متي وكيف أعلنت جماعة الإخوان أن السلمية خيارها المعتمد؟

جاء ذلك – تدريجيا – مع عودة الجماعة لممارسة نشاطها العام في سبعينيات القرن الماضي بعد المحنة الناصرية التي امتدت لعقدين من الزمان، وكان الظرف العام الذي واكب عودة الجماعة هو الذي فرض عليها الإجابة على سؤال ” العنف / السلمية” والذي لم يسبق أن كان مطروحا عليها بمثل هذا الوضوح والإلحاح، وقد جاء هذا الإلحاح في ظل اعتبارين متباينين:

الاعتبار الأول: أن هذه العودة كانت مصاحبة لصحوة إسلامية عامة متنوعة التوجهات، احتوت – ضمن ما احتوت – على تنظيمات ذات طبيعة عنيفة مثل تلك التي قامت باقتحام الكلية الفنية العسكرية عام 1974 , والتي كانت وراء اغتيال الشيخ الذهبي عام 1977 ، وأكبرها كان تنظيم الجهاد الذي قام باغتيال الرئيس السادات وقتل العشرات من رجال الشرطة عام 1981، وبعد هدنة قصيرة عادت جماعات العنف لتمارس عملياتها في باقي سنوات عقد الثمانينات ثم في الجانب الأكبر من عقد التسعينات إلى أن أعلنت عن استسلامها في صورة “مراجعات” كما هو معلوم، ومن الجهة المقابلة, لم تتوان الدولة عن الإيغال في البطش بهؤلاء متجاوزة كل عرف وقانون. وقد فرض هذا المناخ على جماعة الإخوان المسلمين الحرص على إظهار تمايز منهجها عن هذه الجماعات .

الاعتبار الثاني:

مع نجاح الجماعة في تكوين قاعدة شعبية متنامية، وهيكل تنظيمي متطور خلال سنوات وجيزة من عودتها، شهدت المرحلة التالية انطلاقة واسعة لتواجدها على الساحات العامة بدأت مع مشاركتها في الانتخابات النيابية والمحلية منذ عام 1984، وتعززت مع مشاركتها الواسعة في أنشطة النقابات المهنية في مناخ عام بدا مشجعا إلى حد مقبول – على الأقل خلال المراحل الأولى – وقد فرض هذا التواجد على الجماعة تطوير خطابها العام لتصبح أكثر انسجاما مع مناخ هذه الساحات، وهو ما عزز من دواعي خيار السلمية لديها.

وبالطبع فقد جاء رد الجماعة على هذا السؤال منطلقا من الدروس والخبرات التي اكتسبتها من تجاربها الثرية سواء في عهد الإمام البنا أو المستشار حسن الهضيبي على النحو الذي فصلناه من قبل, وسنحاول تتبع مواقف الجماعة بخصوص مسألة العنف/ السلمية في عهود المرشدين الذين تولوا قيادتها تاليًا.

الأستاذ عمر التلمساني

كانت البداية مع التلمساني؛ أول مرشد للجماعة في عهدها الجديد, والذي كان يملك من السمات الشخصية ما يزكي خيار السلمية لديه، بالإضافة للاعتبارات الموضوعية الدافعة في ذات الاتجاه ( أنا أعارض فكر العنف في مواقفي كلها، وفي كتاباتي كلها، وأنا استنكرت وأستنكر بكل قوة العنف أو القتل أو الاغتيال … وما تركنا موقفا من المواقف التي تدعو لاستنكار العنف وشغب الجماعات إلا وقفنا بجانبه )[1] . ويؤسس التلمساني لموقف الجماعة تأسيسا ملفتا ( جماعة الإخوان أبعد الجماعات عن العنف، والسلف الصالح لا يرى أن يُقاوَم الحاكم بالسلاح حتى لو كان فاسقا أو ظالما، نحن ننكر هذه الناحية، ولم يحدث في يوم من الأيام أن بدأ الإخوان صداما … نحن لسنا في صراع مع أحد . كان الإمام الهضيبي ومن قبله الإمام البنا ينكران هذا كل الإنكار، وأنا بدوري اقتدي بهما وأنكر كل هذا، ولا أقر أي ظاهرة من ظواهر العنف في هذا البلد، أو أي بلد إسلامي بين حاكم ومحكوم)[2].

