كلما أمعنا التدقيق في محاولة الانقلاب التركي الفاشلة ليلة الجمعة قبل الماضية، كلما ازداد توهج الدروس المستفادة منها.
دروس مستفادة من تاريخٍ عملي معاصر لتركيا أمتد لقرابة ثلاثة عشر عاماً، استطاع خلالها حزب “العدالة والتنمية” بحسب “واشنطن بوست” مؤخراً تغيير التصور الإسلامي عملياً في اذهان وواقع الشعب التركي، كما نجح الرئيس رجب طيب أردوغان مقابل “تمتمة” النخب اليسارية والعلمانية الدائم دون قدرة تذكر على التغيير، أو محاولةٍ للنهوض بتركيا أتت ثمرها.
شعر حتى أعداء “أردوغان” فكرياً بأنه استطاع تقديم شىء يتجاوز أكثر من نصف قرن عاماً من الانقلابات وتدخل العسكر بالوعود المزيفة الذي لم يسفر إلا عن تردي الأمور المعيشية بالبلاد في (1960، 1971، 1980، 1997) بمعدل مرة كل عقد زمني، وقيل بمحاولة تبددت عام 2012 أيضاً.
(1)
أما أول الدروس التي تنطلق منها المحاولة الانقلابية الفاشلة هنا واجتياز حزب “العدالة والتنمية” لساعات بالغة الحرج ما تزال آثارها ممتدة فهي أن “سنن الله” الكونية تلك التي لا تحابي ولا تجامل أحداً؛ ومنهم أو فلنقل, وأولهم المسلمون، تلك السنن اقتضت أن من عمل وأجاد في منظومة الجد فإن الله يرفع أصحابها ويمكنهم في الدنيا، تلك السنن التي جعلت الغرب يسود اليوم فيما يتأخر المسلمون, بل يسقطون من فوق السلم العالمي منذ قرابة قرون ثلاث ويُسمعٌ لتدحرجهم دوي رهيب برأي الراحل الشيخ “محمد الغزالي”، رحمه الله.
سنن الله الكونية بدأت تأخذ بيد تجربة إسلامية مدنية نحو خطوات حضارية أوسع، على النقيض مما يراه منقبضو الصدر أو المتشائمون من واقع الأمة الحالي، وكأن يد رب العزة، وسبحانه لا شبيه له ولا ليده، تُبارك جهد مسلمين استطاعوا العبور بتجربتهم نحو أبواب النجاح.
مصداق تمام هذا على أرض الواقع هو قول رئيس الوزراء التركي صباح السبت الماضي: “الحمد لله الذي وفقنا للتغلب على هذا الانقلاب”.
(2)
الرئيس أردوغان؛ الذي ما قصر في الأخذ بالأسباب في حدود علمه، بذل الوسع الحقيقي، الذي يتشدق به بعض المنتسبين إلى الإسلام دون عمل مناسب، وحينما يبذل مسلمٌ ما بوسعه يدخل في وسع الله تعالى، حقيقة رأينها مؤخراً في نجاة “أردوغان” من اقتحام بل محاولة قصف الفندق بـ”مرمريس” قبل قرابة أربعين دقيقة فحسب من ساعة الصفر الانقلابية، وكان اغتياله، لا قدر الله كفيلاً بإحداث تغييرات لا يعلم إلا الله مداها في تاريخ تركيا والأتراك بل الأمة.
(3)
وكما يربو الله في جهود الغربيين ويؤتيهم ثمرة العمل، ويخفضهم نتيجة الأخطاء، فإنه ليحنو عز وجل على السائرين إليه، ويعيد الاتزان إلى “كونه” بإلهام بعض عبيده السير في الطريق الصحيح المؤدي إليه، وإلى مقومات السيادة المتدرجة بالدنيا، وعنصر الاعجاز هنا أن يتأتى هذا من مسلمين غير عرب، مصداقاً لقول الرسول، صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه: “بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء” رواه مسلم.
(4)
يوم معركة بدر وقف الرسول العظيم يدعو الله، حتى ليبدو بياض أبطيّه وهو يردد:
ـ اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض بعد اليوم. رواه البيهقي.
ومع الفارق الكبير؛ فإن الله لم يكن ليترك نور هديّه، والتجارب السائرة إليه لتخبو في الأرض كلها، ومع أن البشر يصيبون ويخطؤون إلا أن غلبة الإخلاص ومحاولة التجرد لله، أشعرت المخلصين في مشارق الأرض ومغاربها أن الله لن يخذل التجربة التركية في الدقائق والساعات المريرة التي صعدت فيها آلاف الدعوات إلى رب العزة بحفظ العدالة والتنمية والرئيس “أردوغان”، ورغم أنهما غير مبرئين من الخطأ إلا أن القلوب التي رأتهم يأخذون بجانب الأسباب، ويستقبلون المهجرين المظلومين, ذابت شفقة إلى الله من ضررٍ يصيب بلدًا تؤوي الضعفاء وتحاول احتواءهم فضلاً عن محاولتها إعلاء رايةٍ ليس غيرها تقريباً خفاقاً في الأرض اليوم.
(5)
ومع ازدهار منظومة الوعي في النفوس المرتبطة بربها بوجه خاص، ولدى الشعوب بوجه عام يكون الوقوع في نفس الخطأ مرات عديدة صعبا بمكان، فإن شعباً رأى في تدخل الجيش عام 1960 حفاظاً على علمانية الدولة ومبادىء “مصطفى كمال”، وعام 1971 حلاً لأزمة اقتصادية طاحنة، وعام 1980 راحة من صراع بين اليمينيين واليساريين راح ضحيته عدد غير قليل، وعام 1997 استجابة للنخب النسائية والعلمانية .. لم يكن ليذق كأس الهوان والمرار بتدخل الجيش مرة خامسة.
هنا تنضج ثمرة الوعي، ورغم الأخطار نؤمل في سنة الحفاظ البشري على المنجزات، وإيذان رب العزة بهذا، فإن مصر التي دخلت دوامة الانقلاب منذ عام 1952م, شحّت منها العقول والأرض والبلاد ولم تستفد من مرارة التجربة.. إلا أن يأذن الله أمراً.
(6)
ليست القوة هي الحاكمة بحال من الأحوال في ملك الله، مع اتخاذ الحيطة والحذر ثم التوكل عليه تعالى، فلما اجتهدت العقول التركية، وأحسنت التدبير استطاعت الوقوف أمام سيناريو نجح أربع مرات في نفس البلد لأن اتخاذ الأسباب لم يكن على نفس المستوى، لكن لما أيقن الآلاف ضرورة العمل للحفاظ على مكتسباتهم، ونضج التناغم بين الشعب والفئة المعدة لمثل هذا الموقف “الأمن الداخلي” جاءت المعية والحفظ والتوفيق الإلهي الذي نتمناه لكل المنتسبين لرب العزة.
(7)
الحفاظ على النفس من أسمى أغراض الشريعة الغراء، وكل ما سبق يصب في هذا المنجز الحضاري، فإن دون 300 نفس تركية، نسأل الله تقبلهم في الشهداء استطاعوا الحفاظ على أرواح 79 مليون تركي ..في ليلة حفظ الله فيها تركيا .. نتيجة منظومة الأخذ بالأسباب .. بل علّمت العالم أن تجربة إسلامية يمكنها الاستمرار إذا ما أجادت الأخذ بمتطلبات الحضارة، ومن قبل تقديم دينها على نحو مشرق، وهي التجربة التي نسأل الله واثقين من الإجابة أنه لن يخذلها .. ونتمنى على وطننا العربي الإسلامي الاستفادة من دروسها المختلفة.