محمد ثابت يكتب: خطيئة هشام جنينة .. وإنسانية ناجي دربالة!

يستهويني حتى الأعماق؛ الإنسان. أبحث عنه مدى ما وهبني الله من أنفاس تتردد في الصدر، وما كتب لي من هنيهات حياة فوق ظهر هذه الأرض، أجد في الكلمات الخالصة الصادرة من القلب علاجاً لكثير من أدواء وأمراض الروح، والعلاج الأخير لا يُباع في صيدليات العالم الكيميائية التي إن شفتْ من أمراض أصابتْ بأخرى، وإن تكن لصاحب هذه السطور تجارب حياتية كثرتْ ام قلتْ إلا إن عبق ورائحة الإنسان .. بما يحمله من ضعف يغالبه، وقوة يحاول التحلي بها، وصراعات خفية غير معلنة، ورغبات دفينة مهما حاول إخفاءها تظهر على السطح برغمه، هي أفضل ما تعلم، وأفضل الذين تعلمتُ منهم السمو، وتناولتُ عنهم هذا الدواء، أولئك الذين تساموا في جراحهم، مهما كانت عميقة، وربوا وهذبوا نفوساً كان من الممكن أن “تجنح” خلف الحياة الدنيا فتتوه طويلاً .. وربما لا تُفق حتى قرب الوفاة، وكم من البشر فعلوها!                                       

(1)

مساء  الاثنين 29 من مارس وجدتْ “صنفاً” راقيّاً من دوائي المُفضل فانتعشتْ الروح، وتألقتْ النفس، وعاد الوجدان إلى أعلى درجات السمو، وارتاح العقل، وتوسم القلب خطى عظماء البشرية لما استمعتْ إلى قول المستشار “محمد ناجي دربالة”، الذي كان نائباً  لرئيس محكمة النقض، وتشرف بالعزل عن القضاء لمناصرته الشرفاء في مصر، قال المستشار دربالة: 

ـ إن مهنة القضاء هي المهنة التي أجيدها ولا أجيد غيرها من مهن الدنيا، ولولا أن أهلها أخرجوني منها ما خرجتْ .. ولكني أثق في الله ثم في آلاف القضاة ليقترب أوان عودتي إلى منصة القضاء!                                                                      

والكلمات عقب إحالة المستشار “دربالة” و32 قاضياً إلى المعاش ليكون أول قاضٍ في التاريخ يُعزل من منصبه مرتين في أسبوع، القضية الأولى: “قضاة من أجل مصر”، والثانية: “بيان رابعة”، وكانت تكفيه قضية واحدة!                        

أما كلمات الرجل من أن مهنة القضاء المهنة الوحيدة التي يجيدها ..فكلمة مُسلّمٌ بها لدى كل مؤمن برسالته، يحاول بشتى الطرق الاخلاص في عمله، موقناً بأن الأمم لا تتقدم إلا بسيرها في طريق “التخصص”، فالرجل ليس “الفهلوي” الذي يجيد مهنة وأخرى، ويرتاد “علب الليل” كذلك الذي لفق له التهم، وتم تعيينه وزيراً للعدل، ثم فضحه الله فأقيل بعدما رفض الاستقالة، بعد أن زلّ لسانه فسب النبي، صلى الله عليه وسلم، فحكم على نفسه بالإقالة وأحرجها كما أحرج “أسياده”!   

يقول المستشار “دربالة”: لا أجيد من مهن الحياة الدنيا إلا القضاء .. كلمات لا تحتاج إلى علامات تنصيص إذ إنها تفوق علامات التنصيص لتقول إن مهن الدنيا تتلاشى أمام مهن الآخرة، وياله من زوال .. وياله من رقي ورفعة في اللفظ .. وسمو في المعاني.                            

(2)

المستشار “هشام جنينة” تمتْ إقالته في نفس يوم الاثنين الماضي، وهو رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات الذي عينه الرئيس محمد مرسي في منصبه بدرجة وزير في 6 من سبتمبر 2012م، والجهاز يخضع مباشرة لرئاسة الجمهورية، وكان المستشار جودت الملط قد استقال منه في مارس 2011م، وشغلته بصورة مؤقتة السيدة منيرة أحمد، ولم يكن لا الدستور الانقلابي “2013م”، ولا دستور “2012م” يجيز لقائد الإنقلاب عزل المستشار جنينة، واضطر السيسي أمام ذلك في يوليو 2015 لإصدار قانون “مفصل على مقاس” إقالة الرجل باسم “إقالة رؤساء الهيئات المستقلة”، ووافق عليه مجلس الشعب الانقلابي.. وبمقتضى القانون أقيل أحد رموز تيار استقلال القضاء في نفس يوم الإقالة الثانية لـ”دربالة” لكن الفارق هائل.                           

حاول المستشار “جنينة” التوافق مع “الوضع” بعد الإنقلاب، فكانت خطيئته التي لم تُبق له، وهو مّنْ هو، رمز من رموز تيار الاستقلال،  فقال مما قال، في حوار مع جريدة “الوفد” في 30 من نوفمبر 2013م إنه وضع روحه على كفه في 30 يونيو تنفيذاً لإرادة الشعب، في عبارة منقولة “بالمسطرة” عن أكاذيب “السيسي”، بل راح يتمادى في وصف الرئيس “مرسي” بالمعزول، ويعدد في نفس الحوار أخطاء الرئيس “محمد مرسي” التي عابها عليه في حكمه إلا أن الأخير لم يستمع إليه!                    

