قال هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في الفترة من 1973 إلى عام 1977، في حوار أجرته معه صحيفة The Jerusalem Post الإسرائيلية، الإثنين 25 سبتمبر 2023، إنه حين كان وزيراً للخارجية الأمريكية في فترة الحرب بين مصر وإسرائيل، كان يتعيَّن عليه الدفاع عن المصالح الإسرائيلية، وأشار إلى أن منطلق جهود السلام السابقة قبل حرب أكتوبر 1973 كان التوصل إلى حل شامل وإجبار إسرائيل على العودة إلى حدود عام 67. لكنَّه كان مقتنعاً بأن ذلك أمر بعيد المنال، ولذا جادل لسنوات بأنَّ التعاون الدبلوماسي يجب أن يتم على أساس تدريجي في نهج خطوة بخطوة.
وحول تطور الوضع بالشرق الأوسط عام 1973، قال: كنتُ قد أصبحتُ وزيراً للخارجية قبل أسبوعين فقط من بدء الحرب، لكنَّني كنتُ مستشاراً للأمن القومي لمدة 4 سنوات ونصف. ولم تحتوِ التقارير الاستخباراتية التي تلقّيتُها على أي معلومات غير معتادة. ثُمَّ بعد تنصيبي وزيراً للخارجية، رأيتُ تقارير حول احتشاد لقوات الجيش المصري. ولا أذكر أنَّ التقارير أبلغت عن أي شيء خاص بالسوريين، لكنَّها كانت بالتأكيد تفيد بوجود عملية تحشيد. وقد اعتقدنا أنَّ الأمر لا يعني الكثير، لأنَّ الرئيس المصري أنور السادات كان يهدد كثيراً في السنوات السابقة ولم يفعل أي شيء. وحاولت إسرائيل طمأنتنا، إذ كانوا يخشون من أن نفرض ضغوطاً، لذا أخبرونا بأنَّهم لا يرون داعياً إلى أي قلق خاص. ولم تظهر المخاوف من نشوب حرب فعلية إلا يوم الجمعة، 5 أكتوبر، عشية عيد الغفران اليهودي.
وقد أمر الكرملين الدبلوماسيين الروس وعائلاتهم بمغادرة الشرق الأوسط والعودة إلى ديارهم في الاتحاد السوفييتي. وفي لندن، حطَّ رئيس الموساد آنذاك في العاصمة البريطانية في زيارة غير متوقعة، وكان قد استُدعي إلى لقاء مع “الملاك”، وهو الاسم المستعار لأشرف مروان، صهر جمال عبد الناصر والذي كان من بين مستشاري السادات المقربين، فضلاً عن كونه عميلاً للموساد. وقبل 14 ساعة من اندلاع الهجمات في سيناء ومرتفعات الجولان، قدَّم مروان أهم المعلومات بشأن ساعة الصفر وتنسيق الهجمات بين الرئيس المصري أنور السادات والرئيس السوري حافظ الأسد. ولم تبدأ تعبئة قوات الاحتياط الإسرائيلية إلا في وقتٍ لاحق، في منتصف صيام عيد الغفران.
وفي واشنطن، كانت المدينة قد وصلت تقريباً إلى حد الغليان، لكن ليس بسبب رياح الحرب التي تهب في السويس، بل لأنَّ فضيحة “ووترغيت” كانت قد بدأت تُطبِق على الرئيس آنذاك ريتشارد نيكسون. ولم يكن الاهتمام منصبّاً على الشرق الأوسط. وفي الجمعة السابقة على بدء الحرب، تلقّينا معلومات حول سحب الروس أفرادهم من الشرق الأوسط، وحينها بدأنا في بذل جهود حثيثة لتهدئة الوضع. فبعثنا بمناشدات للمصريين، ولا أعلم إن كنا أرسلنا رسالة لسوريا.
وقد جمعتُ ما نُسمِّيها “مجموعة العمل الخاصة في واشنطن”، وكان القرار الذي اتخذناه هو استغلال الهجوم المصري من أجل الترويج لعملية سياسية. وكان التخوف بين المستشارين الأمريكيين هو أنَّ إسرائيل قد تحسم المعركة سريعاً. فكنا نعتقد أنَّ الجيش الإسرائيلي سيصل إلى الإسكندرية في غضون أيام، قبل أن يطأ المصريون بأقدامهم سيناء حتى. لذا، أردنا وقف القتال والعودة إلى الوضع الراهن السابق بهدف السماح بإجراء الحوار.
وقال إنه بعد نهاية يوم من القتال (6-7أكتوبر 73)، عند ظهيرة يوم الأحد تقريباً، كان واضحاً أنَّ الجيشين المهاجمين قد أحرزا تقدماً كبيراً. لكنَّنا كنا عازمين منذ البداية على منع حدوث انتصار عربي كنا ننظر إليه باعتباره انتصاراً سوفييتياً. وكنا مقتنعين تماماً منذ اللحظة الأولى بأنَّنا سنستعيد الوضع القائم، لكن بنهاية اليوم الأول، كان واضحاً أنَّ الجيشين المهاجمين حققا تقدمات كبيرة.
