أصابَ اليأسُ والقنوطُ بعضَنا مما تعانيه الأمة على كافة الأصعدة، ونسمع:” ليس لها من دون الله كاشفة”، ومَن يقرأ التاريخَ يدرك أن سننَ اللهِ ماضيةٌ، ولا تمكين دون ابتلاءٍ، فهما وجهان لعملة واحدة، أو هذه بتلك؛ والتمكينُ خاص وعامٌ، وقد منَّ الله على سيدنا يوسف عليه السلام بتمكينه الخاص من قلب العزيز، ثم مكنه وهو في السجن، وبعد ذلك جاء التمكين العام فقال:” اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم”، وكأن الآيات توضح أنَّ مَن يأخذ بأسباب التمكين فهو حليفه، وقيل:” وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ”، ليس معناها تعبير الرؤى فحسب، بل أعم من ذلك، فتشمل تفسير الأحداث والوقائع وتوقع نتائجها، والتخطيط للنصر والأخذ بأسبابه؛ فالسننُ لا تتخلف.
ولا يخلو التاريخ من أحداث مشابهة يستفيد منها أولي النهى، وهذا ما يُطلق عليه (فقه الواقع)، ولابد أن يرتبط ذلك بالكتاب والسنة، مع الأخذ في الاعتبار واقعنا وقدرتنا، وحال أعدائنا.
الدنيا لا تزن عند اللهِ جناح بعوضة، ومِن هوانها عليه أن ترك كلاب المترفين فيها تشبع مع المترفين، وترك حملة الوحي فيها يهونون مع الوحي، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: اللهم آتني أفضل ما أتيته عبادك الصالحين! فقال:”إذن يُعْقرُ جوادك ويُراقُ دمك”! حتى الجواد يُقتل مع صاحبه، فلا يستوي جواد الفارس وقرينه الذي يجرُّ عربة بضاعةٍ، ومَن اصطفاه الله في الدنيا لا يرجع إلى الآخرة دون أداء رسالته، ولا يعود سالماً من طعنات الدنيا الغادرة، فقد مزَّقَ المجوسيُّ أحشاءَ عمر رضي الله عنه، وطعن ابنُ ملجم عليّاً وقُتل عثمانُ رضي الله عنهما، ولم ينجُ سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأوغاد الأمة تآمروا ويتآمرون على كلِّ شريفٍ فيها، ولا تزال سلسلة الشهداء تطول حلقاتها ما ظلَّ صراعٌ بين حقٍّ وباطلٍ.
وما أعلمه يقيناً أنَّ أتباعَ محمدٍ لا يُذلُّون، ولا يقْبلُون الهوانَ ما بقي فيهم رجلٌ، أو ظلَّت في نفسِ أحدِهم فضيلةٌ، أمرنا اللهُ بالجهادِ لنبلغَ دعوتَه في أصقاعِ الأرضِ، ونكونَ مصابيحَ هدايةٍ للبشرِ، لكن… آثرنا الفانيةَ على الباقيةِ! قعدنا وفتحَ الأعداءُ بلادنَا، وفتنونا في دينِنا، وأملوا علينا شروطَهم؛ حكمَ أجدادُنا بعدلٍ لا مثيلَ له في كلِّ الأمصار، والآن نُحْكَمُ بالباطل والقهر من بني جلدتنا؛ باعَ سلفُنا نفوسَهم وأموالهم ثمناً للجَنَّةِ، وزهدنا فيها ونبيعها لأجلِ حياةٍ ذليلةٍ وكراسي معدودات! عمائمُ ولا رجال، ولِحى ولا شيوخ، تصدعت قبابُ المنابر، ومادت أعمدةُ المساجد وتُنتهك المحارم، نقوى على الرقص والخنا ولا نقدر على الخيلِ والقنا، ولا نفرق بين ذباب الصيفِ وذباب السيف إلا من رحم.
وأكادُ أسمعُ مَن يهذي… ندعو ولا يُستجابُ لنا! ومن يهرفُ: لو كنتم على الحقِّ لنُصرتم! وثالثاً يقولُ: متى تتدخل عناية السماء فتقتص للمظلوم؟
فاعلم يا هذا أنَّ التدخلَ الإلهي في الأرض قدرٌ لا يحابي، وسنةٌ لا تجامل، ولكلِّ مسلمٍ منَّا دورٌ في الأحداثِ، ويتقررُ مصيره تبعاً لما يعلمه الله في قلبه ونفسه، وطبقاً لما صدر عنه من أقوال وأفعالٍ، “إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ”، ورحم الله مَن شعارُهم” أصلح نفسك وادعُ غيرك”، ومن يجتهد ويسعى لإصلاح قلبه وتهذيب سلوكه وفق عقيدة صحيحة ومنهج قويم سيجعله الله ستاراً لقدرته يحقق به الآمال المنشودة، ويمنُّ عليه أنْ يجعله في فسطاط الإيمان الذي لا نفاق فيه، أما الآخرُ ..الذي يعيشُ في غفلة, وقلبه لاهٍ عن الحقِّ, فسيكون مصيره فسطاط الكفر والنفاق الذي لا إيمان فيه، ولا فسطاط ثالث للذين أدمنوا أنصاف الحلول، فلا إنصافَ في أنصافٍ! وهذه هي فتنة الدهماء التي لا تترك أحداً إلا لطمته لطمةً، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويُمسي كافراً. والثابت يقيناً أنَّ المنافق يتألم كما المؤمن، لكنَّ المؤمن يرجو المغفرة والرحمة والثبات على الطريق والنصر، أما غير المؤمن فلا رجاء له، ولقد سُئل الإمام الشافعي رحمه الله: أيهما أفضل للعبد الابتلاء أم التمكين؟ فقال له: لن تُمكنَ حتى تُبتلى.
والذي وقع في أزمة، والذي غُيِّب في سجن، والذي طُرد من بيته، والذي ظُلم من جبار، والذي عاش في زمان الاستضعاف، كل هؤلاء قريبون من الله، فإذا وصلوا إلى مرادهم، ورُفع الظلم عن كاهلهم نسوا الله إلا من رحم، وقليل ما هم، وهذا سرُّ طول فترة الإعداد والبلاء وقِصر فترة التمكين والله أعلم؛ وأقول لكلِّ مُبْتَلَى: أبشر، فقد هيأ الله لكَ فرصة عبادة فاغتنمها قبل أن يُرفع البلاء، وتأتي العافية، فتنسى، وليس لك أن تنساه.
“إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ”، (غافر:51).