ولعل أستاذنا كان يريد أن يؤصل شرعًا ما استقر من قناعات لدى الجماعة من خلال تجاربها الصعبة, ومع هذه المنهجية السلمية فلا عجب أن ينتهي إلى أنه ( حتى لو وصل الأمر بهم إلى وضعنا في السجون فلن نصطدم )[3]

الأستاذ محمد حامد أبو النصر

يتولي الأستاذ محمد حامد أبو النصر مسؤولية الإرشاد العام بعد وفاة الأستاذ التلمساني عام 1986، ويستمر على الالتزام بذات المنهج, ففي عهده أصدرت الجماعة وثيقة ” الشورى وتعدد الأحزاب” عام 1994– والتي سوف نعرض لها لاحقا – ثم وثيقة ” هذا بيان للناس ” في إبريل عام 1995 والتي حددت موقف الجماعة من عدة قضايا حيوية كقضية الدين والسياسة، وقضية العمل السلمي ورفض العنف، وقضية حقوق الإنسان، وفيما يتعلق بالعنف فقد نصت الوثيقه على أن ( الإخوان المسلمون يعلنون في غير تردد ولا مداراة أنهم برءاء من شتى أشكال ومصادر العنف، مستنكرين لشتى أشكال ومصادر الإرهاب، وأن الذين يسفكون الدم الحرام أو يعينون على سفكه شركاء في الإثم, واقعون في المعصية, والأمر في ذلك كله ليس أمر سياسة أو مناورة ولكنه أمر دين وعقيدة يلقى الإخوان عليه ربهم )[4] .

ولعل هذا الربط بين الموقف من العنف والمنهج العقيدي كان من العلامات ذات الدلالة على مدى استقرار الخيار السلمي لدى الجماعة, ويميز الأستاذ أبو النصر ما بين أساليب المواجهة للأعداء الخارجيين وللخصوم المحليين (مع الاستعداد لقتال أعداء الله وأعداء الوطن في سبيل الله, فنحن داخل الدولة ندعو بالكلمة فقط )[5] , وهو المعنى عززه المرشدون اللاحقون.

الأستاذ مصطفي مشهور

في عام 1996 تولى الأستاذ مصطفي مشهور مسؤولية الإرشاد؛ ولرؤية الأستاذ مشهور اعتبارها في المسألة محل البحث, ليس فقط لكونه مرشدا عاما للجماعة، ولكن أيضا باعتباره من القيادات الأساسية للنظام الخاص؛ صاحب الدور البارز في مرحلة حيوية من تاريخ الجماعة على النحو الذي فصلناه. ويهمنا هنا أن نثبت كيف نظر مشهور لتاريخ هذا النظام والأحداث التي نسبت إليه بعد مرور كل هذه السنوات بحلوها ومرها، إذ يقول: (التنظيم الخاص بناه الأستاذ حسن البنا لتدريب الشباب على الحرب ضد اليهود في فلسطين، وقد قدم عددًا كبيرا من الشهداء نفخر بهم، ولم يقم التنظيم بأية عملية ضد أي مصري, وحوادث النقراشي والخازندار حدثت والجماعة غير موجودة تنظيميا، فقد كان قد تم حلها، واعتقال قيادييها، وأغلب كوادرها، وجاءت هذه الأحداث ليست تعبيرا عن الجماعة، ولكن باجتهاد أو تصرف فردي, وقد أعلن الاستاذ البنا وقتها أنهم ” ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين ” )[6] ونحن لسنا بصدد تمحيص هذه الأحداث، ولكن وجه اهتمامنا هنا أولا, هو كيف ينظر مرشد الجماعة عام 2002 لأحداث ذات صلة بمسالة العنف عاشها قبل ما يزيد على نصف قرن من الزمان، واهتمامنا ثانيا, بتأكيده مثل سابقه؛ أبو النصر على فكرة عدم قيام التنظيم بأية عملية ضد أي مصري، وأن مثل هذه العمليات تمت باجتهاد فردي بعد حل الجماعة. واهتمامنا هنا, أخيرا, بتمسكه ببيان الإمام البنا الشهير على ما تضمنه من إدانة بالغة القسوة لتصرفات بعض أفراد النظام الخاص.