كان مشهد المعركة مختلفاً تماماً عما تخيَّله الخبراء الأمريكيون. فحين اندلع الهجوم، تمكَّن المصريون من اختراق خط بارليف والعبور بأكثر من 100 ألف جندي، ونحو 400 دبابة، ووحدات قوات خاصة إلى سيناء، وإقامة عدة جسور على القناة.
وكانت إسرائيل في الأيام الأولى من الحرب تخسر ما يقارب 200 مقاتل يومياً. وأسرت مصر كثيراً من جنود الخطوط الأولى. ولم يكن لدى سلاح الجو الإسرائيلي رد ملائم على صواريخ SA6 سوفييتية الصنع المضادة للطائرات. والتحق الطيارون الذين أُصيبوا وتمكَّنوا من القفز من طائراتهم بالجنود الذين أُسِروا في تحصينات خط بارليف. وتعرَّضت الأرتال الإسرائيلية المدرعة التي تقدَّمت نحو سيناء بصورة غير منتظمة للهجوم من الجو. وفقد سلاح الجو الإسرائيلي في الأيام الثلاثة الأولى من القتال 49 طائرة، وأُعطِبَت 500 دبابة في سيناء. وكان هنالك نقص في ذخائر المدفعية بمستودعات الطوارئ، واكتُشِفَ أنَّ المعدات صدئة وغير قابلة للاستخدام جزئياً.
وتابع كينسجر: صُعِقَت الحكومة الإسرائيلية؛ وكان وزير الدفاع موشيه ديان ورئيسة الوزراء جولدا مائير على حافة الانهيار. وأصبحت الحاجة لاستبدال الطائرات التي أُسقِطَت واضحة. وكانت هناك حاجة إلى الذخيرة لتعويض النقص الذي جرى اكتشافه في الساعات الأولى للحرب. وأدَّت عزلة إسرائيل في العالم والوضع السياسي الخاص الذي كان سائداً في واشنطن.
جرى طرح مسألة إعادة إمداد إسرائيل بالأسلحة. ولم نكن قد فكرنا بصورة جدية قط في وضعٍ يحدث فيه إحراز تقدم مدعوم سوفييتاً في الشرق الأوسط، لذا حين أصبح ذلك واضحاً، بدأنا نتحدث عن إعادة التزويد بالإمدادات. كانت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) معارضة بقوة لأي إعادة إمداد لإسرائيل من العتاد الأمريكي. لذا، رتّبنا أن يرسل الإسرائيليون طائراتهم ونقوم نحن بتعبئتها. وآنذاك، كانت المعدات عالية التقنية هي بالأساس ما يمكن استخدامه بصورة فورية.
وأشار إلى أنه لم تكن هناك حاجة مُلحة للاتصالات الإسرائيلية معنا على أعلى المستويات حتى صباح الثلاثاء. حينها، جاء السفير الإسرائيلي، سيمحا دينيتز، إلى مكتبي مصحوباً بالملحق العسكري. وقد تحدثا عن حجم الخسائر الإسرائيلية في الساعات الـ48 الأخيرة وطلبا تجديد الإمدادات بصورة عاجلة. كان ذلك هو اليوم الذي استقال فيه نائب الرئيس سبيرو أغنيو من منصبه، وكانت ذروة التحقيقات وجلسات الاستماع حول فضيحة ووترغيت، لذا لم أتمكَّن من رؤية نيكسون حتى الساعة الخامسة بعد ظهيرة يوم الثلاثاء. ناقشتُ الأمر مع نيكسون، وعند نحو الساعة الـ5:30 مساءً منحتُ دينيتز ردّي، وكانت هناك مشكلتان منفصلتان: المعركة الحالية، والمعركة الأطول أجلاً. في المعركة الدائرة حالياً، كان على إسرائيل وقف تقدم العدو والقيام بالهجوم قبل أن يتسنى حدوث التدخل الدبلوماسي الأمريكي بشكل ملموس، وقد حثثتهما على بدء الهجوم في بعض الجبهات، وقلتُ إنَّنا لن نتحرك دبلوماسياً إلا بعد نجاح ذلك.
وفي هذه الأثناء، كنا نُجهِّز جسراً جوياً مدنياً لإسرائيل، يبدأ على الفور. وبموجب هذا التفويض، تكوَّن الجسر المدني من إبلاغ شركات الطيران المدنية بجعل طائراتها متاحة للجسر الجوي، تحت إدارتها.