في 12 من يوليو 2015م صرح المستشار “جنينة” فيما نقله عنه موقع “مصر العربية” إنه لا يمكن عزله بقانون “السيسي” مشيراً، مرة أخرى، إلى معارضته الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس “محمد مرسي”، ثم إن المستشار “جنينة” في 23 من ديسمبر 2015 فيما نقلته عنه صحيفة “اليوم السابع” قال إن تكلفة الفساد في مصر تجاوزت 600 مليار جنيه في 2015م فقط، والسنة لم تكن انتهت, مشيراً إلى فساد القضاء والداخلية تحديداً، وأن أجهزة رقابية تتستر على هذا الفساد.

واكتملتْ “منظومة” قيامة الدنيا الانقلابية عليه  وكأن “جنينة” المُعلن عن الفساد هو الفاسد، وكأن 600 مليار جنيه منتهى فساد مصر في عام، فتمادوا في القول بأنه خلية إخوانية نائمة، وإن اقالته اقتربت أكثر.. ولم ينفع الرجل تصريح آخر بأن الفساد المذكور في 4 سنوات، بما فيها عام حكم الرئيس “محمد مرسي”.

وكما لم ينفعه القول بأن “السيسي”، لن يسمح بإقالته ويتركهم يذبحونه لمجرد تصديه للفساد، لم ينفعه القول بأن لديه مفاجآت سينشرها عقب الذكرى الخامسة لثورة يناير، كما لم ينفعه اعترافه بـ 30يونيو كثورة!                                                                                                

السبت الماضي, كرم المستشار “جنينة” زوجة النائب العام الراحل “هشام بركات” في محاولة أخيرة لنيل رضا النظام الانقلابي، لكن تم استدعاؤه لنيابة أمن الدولة بعد صدور بيان منها يخصه، وبعد منع النشر في قرارات اللجنة التي اعلنها “السيسي” للتحقيق في تصريحاته عن الفساد ومراجعة المستندات. لجنة من الوزارات التي أعلن جنينة فسادها!

مشكلة المستشار “جنينة” أنه، كما قال أحد الأصدقاء، أراد الوقوف في المنتصف بين مبادئه والظلم المنتشر في مصر، أي يكون رمادي اللون في وقت لا مجال فيه إلا للمفاصلة بين العبودية والتحرر، مناهضة الانقلاب أو الاعتراف به، الحياة أو الموت، وكم كنتُ أحب له أن يأخذ موقفاً واضحاً منذ البداية، منذ علم على وجه اليقين إنهم “ذابحوه” لا محالة.. وساعتها كان يحق له أن يفتخر كما فعل المستشار “دربالة” إنه بيدي لا بيد “عمرو” .. في إشارة إلى إنه يشرب السم ولا يقتله عدوه..!

(3)

لم يستقل المستشار دربالة لكن يكفيه شرفاً أنه لم يرض بالظلم ولم يمدح الظالمين، وإنه أعلن الوقوف عند مبادئه، دون مليمتر إلى الخلف، او اعتراف بـ”ظالم”، ولم يتنازل عنها قابلاً بسب الذين جاهد من أجل أن يرى مصر في ظلهم بريئة طاهرة نقية .. فيما ارتضى غيره منتصف الطريق والتلاقي مع الانقلاب والظلمة في المسافة التي ظنها تحتمل “مبادئه” و”المنصب” ومن آسف لم ينل الأخير على الأقل..!      تُرى كم من مستشار وإعلامي ووزير ورئيس وزراء ومقرب من الرئاسة، مهما كان مسماه الوظيفي سيخسر منصبه عما قليل ليخسر كرامته أمام نفسه وأهله .. ولا يكسب من الإنقلابيين سوى الندامة .. أُبشر الكثيرين, فقد فعلها “السيسي” مع وزير داخليته؛ شريكه في “حمام الدم” “محمد إبراهيم”، وفعلها مع رئيس وزراء تفكيك مصر “إبراهيم محلب”، ومع سابقه أول رئيس وزراء له، ذلك الذي لا يذكر أحد له اسماً إلا بالكاد “د.حازم الببلاوي”، ومع “د.حسام عيسى” الذي أعلن الإخوان جماعة إرهابية قبل أي تبرير قضائي.. وضحى بتاريخه مقابل أن يستمر وزيراً كقطعة الشطرنج فلم يستمر، ومع “درية شرف الدين” التي أرادت أن تظل وزيرة إعلام فما دامت لها الوزارة ولا غيرها.. والقائمة تطول جداً .. ويا كل مَنْ خان .. أُبشركَ.. عما قريب يأتيك الدور .. ولو كنتَ قائد الإنقلاب .. وإن غداً لناظره قريب!

شاهد أيضاً

أ.د. إسماعيل علي يكتب : هل يستحق الإخوان المسلمون (العفوَ) مِن السيسي؟!!!

بعد ثورة_25_يناير 2011، مارَسَ الإخوانُ المسلمون حقَّهم المشروعَ ـ بل واجبَهم المنتظَرَ منهم ـ فتقدموا …