على أننا وقد لاحظنا عند دراسة مرحلة البنا أنه راجع بعض أفكاره مع تطور مكتسباته وخبراته من خلال احتكاكه بمساحات من الواقع لم يسبق له الاقتراب منها, فلا حرج من أن نثبت ذات الملاحظة بخصوص أستاذنا مصطفي مشهور؛ ففي كتيب ” تساؤلات على الطريق ” والذي يبدو أنه جمع بعض مقالات سبق نشرها في مجلة الدعوة قبل إغلاقها في سبتمبر 1981 يتناول قضية رد العدوان فيقول ( إن البدء في رد عدوان أعداء الله لا بد له من توافر ظروف تجعله مناسبا, ولعل في موقف الإخوان في بعض أجزاء العالم الاسلامي رد واضح لهذا التساؤل ” إلى متي الصبر على الظلم والعدوان ؟ ” وأنه لا يمكن أن يظلوا هكذا يتلقون الضربات دون رد أو مقاومة.. فليطمئن المتحمسون، ولا يتسرع المتعجلون فالأمور تجري بالمقادير )[7]. ولعل الأستاذ يقصد موقف الإخوان في سوريا حيث كانوا يخوضون مواجهة شرسة مع نظام الأسد حينذاك، وقد استمر الأستاذ في تناول ذات المعنى بأساليب مختلفة وقتها, ثم تمضي السنون وتزداد احتكاكات قيادات الجماعة بمساحات جديدة من الواقع فيها إثراء لخبراتهم به، وكذلك تتعدد تجارب الحركات الإسلامية هنا وهناك، وتظهر مآلاتها بمرور الأيام, ومع تراكم هذه الخبرات والتجارب تتجدد الرؤى. انظر إلى الأستاذ مشهور بعد مرور عقدين من الزمان على طرحه السابق يعلن بوضوح فيما يتصل بمسألة رد العدوان ( نحن رفضنا العنف، ولن نرفع سلاحا للدفاع عن أنفسنا.. لكن أيضا لن نتخلى عن مبادئنا الأساسية)[8]

المستشار المأمون الهضيبي

ونأتي أخيرا للمستشار محمد المأمون الهضيبي, ورغم قصر الفتره التي قضاها في موقع الإرشاد العام, والتي لم تتعد 14 شهرا لكنه كان – كما هو معلوم – عنصرا مؤثرا في تحديد التوجه السياسي للجماعة طيلة عقدين من الزمان منذ دخوله مكتب الإرشاد في منتصف الثمانينيات. أنظر إليه وهو يلتقط دلالات فوز الجماعة في الانتخابات البرلمانية عام 1987 بـ 37 مقعدًا ضمن قائمة التحالف الإسلامي, بحيث مثلت كتلة نيابية ذات شأن – ويوظف ذاك الفوز في تعميق النهج السلمي للجماعة كحقيقة يعيشها أفرادها, وصورة ذهنية إيجابية لها لدى المجتمع: ( لا شك أن هذا الحدث – يعني الفوز في انتخابات عام 1987 – مثل قفزة غيرت وجه مسار الجماعة بتأكيدها أن العمل السلمي هو الأبقى, لقد أزاحت الجماعة بهذا الحدث عن وجهها كل الدعاوى الكاذبة التي تزعم أنها تشجع العنف والإرهاب، كما أن الإخوان أيقنوا حتمية الحفاظ على الأسلوب السلمي الديمقراطي لأنه يأتي بنتائج أفضل من أي اتجاه آخر)[9]. والحقيقة أن المستشار المأمون الهضيبي ترك تراثا ضخما فيما يتعلق بمسألة العنف / السلمية على مدار عقدين من الزمان، وأول ما يلفت النظر في هذا التراث ربطه بين موقف الجماعة من العنف ونهجها العقيدي؛ انظر إليه وهو يعبر عن هذا الربط في تعليقه على تفجيرات 11سبتمبر: ( نحن من جانبنا رفضنا ونرفض ما حدث من تفجيرات في 11 سبتمبر، هذا أسلوب مرفوض نهائيا عند الإخوان، ومن قبل أحداث 11 سبتمبر رفضنا كل أحداث العنف والاغتيالات، وأكدنا أن ذلك – في عقيدتنا المستقرة – غير مسموح به في ديننا على الإطلاق)[10] ويربط في مناسبة أخرى بين الموقف من العنف وبين منهج الجماعة العقيدي: ( لنا في العنف بيانات طويلة, والأهم من هذه البيانات, منذ ثلاثين أو أربعين عاما، ومنذ خروجنا من السجون لم يرتكب إخواني واحد أي عمل من أعمال العنف … هذا منهج عقيدي)[11] .

