباحث هشام جعفر منذ سبعة أشهر لرئاسته مؤسسة للتنمية والدفاع عن المسار الديمقراطي.

لم يسلم من التنكيل المتظاهرون السلميون الذين باتوا يحالون إلى القضاء العسكري أو تفرض عليهم غرامات باهظة، أما الذين يدونون آراءهم النافذة ويعبرون عن مشاعرهم على صفحاتهم الخاصة فإنهم يتعرضون للمنع من السفر، وأحيانا إلى الفصل من الوظيفة ومصادرة الأموال الخاصة، وربما أفضى ذلك إلى التشهير بهم وتدميرهم أدبيا وسياسيا.

(3)

خلاصة الكلام أن غير المرضي عنه, أو المعارض لا حماية له ولا كرامة، ومن ثَمَّ فكل ما هو مطلوب أن تُحترم كرامة وإنسانية صاحب الرأي المخالف طالما أنه يعبر عن موقفه أو يتصرف في حدود القانون.

ولا يستطيع المرء أن يخفي شعوره بالحزن والأسف حين يسمع من المحامين أنهم لم يعودوا يتطلعون إلى إطلاق سراح الأبرياء, ولكنهم أصبحوا يتمنون لهم معاملة إنسانية في محبسهم وتحقيقا نزيها يحفظ لهم كرامتهم، وحتى إذا قضت المحاكم بسجنهم فإن ذلك لا ينبغي أن يجردهم من إنسانيتهم.

في الأسبوع الأول من شهر يونيو الحالي صدر قرار بحبس المستشار هشام جنينة، رئيس جهاز المحاسبات السابق، حين رفض دفع الكفالة التي قررتها نيابة أمن الدولة، وحين نقلته مدرعة إلى قسم الشرطة لينفذ الحبس فإن المأمور أودعه غرفة مناسبة (كانت مكيفة الهواء) ليقضي فيها ليلته، وبعد ساعات من بقائه بالغرفة جاءه في منتصف الليل من طلب منه الانتقال إلى غرفة أخرى ليس فيها سوى بلاط عارٍ ودورة مياه غارقة في الفضلات، ولم يكن بحاجة إلى من يبلغه بأن ذلك تم بناءً على تعليمات من خارج قسم الشرطة.

ثم كانت المفاجأة أنه بعد أيام من إطلاق سراحه ودفع الكفالة، صدر قرار بفصل ابنته “شروق” من وظيفتها بالنيابة الإدارية بغير الطريق التأديبي. وحين لم يذكر السبب فلم يكن هناك من تفسير لذلك سوى أنه من توابع عقاب الأب الذي تحدث عن الفساد فحوكم هو ولم يحاكم الفاسدون!

في واقعة أخرى أصدرت محكمة جنايات الجيزة في 18/6 حكمها في القضية التي عرفت إعلاميا بالتخابر مع قطر وقضت بحبس الدكتور محمد مرسي رئيس الجمهورية الأسبق بالسجن 40 عاما في اتهامه بقيادة جماعة محظورة على خلاف القانون واختلاس مستندات ووثائق، وبرأته المحكمة مع آخرين من تهمة الحصول على مستندات بغرض تسليمها إلى جهات أجنبية، وقد أبدى غيري رأيه في مفارقات الأحكام التي صدرت، لكن أكثر ما أثار انتباهي أن وسائل الإعلام أغفلت أو أخفت خبر تبرئته من تهمة التخابر باستثناء صحيفة «المصري اليوم» التي أشارت إليها. ورغم براءته من التهمة ظلت تعليقات البعض مصرة على إدانته فيها، فدأبت على وصفه بالرئيس الجاسوس والخائن في تشفٍ مستهجن، وادعي أحدهم أنه عاش خائنا، وسيموت كافرا هكذا مرة واحدة.

(4)

لديّ أربع كلمات في التعليق على ما سبق هي:

– الأولى أن ما يجري من تنكيل واستباحة للناقدين أو المعارضين يُحسب على النظام والسلطة بكل رموزها ومراتب قياداتها، حتى إذا لم تأمر به أو لم تعلم به. ذلك أن الذين يمارسون تلك الانتهاكات إن لم يكونوا ينفذون رغبات أو توجيهات، فهم على الأقل يتصرفون على نحو يطمئنون به إلى أنه يرضي قياداتهم.

وقد أسلفت أننا إذا افترضنا أن الانتهاكات تتم بغير تعليمات، إلا أن الثابت أنه يمكن إيقافها بتعليمات صريحة وحازمة، وفي كل الأحوال فإن التعذيب والتنكيل يظل جريمة دولة ــ كما قيل بحق ــ وليس جريمة أفراد أو أجهزة.

– الثانية إنني أستغرب كثيرا أن يتم التنكيل بالمحبوسين أو أهاليهم أو غيرهم من الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، سواء في رد الأذى أو بتفنيد الاتهام. وهو ما يهتك أبسط مبادئ العدل والإنسانية. لا أتحدث عن النخوة والمروءة والشهامة وغير ذلك من الشمائل التي يعتز بها العرب، فنحن أبعد ما نكون عن كل ذلك، وإنما أتحدث فقط عن الحد الأدنى من الإنسانية والكرامة.

– الكلمة الثالثة تتعلق بما يبدو أنه دفاع من جانبي عن المظلومين الذين تُستباح كراماتهم، فذلك صحيح نسبيا، وهو ما أتشرف به، إلا أنه أيضا دفاع عن قيم المجتمع التي إذا سكتنا على استمرار انتهاكها فلن يسلم من التنكيل كل واحد منا يوما ما، وسنندم جميعا حينذاك لأننا سكتنا، إذ سينطبق علينا حينذاك قول من قال: أكلت يوم أكل الثور الأبيض.

– الكلمة الرابعة ليست لي، ولكنها مأثورة عن الحسن البصري أفقه أهل زمانه، إذ قال “أحبوا هونا وأبغضوا هونا، فقد أفرط قوم في حب قوم فهلكوا، وأفرط قوم في بغض قوم فهلكوا”،

وهو مصير نسأل الله أن ينجينا منه في الدنيا والآخرة.

شاهد أيضاً

د. عطية عدلان يكتب : الشعب المهضوم والوُعَّاظ الغلاظ.

لا يذهبنّ بك الظنّ بعيدًا، فلست بمتحدث عن الواعظين الذين يتشددون في وعظهم ويسرفون في …