في غضون ذلك، كنا نواصل عملية إعادة الإمداد بالأسلحة عبر الطائرات الإسرائيلية. واتضح أنَّ تنظيم الجسر الجوي المدني أكثر صعوبة. كان الإسرائيليون سيبدأون هجوماً في مرتفعات الجولان، وكانوا يبحثون عرضاً لوقف إطلاق النار في الوقت نفسه. وكنتُ معارضاً جداً للتوصل إلى وقف لإطلاق النار بينما كانت المعركة تسير لصالح الهجوم. ونظرنا إلى الأمر أيضاً جزئياً من زاوية التأثير الذي قد يتركه تحقيق بلدان ذات تسليح سوفييتي لمكاسب دبلوماسية ناجمة عن عمل عسكري على النظام الدولي. وحين أصبح واضحاً أنَّ الجسر الجوي المدني لن يُنظَّم بالسرعة التي كنا نعتقد في البداية، ذهبتُ إلى نيكسون وأخبرته أنَّنا بحاجة إلى مستوى آخر من الجسر الجوي لإحداث تأثير على الوضع، أنَّنا بحاجة إلى جسر جوي عسكري. وقد أمر نيكسون بجسر جوي فوري للإسرائيليين، وبدأ جسر جوي عسكري كبير مساء الجمعة، واتخذ نطاقه الكامل صباح السبت.
استغرق الأمر ثلاثة أيام من أجل تعبئة الجسر الجوي العسكري الأمريكي بالكامل خلف إسرائيل. ولا أقبل بفكرة أنَّه كان هناك أي تأخير في هذا المسعى لأنَّه كان لدينا حتى صباح الثلاثاء انطباع بأنَّ الإسرائيليين سيتصدون للهجوم العربي بسهولة. ولذا، بدأنا منذ صباح السبت بدعم مقترح وقف إطلاق النار، على ألا يُقدَّم في الأمم المتحدة عن طريق الولايات المتحدة، بل عن طريق بلدان أخرى، وقد حاولنا دفع أستراليا ثم إنجلترا لتقديم المقترح. وقد رفضه السادات لأنَّه اعتقد أنَّه كان يحقق انتصاراً، وقد أمر بعبور فرقتين مدرعتين للقناة، ظناً منه أنَّ بإمكانهما فعل ذلك؛ لأنَّ إسرائيل لم تكن تملك التفوق الجوي هناك.
لكن بمجرد أن أصبحتا خارج نطاق المدفعية والأسلحة السوفييتية المضادة للطائرات، أصبحتا عرضة لخطر بالغ في مواجهة سلاح الجو الإسرائيلي. وقد خسر السادات بضع مئات من الدبابات في معركة يوم الأحد. وحينها تحوَّلت المعركة وعبرت القوات الإسرائيلية قناة السويس يوم الثلاثاء على ما أظن. لم يكن هناك تأخير، لقد بدأ الأمر منذ الليلة الأولى. ولم يكن من المتصور قبل الحرب أنَّ إسرائيل ستكون بحاجة إلى جسر جوي عند بدء الحرب.
بدأنا نرى التغيُّر في خريطة المعركة عقب الهجوم المضاد في الجولان ودحر السوريين وصولاً إلى ما يبعد مسافة 40 كم عن دمشق. وقد طالبت دمشق بزيادة المصريين للقتال في الجنوب بهدف تخفيف الضغط في الجولان. وقد حاول المصريون وفشلوا في ذلك. ثم كان عبور الإسرائيليين للقناة وحصار الجيش الثالث المصري. وقد دعاني السادات للقاء في موسكو. حينها، كانت القوات الإسرائيلية بالفعل قد عبرت القناة، وحين وصلتُ إلى هناك، أصررتُ على وقفٍ فوري لإطلاق النار. ومنذ طلبتُ من بريجنيف وقف إطلاق النار حتى تنفيذه، كانت تلك 48 ساعة أخرى حسَّنت موقف إسرائيل في ساحة المعركة.
أرسل السادات مستشاره الأمني قبل الحرب إلى واشنطن لمناقشة إمكانية القيام بخطوة نحو السلام. لكنَّها كانت مبادرة قائمة على البرنامج العربي. أي التراجع إلى حدود ما قبل حرب عام 1967 مقابل الاعتراف العربي بإسرائيل.
وحول تجنب حرب الـ6 من أكتوبر، قال: أعتقد أنَّه كان بالإمكان تجنُّب الحرب فقط إذا كانت إسرائيل وافقت على الانسحاب إلى حدود عام 1967، وهو ما لم تكن تستطيع فعله؛ لأنَّه كان من شأنه أن يؤدي لانكشاف الطريق بين تل أبيب وحيفا، وكان سيضعها تحت نيران خصومها. كما أنَّ كل الأحزاب السياسية في إسرائيل كانت معارضة لمثل هذه الخطوة، لذا كان يتعيَّن فرضها على إسرائيل، وهو الأمر الذي رفضناه. وحتى حينها، لستُ متأكداً أنَّ ذلك كان سيؤدي إلى تجنُّب الحرب، لأنَّ السادات كان مقتنعاً بأنَّ العالم العربي بحاجة إلى عمل عسكري ناجح. ولم يكن نيكسون راغباً في ذلك على الإطلاق، وبموافقة قوية مني.