أما الفكرة التي سبق أن عرض لها كل من المرشدين أبو النصر ومشهور حول أن القتال إنما يكون في وجه المعتدي الأجنبي لا الخصوم المحليين، فقد تناولها الهضيبي بمزيد من التقعيد والتفصيل لتصبح بمثابة ضابط لمبادئ السياسة الشرعية التي تلتزم بها الجماعة, فيقول في حديث لوكالة رويترز: (الجهاد بمعنى القتال لا يطبق إلا لمحاربة القوات الغازية, في حين أنه يمكن تطبيقه في مصر بأشكاله الأخرى التي يمكن أن تشمل الدعوة ومعارضة الحكومة بالوسائل السلمية. يمكن الجهاد بالكلمة والدعوة وشرح المقاصد؛ كل هذا جهاد. كما أن معارضة السلطات حتى لو أدى ذلك إلى قتل المعارضين جهاد )[12] . ثم يؤكد على ذات التأصيل الشرعي من مدخل آخر: ( لابد من التأكيد على محْكمات الإسلام، وعلى ما شرعه الله عز وجل ونبيه صلى الله عليه وسلم من الفرق الواضح بين الأرض التي احتلها أعداء الإسلام ودنسوها والأرض الأخرى؛ ففي الأرض المحتلة يصبح الجهاد فرض عين على أهلها، وعلى المسلمين في كل مكان أن يعينوهم, أما الأرض الأخرى التي يقوم فيها أولياء الأمور بالحكم مهما كانت أوضاعهم وأحوالهم فلا يجوز فيها استباحة دم ولا مال ولا عرض، وإنما الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن حتى يتم التغيير وتعود الأمة إلى شريعة ربها وسنة نبيها. وقد جاءت سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم موضحة ومبينة لهذا الأمر, فقد ظل 13 عاما يدعو إلى الله من مكة وما رفع سيفا، ولا رد يدًا, ولما هاجر إلى المدينة، وأصبحت للإسلام أرضا خالصة، أنزل عليه ربه ” أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا..” فكانت غزوة بدر وما بعدها. ومن هنا فالدماء لايحلها فرد ولا جماعة، وإنما إمامة أو حكومة تدفع غائلة الغاصب والمعتدي، أو قاضٍ يحكم بالقصاص بعد البينات والشهود, وإلا تكون الفوضي والهرج والمرج)[13] .

وإزاء هذا التقعيد والتأصيل للموقف من مسألة العنف /السلمية فإن المرء لا يستغرب ما يرويه الأستاذ الإعلامي حازم غراب عما جري عند تلميح البعض من أفراد الإخوان بفكرة اللجوء للعنف في أعقاب قيام مبارك بإحالة قيادات الجماعة للمحاكم العسكرية في منتصف التسعينات, فكان رد المستشار الهضيبي حاسما: ( لن ننجر إلى العنف ولو علقونا على أعواد المشانق .. من لا يعجبه هذا من الإخوان، فالباب مفتوح على مصراعيه للخروج من الجماعة )[14] .

[1]  ) عمر التلمساني – حوار مع مجلة المصور 22 -1 – 1982 – عن كتاب أيمن الظواهري: الإخوان .. ستون عاما من الفشل – ص 71

[2] ) عمر التلمساني – حوار مع مجلة المجلة 29 – 12 – 1984 – عن كتب السيف والطاغوت لصالح الورداني

[3]  ) عمر التلمساني – حوار مع مجلة المجلة   2 – 7 – 1985 عن كتاب الصاد المر لأيمن الظواهري ص 69

[4] ) جمال البنا – من وثائق الإخوان المسلمين المجهولة – الجزء الخامس – ص 430

[5]  ) محمد حامد أبو النصر – حوار مع جريدة النور – ربيع الآخر 1407 – عن كتاب الظواهري السابق – ص 74

[6]  ) مصطفي مشهور – حوار مع جريدة الشرق الأوسط – 9 – 8 – 2002

[7]  ) مصطفي مشهور –   تساؤلات علي الطريق

[8]  ) مصطفي مشهور – حوار مع جريدة الشرق الأوسط   9 – 8 – 2002

[9]  ) مامون الهضيبي – شهادات ومواقف تاريخية 28 – 8 – 2003

[10] ) مامون الهضيبي – حوار مع مجلة المجتمع الكويتية 9 – 3 – 2003 – عن موقع الشبكة الدعوية

[11]  ) مامون الهضيبي – حوار مع جريدة الشرق الأوسط – 4 – 7 – 2003

[12]  ) مامون الهضيبي – حديث مع وكالة رويترز – القدس العربي   8 – 5 – 2002

[13]  ) مامون الهضيبي – حوار مع موقع حقائق مصرية 21 – 5 – 2003 – عن موقع الشبكة الدعوية

[14]  ) مامون الهضيبي – نقلا عن مقال حازم غراب – رسوخ سلمية الإخوان – بوابة الحرية والعدالة   22 – 4 – 2014

شاهد أيضاً

بعد موقفهما تجاه ليبيا.. محاولات لبث الفتنة بين تركيا وتونس

منذ أن بدأ الجنرال الانقلابي خليفة حفتر محاولة احتلال طرابلس في إبريل الماضي، لم تتوقف …